أضفى أهل المكان على المؤتمر السادس عشر للمجمع العربي للموسيقى جامعة الدول العربية الذي استضافته وزارة الاتصال والثقافة الجزائرية طابعاً أرادوه دالاً إليهم، لجهة ارتباط المحور الفكري للمؤتمر والمهرجان المقام على هامشه بموسيقاهم الموروثة الأصيلة الممتدة الى خزين الموسيقى الأندلسية وأشكالها التي تموضعت لاحقاً بحسب بلدان المغرب العربي. وكان لافتاً ان يخص الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة ممثلي سبع عشرة دولة عربية تنتظم في "المجمع العربي للموسيقى" بحديث كان جلّه قائماً على الموسيقى الأندلسية، إذ قال "الوتر الذي أضافته الموشحات الأندلسية الى قيثارة الغناء والموسيقى العربية، من أعز الأوتار وأغلاها وأغناها، وإنه بحق فتح آفاقاً فسيحة امام الموسيقى العربية، لم تكشف كل أبعادها الى اليوم". الرئيس بو تفليقة قارب الموسيقى الأندلسية التي تنادى أكثر من عشرة باحثين من الجزائر والدول العربية للبحث في بناها وأشكالها وقدرتها على أن تظل حاضرة الى اليوم، بقوله: "إنها تبعث في نفسي شعوراً غريباً يختلط فيه الفرح والترح، وخفة وأنّة الحزن الشجية، وكأن أصحابها منذ الرواد الأوائل أرادوا أن ينقلوا إلينا أحلامهم وشعورهم بقصر الحياة"، مؤكداً أن "الموسيقى والغناء الأندلسيين يبعثان دائماً في النفس شعوراً وأحاسيس غريبة لا أجد لهما تفسيراً شافياً إلا إذا قرنتهما بمنبتهما وبمنبعهما، وما آلا إليه من زوال وضياع". وفي حين غابت المقاربة السوسيولوجية عن أوراق الباحثين الذين استغرقوا في إعادة تداول ما كتب وقيل في الموسيقى الأندلسية من قبل، فاجأ بوتفليقة المندوبين العرب والجزائريين بقوله: "النغمات التي تنبعث من الحناجر والآلات الأندلسية تعبر، فضلاً عن الرقة والمرح والفرح، تعبيراً عن الفردوس المفقود". إلا أن ما بدا جديداً في البحث الموسيقي العربي في مؤتمر الجزائر، اندراج عدد من الباحثين الجزائريين الشبان في تقديم اقتراحات ورؤى حاولت ان تقرأ الموروث النغمي الجزائري بحسب تموضعاته المكانية. همزة الوصل التي أرادت الجزائر تشكيلها في مؤتمر تضمن بحثاً في قضايا داخلية تخص "المجمع العربي للموسيقى" وأبرزها انتخاب هيئة الأمانة العامة والرئاسة والمجلس التنفيذي، جاءت وسط رؤى لباحثين انقسموا في شأن الموسيقى الأندلسية وأصولها. فهناك من رأى أنها انتقلت من المشرق بعد انتهاء العصر الأموي، وهناك من اعتبر أنها توطدت بملامح المغاربة العرب الذين أرسوا الوجود العربي في الأندلس، ثم أتى من إسبانيا من قال إنها موسيقى سكان البلاد الأصليين، فيما أضفت الروحية العربية عليها ملامح جديدة ضمن اتصال ثقافي لم يكن قسرياً. "مهرجان الموسيقى الأندلسية والموشح" الذي شهده مسرحا "قصر الثقافة" و"المسرح الوطني الجزائري" قارب هذه الرؤى، فجاءت عروض من الجزائر والمغرب وليبيا ومصر والكويت والعراق. "الصنعة" و"المالوف" أو "المألوف" شكلان من الأشكال السائدة في الجزائر للموسيقى الأندلسية، حضرا مثلما حضرت "النوبة" ضمن أطوارها المختلفة في عرض الفرقة المغربية. يرى الباحثون ان "نوبات" الموسيقى الأندلسية كانت 24 وعلى عدد ساعات اليوم، إلا ان ما بقي منها اليوم تسع فقط. وفي أداء الفرقة الليبية، تأخذ ملامح الموروث الأندلسي في بلاد الجبل الأخضر طابعاً إيقاعياً ما يجعل من "المألوف" الليبي صوغاً محلياً مميزاً للنغم الأندلسي. وبينما كانت فرقة الموسيقى العربية مصر تقدم الموشح بحسب أداء لا تخفى مشرقيته، فاجأت "فرقة بابل" العراقية الجمهور بتقديم أغنيات لا علاقة لها بالموشح، فحرصت على تقديم نماذج من الموروث الغنائي المديني والريفي العراقي. وزادت الفرقة الكويتية الموضوع لبساً حين قدمت اغنيات كويتية معاصرة بدت طارئة على تظاهرة موسيقية عربية تبحث في إعادة فحص الموروث وسبل تقديمه. ولولا أغنية "صوت السهارى" التي تعد من عيون الغناء الكويتي وأصبحت من موروثه، لكان الأمر ثقيل الوطأة. الجزائريون والموسيقى الأندلسية عناية الجزائريين بموروثهم النغمي الأندلسي تنشط في غير مجال، وإن كانت الدراسة في الكونسرفاتوار الوطني تذهب الى "تغريب" الموسيقى. هناك الموروث الأندلسي، بحسب أداء مدينة عنابة، وثمة آخر بحسب أداء مدينة قسنطينة، وثمة أداء الجزائر العاصمة. بينما تعرف أهل المؤتمر الموسيقي العربي الى تجربة غنية الإيحاءات توفرها "الجمعية الغرناطية" في مدينة القليعة القريبة من العاصمة. فهي جمعية تشكلت من محبي الموسيقى الأندلسية وحراسها في المدينة من موسيقيين وشعراء وكتّاب، وتوجه خدماتها الى أجيال ناشئة من مراحل عمرية مختلفة تغذيهم لا موسيقى الأندلس وحسب، بل ومعارف الأندلس وعمارتها، وأزياؤها. فالصغار من بنات وشبان يلبسون في دروسهم أزياء الأندلس، وبناء الجمعية مستعار من عمارة غرناطة وملامح منازلها، فتتطابق الأنغام مع بيئتها في جو شديد التآلف. التربية الموسيقية: كلام مستعاد حين انبرى الباحثون المختصون بالتربية الموسيقية من الجزائر والمغرب ومصر والأردن ولبنان وسورية والعراق في اليومين الثالث والرابع للمؤتمر للبحث في قضايا التربية الموسيقية، توقع المنظمون وأعضاء لجنة التربية الموسيقية في "المجمع العربي للموسيقى" ان تتحول الأبحاث والقراءات توصيفاً دقيقاً لحال التربية الموسيقية في البلدان العربية، وصولاً الى تحديد نهج متكامل يمكن صوغه بمرونة تتيح لكل بلد تنفيذه بحسب نظامه التربوي. إلا أن مثل هذه الآمال ضاعت مع كلام لا جديد فيه، فضلاً عن فقدانه اي مرجعية منهجية، حتى ليبدو السؤال: هل هناك ثمة فكر للتربية الموسيقية في الدول العربية؟ سؤال أقصته أوراق بدت أشبه بحكايات شخصية لأصحابها، في طريقة تدريسهم الموسيقى للمراحل الدراسية، وكيف تمكنوا من صوغ تظاهرات طالبية موسيقية للأعياد الوطنية والدينية في دولهم! مفترق طرق بدا واضحاً أن "المجمع العربي للموسيقى" الذي يعد التجمع الأكاديمي الأبرز للموسيقيين العرب يعيش منذ مدة لحظة الوقوف عند مفترق طرق. ففيه اتجاه محافظ يعمل على إبقاء "المجمع" في "برجه العاجي" مشيداً بأصالة الموسيقى العربية من دون الخوض في اتصال ممكن مع راهن هذه الموسيقى وما وصلت إليه فعلاً. واتجاه آخر بدأ يعمل على إنضاجه الأمين العام للمجمع كفاح فاخوري ورئيسته الدكتورة رتيبة الحفني، ويؤكد أن "المجمع العربي للموسيقى" مؤسسة اكاديمية فاعلة في الموسيقى العربية موروثاً وراهناً. وخلال السنوات الثلاث الماضية من عمل هذا الثنائي والتفاف عدد من ممثلي الدول العربية حوله أمكن الوصول الى إنضاج عمل منفتح على تيارات الموسيقى العربية، فبدأت مسابقات سنوية للعازفين على الآلات الموسيقية العربية، وتظاهرات غنائية يقيمها اصحاب التجارب الغنائية والموسيقية الرصينة لمصلحة المجمع أنجز ذلك المطربون: كاظم الساهر وهاني شاكر وصباح فخري وعازف العود نصير شمة. وبدأ "المجمع" بمنح جائزته السنوية لأسماء ومؤسسات موسيقية عربية رائدة. وعكس التحول اللافت في مجلة "الموسيقى العربية" التي يصدرها "المجمع" وانتقالها من مجلة نخبة موسيقية الى مجلة تعرف بالموسيقى العربية وتجاربها الموروثة والمعاصرة الى القارئ العادي، انفتاحاً من الأكاديمية الموسيقية العربية على الحياة ووقائع موسيقاها المضطربة وصولاً الى ترسيخ ما هو جيد ونافع وتقديم العون الى الجمهور العادي في التمييز بين الغث والسمين في النتاج الموسيقي والغنائي. وحيال نتائج مثمرة في هذا الجانب لم يتردد ممثلو الدول العربية في مؤتمر الجزائر بالتجديد لفاخوري الأردن والحفني مصر في أمانة المجمع ورئاسته، بعد انتخاب نافس فيه فاخوري كل من الدكتور محمد غوانمة الأردن والدكتور علي عبدالله العراق، فنال فاخوري 11 صوتاً، وغوانمة ثلاثة وعبدالله مثلها، فيما انتخبت الحفني بالإجماع، بمبادرة من ممثل الجزائر والعنصر الباذل في المؤتمر السيد الأمين البشيشي الذي انتخب نائباً أول للرئيس. كذلك انتخب السيد محمد احمد جمال البحرين نائباً ثانياً.