عاد الروائي السوري حيدر حيدر الى عالم النشر بعد صمت شبه طويل تخللته العاصفة التي أحدثتهاروايته "وليمة لأعشاب البحر". وعودته تمثلت في كتاب جديد يسعى الى أن يكون رواية عبر الجمع بين حكايات ثلاث. ماذا عن الحكايات الجديدة؟ هل استطاعت أن تؤلف عملاً روائياً واحداً هو "مراثي الأيام"؟ كان من المنتظر أن يعود الروائي السوري حيدر حيدر الى الكتابة بعد "المحنة" التي اجتازها أخيراً عبر روايته "وليمة لأعشاب البحر" هي كانت مادة لسجال سياسي عاصف أعاد طرح الأسئلة "الثابتة" انطلاقاً من الخطوط الحمر الفاصلة بين "الممنوع" و"المسموح به" في الثقافة العربية. لكن حيدر حيدر الروائي المتأني والمقلّ بدا في كتابه الجديد "مراثي الأيام" دار ورد - دمشق - ودار أمواج - بيروت، 0012 على قدْرٍ من التسرّع وربما الارتباك أو الاضطراب. ترى هل كتب حيدر "حكاياته" الثلاث بعد محنة "الوليمة" أم أنه كان شرع في كتابتها من قبل؟ اللافت ان الحكاية الثالثة في الكتاب أو الرواية وحدها حملت تاريخ كتابتها تموز/ يوليو 2001. أما الحكايتان الأخريان "مراثي الأيام" و"اغتيال في الغسق" فلا تشيان بتاريخ كتابتهما. على أن هذا الأمر قد يبدو نافلاً حيال المادة الحكائية نفسها وإزاء الحكايا الثلاث التي شاءها الكاتب "رواية" مثلما دلّ الغلاف. ليس المهم تاريخ كتابة هذه "الرواية" بل المهم والأهم كيف كتب حيدر حيدر روايته. والسؤال الذي سرعان ما يتبادر الى مخيلة القارئ هو: هل تشكل هذه الحكايات الثلاث رواية حقاً أم أن في التسمية خدعة جميلة؟ وقد يثير هذا السؤال أسئلة عدة لا تتم الاجابة عنها الا انطلاقاً من "الرواية" المزعومة نفسها. ثلاث حكايات منفصلة بعضها عن بعض تمام الانفصال: جواً وزمناً وشخصيات وأحداثاً ووقائع وأساليب. بل ان الواحدة تختلف عن الأخرى في مفهوم "الموضوعة" التيمة ومفهوم المقاربة السردية لهذه "الموضوعات" أو التيمات. الأولى باختصار قراءة متشظية لبعض الظواهر الدموية في التاريخ العربي والحاضر، الثانية تدور حول العلاقة بين الصياد الراوي والكلب الذي يروي أحياناً ويقع ضحية حراس بيت "الجنرال". أما الثالثة فتتناول سقوط البطل الملتزم في شرك المقامرة التي كانت أشبه بالمؤامرة السايسية المدبرة. بدا من الصعب حقاً قراءة هذه "الحكايات" الثلاث كما لو أنها ثلاثة فصول لرواية واحدة. و"الخيط المركزي" الذي يتحدث عنه الناشر كلمة الغلاف مفترضاً أنه قادر على نسج الرواية في حكاياتها الثلاث "نسيجاً مأسوياً منفرداً" هو خيط واهٍ جداً حتى ليبدو من المستحيل تبيانه. هل يكفي أن يكون "الموت" كما يشير العنوان الثانوي هو الموضوعة التيمة الرئيسة في الحكايات لتضحي الحكايات فصولاً لرواية واحدة؟ وإن افترض "القارئ" أن "الموت" هنا يُقصد به "القتل" الدموي الذي تجلى في الحكايات الثلاث فهل تكفي هذه "المقتلات" لتصنع رواية؟ وإن بدت الحكايتان الأخيرتان "اغتيال في الغسق" و"المجرّات" محكومتين تقنياً وأسلوبياً بالطابع القصصي فإن الحكاية الأولى "مراثي الأيام" تندّ عن مشروع روائي لم يتسنّ له أن يكتمل. أما سبب أو أسباب عدم اكتماله فيدركها الكاتب وحده وليس على القارئ أياً يكن إلا ان يتبين عواقب عدم اكتمال هذا المشروع الروائي. قد تبدو الحكاية الأولى هي الأهم بين الحكايات الثلاث ليس لأنها تحمل بنية روائية ولو غير مكتملة فحسب، وإنما لأنها رسخت ما يشبه المناخ الروائي وإن لم يكن جديداً أو فريداً سواء عبر اعتماد لعبة القصّ التراثي قال الراوي التاريخي... أو لعبة التقطيع الزمني قال الراوي المعاصر...، أم عبر اعتماد مبدأ "التناص": كأن يستعين الكاتب بحكاية "حي بن يقظان" لابن طفيل أو بشخصية "دونكيشوت" وبعض النصوص الأخرى التي يستشهد بها في مطالع "الفصول" الداخلية محمد ديب، سعدي يوسف.... وحظيت الحكاية الأولى هذه بما يشبه التقديم الذي هو أقرب الى "التبرير" الذي سعى الكاتب من خلاله الى اسباغ طابعي "التوالد" و"التناسج" على "حكايات" هذه الحكاية أو "القصة" كما يقول لينتهي الى أن هذه القصة "غير المألوفة في بنيتها الروائية" ليست قصة تاريخية على رغم مرجعيتها التاريخية والتراثية. لم يكن حتاج حيدر حيدر الى مثل هذا "التبرير" النقدي فهو يدرك جيداً أنه ليس الأول ولا الأخير بين الروائيين العرب الذي يستخدم بعض التقنيات السردية التراثية الحكاية التي تخرج من الحكاية أو التي تتقاطع معها أو تتداخل فيها. ويدرك أيضاً انه ليس الأول ولا الأخير الذي يلمّ ب"مدى التضليل" و"السراب" اللذين أصابا الوعي العربي المعاصر إزاء "مجد أو ألق أو جلال حضارتنا القديمة". فالروايات والمسرحيات والقصائد التي سلكت هذا السبيل لا تحصى حقاً. وفضح التاريخ الدموي والكشف عن خفاياه باتا من الأفعال الشائعة في الشعر والأدب المعاصرين. وتكفي العودة الى "موسوعة العذاب" التي أنجزها العراقي عبّود الشالجي انطلاقاً من عيون المصنّفات التاريخية والمدوّنات والكتب. فالوقائع والأحداث والمرويات التي ساقها تؤلف بذاتها عملاً سردياً مبنياً بحسب الموضوعات والوقائع. إلا أن حيدر حيدر في "مراثي الأيام" لم يغفل مقولة جورج لوكاش عن "التأويل التقدمي للتاريخ" فهو لم يلجأ الى بعض الوقائع والأحداث إلا ليقرأ الواقع الراهن على ضوئها القاتم طبعاً. لكن الاستعانة بالتاريخ سردياً لم تحقق كثيراً ما قال به لوكاش أيضاً عن "تثقيف" القارئ و"مسرّته" ليس لأن الوقائع دموية وأليمة أو مأسوية بل لأنها مستنفدة ومستهلكة، علاوة على أن لعبة القصّ الجميلة سرعان ما وقعت في الاستطراد. هل من قارئ عربي يجهل وقيعة الحسين أو هزيمة أبو عبدالله الصغير إبكِ مثل النساء ملكاً مضاعاً...، وصراع الأمين والمأمون وقصة حي بن يقظان...؟ أما طريقة السرد الجميلة التي اعتمدها ليروي تلك القصص المأسوية المتقطعة فلم تتجلَّ كفاية بل غدت مرتبكة بعض الارتباك على غرار الحكاية نفسها. فما إن يبدأ بحكاية قال الراوي التاريخي... حتى ينقطع عنها ليمعن في تحليلها على لسان "الراوي المعاصر" الذي هو قرين الكاتب أو الكاتب نفسه. قد تكون لعبة "التوازي" بين الحكايات والرواة جميلة لو لم تقع في فخ الاستطراد ولو لم يمعن الراوي المعاصر في تحليله المعروف مسبقاً للوقائع والخلفيات كأن يقول مثلاً: "في سياق هذه القصة الروائية الغريبة في صياغتها الأسلوبية أجازف في دخول منطقة خطرة وملغومة على مدى المستقبل...". وكلما توالت الحكايات وهي قليلة أصلاً توالت الاستطرادات التحليلية والتفسيرية. ولعل تقطيع الوقائع والمرويات كان يحتاج الى خيط داخلي متين ليجمعها بعضها الى بعض. فالتشظّي السردي أو التناثر ساهم في انهاك لعبة السرد داخل السرد وفي خلخلة بنيتها. أما الانتقال الى مأساة الجزائر وتحديداً مجزرة بلدة "بن طلحة" 1997 أو الى مأساة الأكراد في العراق تحديداً قصف الطائرات العراقية مدينة حلبجة الكردية بالقذائف الكيماوية في العام 1988 فبدا مفاجئاً ومفتعلاً وشبه سطحي. وربما ظن حيدر حيدر ان انتقاله الى المآسي العربية المعاصرة يرسّخ قراءته للتاريخ الدموي والسلطوي المستمر وخصوصاً أنه أكد في المقدمة أن "تاريخ السلطة العربية في الماضي والحاضر لم يتغير سوى في الشكل والمظهر". وإن كان حيدر حيدر على حق تمام الحق في ما يقول فهو لم يكن يحتاج الى هذه المباشرة في تأويل التاريخ والى هذه "الخفة" في المقارنة بين الماضي والحاضر. لعل ما يؤكد أن "مراثي الأيام" هي مسوّدة رواية لم يقيض لصاحبها أن يكتبها أو ينهيها، هو ما يعتريها من فوضى في الرصف لا البناء وخلل في السرد والتقطيع. وقد فوّت الروائي الطليعي "رمز" حيّ بن يقظان الذي كان من الممكن توظيفه توظيفاً أعمق داخل الحكاية. وفوّت أيضاً الطابع الفانتازي أو "الغرائبي" أو "الاسطوري" لحكاية ابن طفيل وما يحيط بها من تخييل باهر وترميز وتأويل وفلسفة. فقصة ابن طفيل هي أشبه بالحكاية الفلسفية التي كانت من النصوص السبّاقة في تأسيس خطاب حكائي تتقاطع فيه الخرافة والفلسفة تقاطعاً وجودياً. وكانت وقائع "حي بن يقظان" الخيالية منطلقاً لأعمال جميلة تعاقبت طوال عقود ولعل آخرها النص الدرامي الباهر الذي كتبه عبدالوهاب المؤدب بالفرنسية وعنوانه "الغزالة والطفل". لم تنجُ قصة "حي" في حكاية حيدر حيدر من القتل أيضاً أو من تلك الجينات القاتلة التي يرددها كثيراً. فها هو حيّ بن يقظان نفسه يروي للكاتب أو الراوي مأساة "أبسال" الذي وقع ضحية زوجة أخيه سلامان. لا يبدل حيدر حيدر وقائع الحكاية فقط، بل يغير اسم "أسال" كما ورد لدى ابن طفيل مستخدماً اسم "أبسال" كما ورد لدى ابن سينا. والطريف انه يجعل حي بن يقظان يلفظ اسم "أبسال" كما في قصة ابن سينا "سلمان وأبسال" علماً أن ابن طفيل اختار اسم أسال في قصة "حي بن يقظان" للتشديد على الاختلاف بينه وبين بطل قصة ابن سينا. ف"أسال" في قصة ابن طفيل يتعرّف الى "حي" ويعلّمه لغة البشر ثم لا يلبثان ان ييأسا معاً من العالم والبشرية فيعتزلان منصرفين الى التعبد. إلا أن حكاية حيدر حيدر لم تخلُ من بعض النصوص والمقاطع الجميلة والشعرية كما في نص "حلم" وإن بدا ذا طابع باروديّ ساخر الذي يقول في مطلعه: "ورأيت في ما يرى النائم أن روحي غادرت جسدي..."، ثم يضيف: "وكنت أصعد على أجنحة الريح خفيفاً ورشيقاً..."، أو: "وسمعت وأنا داخل الفسطاط ما يشبه دويّ الرعد أو الزلزال، ثم أضيء الكون ببرق يخطف البصر...". ويختتم حيدر حكايته بمقطع لا يقل حلمية وشعرية عن النص السابق، مستعيداً طيف "الغزالة" التي أرضعت حي بن يقظان في الجزيرة كأن يقول: "ورأيت في ما يرى عابر الغيبوبة النهائية، طيفاً أو ظلاً يشبه ظبية جميلة... راحت تسقيني من ضرعها حليباً عذباً...". لعل استعانة حيدر بحكاية "حي بن يقظان" هي التي أتاحت للراوي أن يهرب ولو عبر المخيلة الى تلك الجزيرة فيستعيد كما يقول "الصفاء والنقاء الداخلي والبهاء". وها هو، بعدما اجتاز دروب اليمن وخراسان وبغداد ودمشق وغرناطة والمغرب والكوفة، أي الدروب التي تكتنفها "روائح الدم والبلغم والجثث المنتنة"، يقول: "الآن أنا بريء منهم ومن تاريخهم الأسود". حكايتان أم قصتان؟ أما الحكايتان الأخريان فلم تكونا إلا أشبه بقصتين عمد الكاتب الى اطالتهما أو تطويلهما لتقتربا من فن "الحكاية" وتوفيا شروطها. لكن التطويل أساء الى "الحكاية" الثالثة التي كان يمكن اختصارها لتكوين قصة قصيرة تنتمي الى تيار "الواقعية النقدية" وربما الاشتراكية الذي ازدهر عربياً في الستينات. علماً أن بطلها وهيب الساهر يختبر سلسلة من المآسي الشخصية والوطنية متحولاً من مدرّس تقدمي الرؤية والموقف الى ضابط في الجيش فإلى مواطن مهزوم 1967 ومتهم باثباط العزائم الوطنية فإلى مدير لنادي القمار فإلى ضحية من ضحايا التجار والأكابر الذين يديرون شؤون البلاد... وينتهي منتحراً في السجن. ولم تخل هذه الحكاية من التطويل والتكرار والاستطراد والمبالغة في المواقف. فمادتها القصصية الضئيلة لا تحتمل أن تصبح مادة لحكاية طويلة. وبدت لعبة الزمن فيها غير متوازنة ففي البداية تُختصر سيرة هذا البطل "المأسوي" في صفحتين ثمّ تطول سيرته الأخرى وما حصل فيها من وقائع. الحكاية الثانية "اغتيال في الغسق" كادت أن تكون نصاً سردياً أو حكائياً طريفاً لولا "الاطناب" والتطويل والتكرار أيضاً. فالراوي يستهل "الحكاية" متوجهاً الى كلبه فيديل الذي مات قتلاً أو رمياً بالرصاص. "ها قد مضى على فراقنا سنوات ست..." يخاطبه، ممعناً في الرثاء رثاء الكلب ورثاء نفسه وفي "البكاء" على أطلال الماضي. لكن الراوي - الصياد سيتيح للكلب - الصديق أن يكون راوياً بدوره فيسرد بعضاً من أجزاء الماضي السعيد، ماضي الصيد والطبيعة والنزهات. ولا يتوانى الراوي عن التطرّق الى العلاقة بين الحيوان والانسان مقارباً نظرية داروين من غير أن يغوص فيها: "لعلنا كنا خلية واحدة في ذلك الزمن السحيق" يخاطب كلبه. ولا ينسى الراوي طبعاً أن يذكّر القارئ بأن "لا أمل، هنا، في شيء. شمس تشرق ثم تغيب. حاكم يرحل وآخر يجيء... الانسان في بلادنا يشبه البهيمة في نظر الحاكم...". وكان من الممكن أن يكتسب هذا النص بعض الطرافة والفانتازيا من غير أن يتخلى عن بعده المأسوي والحميم، لكن الكاتب شاء أن يجعل منه نصاً فجائعياً انطلاقاً من مأساة الكلب التي هي مأساته أيضاً. كان من الممكن أن يكون هذا النص نصاً هجائياً ساتيرياً وخصوصاً عبر فعل السرد الذي تولاّه الكلب على غرار ما فعل الكاتب الألماني أوسكار بانيزا في "يوميات كلب" أو ما فعل أيضاً الشاعر يوسف الخال في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه يوميات كلب وكان مفاجئاً حين صدوره في الثمانينات. ولعل ما جعل هذه الحكاية تميل الى "الواقعية النقدية" وهو أن قتلة الكلب هم حرّاس بيت الجنرال. وقد رموا الكلب بالرصاص عندما اخترق سور الحديقة. لعل هذا "الخيار" الواقعي والنافر في واقعيته أفقد الحكاية امكان تحولها الى حكاية فانتازية كافكاوية ذات طابع مأسوي. بل لعله "التسييس" الذي يصرّ على جعل الأدب والمتخيل والغرائبيّ مجرد أداة يواجه الانسان عبرها "العنف والطغيان في كل العصور" كما قال حيدر حيدر في مقدمة قصة "الفهد" 1977. على أن هذه الحكاية لم تخلُ بدورها من بعض المقاطع الجميلة والتداعيات التي ترتقي بالنثري الى مرتبة الشعري، وبالموضوعي الى مصاف الذاتي.