قبل سنواتٍ خلت جرت آنذاك معركة صحفية شهيرة بين الأديب والباحث د. عبد الرحمن الرفاعي (و 1952 م) والمؤرخ د.عبدالرحمن الأنصاري (و1935م) حول علاقة الأدب لدى الشعوب الشمالية والجنوبية، حيث يذكر الأنصاري أن الأدب قد جاء إلى الجنوب متأثراً بأدب الشعوب الشمالية، لكن الرفاعي رد بإثباتات أن الأدب قد بدأ لدى الشعوب الجنوبية ثم انتقل للشمال. ومن جملة ما رآه الرفاعي في أن أصل الموشح الأندلسي يمني، وله كتاب جميل من مطبوعات نادي جازان الأدبي سنة 1402ه بعنوان "الحميني الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي"، وكان من مراجعه "شعر الغناء الصنعاني" للمؤرخ الشهير د. محمد عبده غانم (1912-1994م) حيث يذكر الرفاعي في كتابه المشار إليه تحت عنوان "حقائق ارتباط الحميني بالموشح، الحقائق التاريخية" أنه في إلقاء نظرة فاحصة منصفة على فني الموشح الأندلسي والحميني في اليمن تتجلى حقيقة الارتباط بين هذين الفنين, وأن الحميني هو الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح وأن الحميني هو الارتباط الطبيعي لفن الموشح الأندلسي، وهو قول بناه على براهين أثبتت له أن الحميني هو الامتداد الطبيعي والمهد الأصيل للموشح وهذه البراهين ترتكز أساساً على قاعدة لا تحتمل - كما يرى - شكاً أو ريباً وهي: أن الموشحات في الأندلس ابتدعها شعراء يمنيون متأثرون بأشعارهم وأوزانهم الحمينية!. وقد أسهب الرفاعي في شرح أسباب ذلك نقتبس منها: أن معظم العرب الذين كانوا في جيش طارق ابن زياد يمنيون، وأن أكثر الشعراء ومعظمهم شعراء يمنيون من هذه القبائل من زمن الفتح إلى الاضمحلال، فلو أخذنا المجلد الثالث فقط من نفح الطيب الذي يبلغ حجمه (460) لوجدنا أن نسبة 95% منه شعراء يمنيون!, كما أن الموشح ظهر في الفترة التي كان حكامها يمنيين وعلى أيدي الشعراء اليمنيين، وأنه قد وجدت بعض النصوص التوشيحية قائلها يكشف فيها عن حنينه لموطنه الأصيل بلاد اليمن، وكأن الشاعر كان يحس أنه سيظهر بعد من يدعي ملكية هذا الفن!. ويورد الرفاعي موشحة طويلة للشاعر الاشبيلي منها: لا تسمع من كان وكان وانظر حقيق الخبر والعيان يحال خيالي رجع ذا الزمن فأحلى ما يوريك ديار غيبها وأخرج جوار اليمن! وكما هو معلوم عن سوء توزيع الكتب المطبوعة في الأندية الأدبية داخل السعودية فما بالك بعدم خروجها خارج الحدود، وهذا ما حصل مع كتاب الرفاعي الذي لم يصل إلى اليمن السعيد. ومع ذلك فإنه بعد سنوات جاء الفنان والمؤرخ والباحث اليمني في الأدب والفن الشعبيين محمد مرشد ناجي "المرشدي" (1929-2013م) رحمه الله الذي يعد واحداً من أبرز وأهم ركائز الغناء التجديدي الحديث، بالإضافة لدوره البارز والهام والمؤثر بتقديم الموروث والفلكلور الغنائي اليمني بكل تلاوينه وإيقاعاته المختلفة والمتعددة بأسلوب رائع أخّاذٍ ومقدرة فائقة على محاكاة التراث في عدن والذي رحل الخميس الماضي بعد أن ترك أربعة مباحث هي: "أغنيات شعبية" و"الغناء اليمني ومشاهيره" و"صفحات من الذكريات" و"أغنيات وحكايات". ألقى المرشدي محاضرتين إحداهما في السعودية والأخرى في البحرين بعد أن مكث عقوداً من الزمن لبحث أصل الموشح الحميني وكذلك الأندلسي، حيث ذكر فيهما أن الموشح الأندلسي امتداد للموشح الحميني، وفي كتابه "الغناء اليمني" وهو المؤلف الوحيد الذي يتكلم عن الغناء اليمني ومأخوذ عما يزيد على ثلاثين مرجعاً وكلها من أمهات الكتب العربية مثل "العقد الفريد" لابن عبدربه و"الأغاني" لأبي الفرج و"مروج الذهب" للمسعودي وكتاب "تاريخ الموسيقى العربية" لجورج فورمر وهو أهم كتاب في تاريخ الموسيقىِ العربية. قبل ذلك وبالتحديد في سنة 1983م عمل المرشدي مهرجاناً كبيراً في عدن وبعد جهد جهيد أقيم هذا المهرجان بعد أن تم اعتماد ميزانيته من الرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد والذي يرأس حالياً المركز العربي للدراسات الاستراتيجية في دمشق، وقد سمّى المرشدي هذا المهرجان "الموشحات والأهازيج اليمنية" وقد لقيت التسمية وقتها معارضة كبيرة من الوفود العربية. وكرر المرشدي ما توصّل إليه وبعد قراءته في كثير من الكتب العربية التي تجمع على أن طويس هو أول من أدخل الإيقاع في الغناء العربي، وكان قبله الإيقاع يتم في ضرب عودي خشبي بآخر مماثل له حتى جاء طويس وابتكر الطبل، وغنى عليه كل الأغاني التي كانت موجودة في ذلك الوقت، وأن طويساً هذا يمني حتى أن الفنان محمد عبده عندما قرأ كتابه قال: "فعلاً إن هذا يمني وهناك مؤرخون أرّخوا للحجاز التي كان يقيم فيها طويس". مسك المرشدي بخيط طويس وتابع هذا الخيط حتى وجد كيف تطوّر الغناء العربي عبر التاريخ، حيث وجد أنه جاء في تاريخ صدر الإسلام ما يعرف بالغناء المتقن أي المتقن من الناحية الموسيقية، والغناء المتقن هو الذي يبدأ بالنشيد مستشهداً بفناني صنعاء مثل محمد حمود الحارثي الذي يبدأ بالنشيد بدون إيقاع أشبه بالموال ثم يدخل في الإيقاع الثقيل ثم يدخل في الهزيج السريع الذي يبدأ معه الرقص، وأن طويساً هو الذي أتى بهذا، فأصبح هذا الغناء يلتزم به جميع المغنين، كذلك جاء العصران الأموي والعباسي ليغنى بهذا الغناء، ثم جاء زرياب وكان تلميذاً لإسحاق الموصلي الذي كان أشهر موسيقي في عهد الرشيد، وحين انتقل زرياب إلى الأندلس أنشأ مدرسة لتلاميذه التي تعدّ أول مدرسة، ولكن مدرسة طويس في المدينة هي أقدم منها باعتبار أن هؤلاء المدرّسين الذين أتى بهم زرياب هم في الأصل من المدينةالمنورة، وهؤلاء المدرّسون يعلمون تلاميذ زرياب الغناء المتقن الذي جاء به طويس. عمل المرشدي في المحاضرتين اللتين ألقاهما في السعودية والبحرين نماذج تطبيقية حسب شروط المحاضرة، وأتى بخلاصة ذلك بأن زرياب كان يعلم الغناء المتقن وليس الموشح، وهذا يخالف اعتقاد جميع الكتاب والفنانين، وقال بأن الموشح حديث، وزرياب جاء في القرن الثالث الهجري وكان يعلم الغناء المتقن، الذي جاء به طويس اليمني وأن من الذين قالوا بأنه يمني هو المؤرخ والأديب المصري المشهور أحمد تيمور (1871 - 1930 م). وذكر المرشدي أن أول من قال الموشح الشعري هو مقدم بن معافر المقبري، وهو أيضاً من اليمن من معافر التي هي اليوم "الحجرية"، وقد سأله أحد المهتمّين المغاربة: "لماذا تعتقد أن المعفري من اليمن؟! فقال له بأن المؤرخين اختلفوا على الاسم الثالث أما الأول والثاني فليس هناك خلاف فالمؤرخ الحضرمي عبدالرحمن بن خلدون (1332 - 1382 م) يقول إنه الفرويدي، وآخرون يقولون البريري، والبعض قال الغديري وهي كلها أسماء يمنية!. وعندما انتهى المرشدي من المحاضرة التي أبهرت الحاضرين قام من كان يدير الندوة وقال: "يا أخوان الأستاذ محمد مرشد ناجي ألقى بحجرة كبيرة في الماء الراكد وندوتنا المقبلة تكرس في الموشح لأنه ظهر جمود على أن الموشح لزرياب وزرياب في الأندلس، وإنما طبّق خصائص الموشح اليمني". لم يكن هناك تجاوب من أحد، خاصة من الجهات ذات العلاقة في اليمن، وكذلك وسائل الإعلام غير صحيفة الثورة تناولت الموضوع، بالإضافة إلى أن الصحف البحرينية بدون استثناء نشرت خلاصة المرشدي الهامة التي من المفترض أن تغطّى بشكل جيد لأنه أصبح مطروحاً ومفروضاً على المجمع الموسيقي. فنان العرب مع الفنان اليمني الراحل زرياب محمد عبده غانم أحمد تيمور