في عام 1960 شاهدت في اللاذقية فيلم «البنات والصيف» من بطولة سعاد حسني وعبد الحليم حافظ، وكان في المدينة يومئذٍ سبع دور للسينما، أما الآن فما من دار واحدة... يا حسرة! قبل الفيلم كنت قد قرأت رواية إحسان عبد القدوس التي حمل الفيلم عنوانها وقام عليها. وكما أطاشتني الرواية، فعل الفيلم، ولم أنسَ إلى اليوم «مايسة» في مشوارها بلباس البحر على شاطئ سيدي بشر في الإسكندرية. ولعلكم تذكرون أن محمد حسنين هيكل أبلغ صديقه إحسان عبد القدوس اعتراض الرئيس جمال عبد الناصر على ما صورت الرواية من حال الكبائن في شاطئ الإسكندرية، فكتب إحسان إلى الرئيس مؤكداً أن بوليس الآداب لا يستطيع منع ما يحصل هناك، معللاً ذلك بانحلال المجتمع، ولذلك يكتب القصص. قبل ذلك ربما عليّ أن أذكّر بطه حسين الذي خصّ الصيف بأكثر من سردية. وأولاها نشرت عام 1928 وصدرت في كتاب عام 1933 تحت عنوان «في الصيف». ومدار هذه السردية هو رحلة بحرية صيفية للكاتب مع زوجته وولديه إلى فرنسا. وقد كانت زوجته الفرنسية سوزان عينيه اللتين يرى بهما في هذه الرحلة كما في أجناب حياته جميعاً، وبذا خرج طه حسين بالسرديات الرحلية من كونها وقفاً على الكاتب غير الكفيف. ولعل العمى قد ضاعف من فعل التخييل في السردية، كما تبدى أيضاً في كتاب «رحلة الربيع والصيف» الذي صدر عام 1945، ومداره رحلة أخرى قام بها الكتاب مع أسرته وأصدقائه قبل عشرين سنة إلى اليونان وفرنسا. وكان طه حسين حريصاً على أن يكون الصيف فسحته، كما عبر في مقالة «لغو الصيف» من كتابه «لغو الصيف وجدّ الشتاء»، وتحدث فيها عن حرارة الصيف التي تجعل الناس يخلدون إلى الدعة، ويحيون الليالي بالملهيات «بينما الشتاء موسم للعمل والمتع المؤجلة». «نجمة أغسطس» من الروايات التي بكّرت إلى أن يكون الصيف زمنها وفاعلاً محورياً فيها، رواية صنع الله إبراهيم «نجمة أغسطس 1974». وتتأسس الرواية في رحلة قام بها الكاتب إلى موقع السد العالي وإلى معبد أبو سنبل في صيف 1965، ووضع مع كمال القلش ورؤوف سعد عن الرحلة كتاب «إنسان السد العالي - 1967». تلوح الرواية للسيرة الذاتية وللرحلة. فمن ذكريات السجن إلى بناء السد إلى تجنيس ووعي الآخر المتمثل بالكادر السوفياتي في بناء السد وبالسواح، تعلن هذه الرواية تجريبية وأسلوبية صنع الله إبراهيم، مما سيكون علامته الفارقة في كل ما تلا من رواياته. وترسم «نجمة أغسطس» العناء الأكبر في أسوان التي لا يفد إليها في الصيف أحد، على ذمة الراوي، وحيث يشتبك الحر الخانق والتكييف والتهاب الطرقات والمسبح والرمال والغبار والمراوح الكهربائية وجفاف الحلق والتصاق السروال بالفخذين المتعرقين وشكوى السائق الذي يقول للراوي «تصوّرْ يا بيه بنرشّ المراتب عشان نرطّب الجو». كما يشتبك في الرواية تاريخ الفن «مايكل أنجلو» بالتاريخ الفرعوني «الديكتاتور رمسيس» بصدّ تانيا للراوي، بالشروق والغروب والنيل و.. لتكون للصيف روايته العربية الحداثية البديعة. في السنة التالية لصدور «نجمة أغسطس»، صدرت رواية «ومرّ صيف» لكوليت خوري «سورية». وهي - كما جاء فيها - قصة كاتبة أرادت الهرب من نفسها، فالتقت مصادفة بأبطال روايتها ذات صيف جمع في قلب يوسف الأسواني المصري زوجته مديحة مع سهير وجين. ويترامى فضاء الرواية بين القاهرة ولندن ودمشق وباريس، وتتناظر فيها علاقة يوسف بجين وعلاقة سهير بالإيطالي، حيث ملّ الغربيان الجنس، وأقبلا يبحثان عن الحب عند الشرق ممثلاً بالعربيين. وتعود «ومرّ صيف» بالفن الروائي إلى بداياته الساذجة، وربما يكفي للتدليل على ذلك أن نقرأ «هذه الفكرة خطرت في بالي أنا الكاتبة مع أنني أعلم أن لا دخل لها بموضوع الرواية». كما ارتبطت بداية صنع الله إبراهيم الروائية بالصيف، كان الأمر مع إبراهيم عبد المجيد في باكورته «في الصيف السابع والستين - 1979». ومنذ العنوان تنادي الرواية حرب 1967. وقد جاءت في ثلاثة فصول بمقتضى الأيام السادس والسابع والتاسع من حرب الأيام الستة، وطغا فيها الخطاب السياسي. وسيدرك الكاتب ذلك من بعد، حين يشبه هذه الرواية بالصرخة التي ترجّعت فيها مكابدات العساكر في سيناء، وآثار حرب 1948 في بعض الشخصيات التي ستتضاعف الهزيمة عليها في حزيران (يونيو) 1967. ويبدو أن الرواية العربية ألفتْ سريعاً اقتران الصيف بالهزيمة في الحروب مع إسرائيل، فمن الروايتين السابقتين إلى فلسطين ورواية رشاد أبو شاور «الرب لم يسترح في اليوم السابع - 1986» التي تبدأ بمشاهد من بيروت أثناء ترحيل المقاتلين الفلسطينيين، مما تتوجت به حرب 1982 بعد احتلال إسرائيل لأول عاصمة عربية: بيروت. إنه، كما تكتب الرواية: «آب اللهاب، شمس نارية جهنمية تنعكس على الجدران، على رمال المتاريس، على الإسفلت، على كل شيء، والناس تعبوا من الهتاف والدموع والزغاريد في وداعهم للقافلة الأولى». وعلى الباخرة الشهيرة «سولفرين»، وبحراسة بارجة أميركية وزورق فرنسي، يندغم النهار الصيفي بالليل الصيفي بالبحر بجزيرة قبرص فجزيرة كريت، وبخار الماء ينعقد على سطح الماء، والشمس نار تسقط على الرأس وتنعكس على سطح الماء، فتزوغ العينان، إلى أن تلقي سولفرين بحمولتها من الضباط ذوي الامتياز والشاعر والكاتب والجريح والعاشقة والفيلبينية و.. في بنزرت التونسية، في الفجر الصيفي الذي يذوب في السواد، معلناً عن يوم الحشر: الحشود التونسية التي تستقبل المطرودين المهزومين الفلسطينيين. وكما يحضر الصيف في المدونة الروائية الكبيرة المتعلقة بحرب 1982، هي أيضاً المدونة المتعلقة بالبداوة، كما في هذا الأنموذج من ليبيا: رواية أحمد إبراهيم الفقيه «فئران بلا جحور - 2000». وتتوزع الرواية بين عالم البشر وعالم الحيوان. فالجفاف والجدب جعل الناس في الواحات الشرقية يأتون على الحشائش ويطبخون السحالي ويشربون مرق النمل، ودفع بمن في «مزدة» إلى الرحيل إلى «جندوبة»، فإذا بالفئران والأفاعي والنمال وملكي الحكمة: الضب والقنفذ، بالمرصاد. ويحتدم الصراع على البقاء تحت الشمس الحارقة، أي الملكة المتوجة على البطاح وعلى ما تحتها، تعذب من تشاء وترحم من تشاء، وفق ما يشاء المزاج ومقتضيات الترحال. «دمشق منتصف تموز» وتذهب الإشارة في هذا السياق إلى المغرب، حيث محكيات محمد برادة «مثل صيف لن يتكرر - 1999» ورواية عبد الإله بلقزيز «صيف جليدي - 2012». والعملان سيريان، وإن أنكر بلقزيز، بينما اختار برادة لمحكياته تصنيف «التخييل الذاتي». وقد قَدِمَ فيها باسم الطالب حماد القادم من المغرب إلى القاهرة، حيث استقبله في باب الحديد شهر أغسطس و»الشمس في منتصف النهار ترسل لهيبها اللافح». وكان قبل ذلك ركب السفينة من الدار البيضاء إلى مرسيليا في تموز (يوليو). وفي المحكية التي حملت عنوان الرواية يعلن السارد أن أشياء كثيرة جعلت من صيف 1956 صيفاً مميزاً عند حماد، منذ دخوله الجامعة إلى تأميم قناة السويس إلى افتتانه بصندوق العجائب: القاهرة. وليست المحكيات إلا ذكريات وتأملات عجنت المخيلة بعضها، فكانت السردية / الرواية / السيرة/ المحكيات عملاً بديعاً. أما عبد الإله بلقزيز فقد وسم المفكر والباحث فيه فنّية روايته التي ابتدأت بمظاهرات حزيران(يونيو) 1981 في المغرب. كما اقترنت بالصيف مفاصل حاسمة في حياة شخصيتي سميرة وعائشة. فالأولى كان لها في صيف 1981 موت الأب وسجن الشقيق. وإذا كانت سميرة ستصير داعية من «الأخوات المسلمات» فعائشة ستوشمها أصياف 1977 و 1978 و 1986 من زواج إلى عشق إلى طلاق إلى السفر إلى فرنسا. بعد ما يشبه الغياب الطويل - كيلا أقول الغياب الطويل - للصيف عن الرواية وللرواية عنه، ليس كعنوان فقط، بل كزمن أساسي وكفعل أكبر، تواترت في السنة الماضية وفي هذه السنة روايات تنادي ما سبق أن رأينا منذ «نجمة أغسطس». فهذه رواية «أمطار صيفية» لأحمد القرملاوي «مصر» تشبك ما بين الصوفية والموسيقى، وما بين التاريخ والحاضر، وذلك في بؤرة وكالة الموصلي الأثرية القائمة منذ سبعة قرون. وتبدأ الرواية بمشهد احتراق الوكالة وموت شخص فيها، ثم يتكشف الصراع بين السلفيين والصوفيين عبر اعتماد الوكالة على الموسيقى في العبادة. فالقائم على الوكالة الشيخ ذاكر وزينة الألمانية المصرية، والشاب يوسف، الذي يحضّر الماجستير في الموسيقى العربية... أولاء يريدون تحويل الوكالة التي أسسها وأسس طريقتها الإمام الموصلي صانع الأعواد، إلى مركز فني بمواصفات عالمية. أما الصيف فهو شطر العنوان الرامز. وأخيراً، وليس آخراً، هي ذي رواية طه خليل «دمشق منتصف تموز»، والتي تتعلق بالزلزال السوري من زاوية كردية - والكاتب كردي سوري. ويبرق الصيف في الرواية بالحرارة التي لا تطاق حتى ليلتصق إسفلت الشوارع بالأحذية وبقلوب البشر. وقد بلغ التوتر بالناس أن واحدهم يرد على لمسة آخر لكتفه بأن «يستل سكيناً من التبرم ويشعل حرباً في الشوارع». وتتردد في الرواية أصداء الحرب العراقية - الإيرانية، وأصداء الصراع المسلح بين السلطة والإخوان المسلمين، والذي تتوّج بمجزرة حماة عام 1982، عندما كانت سورية تسير مثقلة بالأحذية العسكرية، وتنام كل ليلة على تراتيل الحرية والديموقراطية «على ظهر سلحفاة وهي تمشي متثاقلة على رماد الطوائف والإثنيات والأديان المتعددة وتجار المخدرات وبائعي البشر في سوق النخاسة العربية». وقد فقد الطبيب البيطري إسماعيل في هذا الصراع حبيبته طالبة طب الأسنان الحموية، وهو القادم من قرية ساحلية. ويروي إسماعيل ما عاشه في لبنان كعسكري في قوات الردع، كما يروي الكردي يارو ما دفعه ورهطه الكردي إلى الهجرة من الشرق، نتيجة الجفاف. وبالإشارة إلى عنوان هذه الرواية، أضيف أنني قرأت خبراً عن رواية السوري أحمد حجازي، عنوانها «قطعتا ثلج في تموز». ولعل لي في الاختتام أن أذكر روايتي «ثلج الصيف» التي صدرت عام 1973، وأهديتها إلى الخامس من حزيران 1967 عرفاناً بالجميل. وليس في الرواية ما يتصل بالصيف إلا عنوانها الذي ينادي مع الإهداء حرب / هزيمة 1967. وهكذا، بعد هذه الإلماعة إلى عشر روايات، ينبق السؤال عما إذا كانت روايات الأصياف العربية تصلح للقراءة فيها، مثل روايات إحسان عبد القدوس - وليس «البنات والصيف» وحدها - بل ومثل سرديات طه حسين الصيفية، أم إن تلك الروايات هي روايات حروب وزلزلة مجتمعية وسياسية وروحية؟ ولكن من حكم على روايات الصيف بأن تكون خفيفة أو مسلّية وحسب؟