"راندفو"... كلمة فرنسية تعني الموعد. واصطلح على استخدامها في اللغة الدارجة بمعنى موعد غرامي... ولكن ما علاقتها بالفيلم الذي حمل عنوان "راندفو" والذي كتبه عصام الشماع وأخرجه علي عبدالخالق؟ لا أحد يعلم... ربما حتى صانعوه. وما علاقة ما شاهدناه على الشاشة، نحو ساعتين، بالفن السينمائي في أبسط تصوراتنا عنه؟ بعيداً من متاهات التنظير، العلاقة بين الكلمة وعنوان الفيلم شبه غائبة. فالفيلم يفتقد الفكرة الجذابة، والسيناريو يفتقد البناء الجيد. بل انه يعج بعشرات المواقف والتفاصيل المكررة الزائفة. وفي النهاية لا ينتج من مشاهدته أي استمتاع فكري أو حسي...، بل يخرج المشاهد ساخطاً مستاء من اليوم الذي ساقته فيه الأقدار إلى دار العرض ليراه. حتى من ذهب باحثاً عن "حدوتة" تقليدية، أو قصة حب أو مغامرة مثيرة، لن يجد ما يبحث عنه. أما إذا سألنا من شاهد الفيلم عن السبب الذي دفعه الى ذلك، فسنجد أن معظم الإجابات تتلخص في: الشباب، الكوميديا. "سينما الشباب"، "أفلام الشباب"... من المصطلحات اخترعها البعض قراءة لأوضاع ظهرت في سوق السينما منذ "إسماعيلية رايح جاي"، ثم حاول استثمارها لتحقيق مكاسب وجذب الجمهور مرة أخرى الى دور العرض. فأصبحت موجة أو بالأحرى موضة... كافر كل من يحاول الخروج عنها! وعلى السينمائيين تقديم فروض الولاء والطاعة لشروط المنتجين والموزعين، وذبح القرابين أمام أضرحتهم حتى ينالوا الرضا... أما من يتمرد على هذه الشروط فلن يجد مكاناً في هذه السوق، وعليه تقسيم وقته بين البيت والمقهى. لسنا ضد تقديم أفلام أبطالها من الشباب، أو مواضيع تعنى بمشكلاتهم وهمومهم وأحلامهم. المشكلة تكمن في الجوهر: هل قدم "راندفو" بالفعل موضوعاً يهم أي مشاهد، أياً تكن سنه؟ هل لما شاهدناه في "راندفو" أي علاقة حقيقية بصورة الشباب؟ أم أنه مجرد كليشيه محفوظ ومكرر عن ضياع الشباب ورغباتهم المكبوتة والتفكك الأسري؟ اقتناع هل اقتنع المنتج والمخرج بأبطال الفيلم الأربعة فتحي عبدالوهاب وأحمد زاهر وخالد أبو النجا وسمية الخشاب ومدى مناسبتهم أدوارهم؟ أعتقد أن اختيارهما فتحي عبدالوهاب، وهو ممثل موهوب بحق، جاء استثماراً لنجاح "فيلم ثقافي"، وأحمد زاهر استثماراً لنجاحه في الأدوار التلفزيونية التي قدمها خصوصاً في مسلسل "الرجل الآخر"، وخالد أبو النجا استثماراً لنجاحه كمذيع تلفزيوني ينال إعجاب عدد لا بأس به من المشاهدين خصوصاً الفتيات. أما سمية الخشاب فليس لدي أي اعتقاد في شأن اختيارها، لكن لدي يقيناً بعدم صلاحيتها للاضطلاع ببطولة فيلم سينمائي، على الأقل في المرحلة الراهنة، لأنها في حاجة الى تدريب كثيف وطويل قبل ان تصبح ممثلة جادة. مناقشتي اختيار أبطال الفيلم تعود إلى وجود مشكلتين: الأولى سن اثنين من الشبان الثلاث. فالأدوار مكتوبة لشبان تتفاوت أعمارهم بين 20 سنة و24، فيما أشكال الوجوه وتركيباتها باستثناء زاهر تشي بتجاوز هذه المرحلة العمرية بخمس سنوات على الأقل، وهي المشكلة نفسها التي وقع فيها من قبل "فيلم ثقافي". صحيح أن الممثل يستطيع أن يقدم أدوار من هم أصغر منه سناً أو أكبر على السواء، وكثيراً ما نشاهد في الأفلام الغربية شاباً تجعله الأحداث يودي دور عجوز، أو العكس أحياناً، لكن هذه الفرضية خاضعة لحسابات متعددة في الماكياج والملابس وقطعاً في الأداء، أشك في أن يكون أي من العاملين في "راندفو" قاربها. المشكلة الثانية المرتبطة باختيار الممثلين في "راندفو" هي "الكاستنغ" أو تسكين الأدوار. إذ نجد أن خالد أبو النجا يؤدي دور شاب من طبقة متوسطة أشرف، والده مدرس ويقطن في حي شعبي، على رغم ملامحه الارستقراطية ومحدودية قدرته التمثيلية وقلة خبرته التي لم تساعد في تشكيل ملامح نفسية لشخصية بعيدة من شخصيته الحقيقية. أما فتحي عبدالوهاب فيؤدي شخصية شاب ثري معتز ابن لرجل أعمال، وعلى رغم اجتهاده الواضح في إيجاد ملامح لها، لم يوفرها له السيناريو، لكنه كان يمكن ان يكون الأقدر والأنسب في أداء شخصية "أشرف". وأما أحمد زاهر فأدى شخصية شاب ثري أيضاً أمجد، وعلى رغم أن ملامحه قد تكون مناسبة لأدائها، كانت هناك مشكلات واضحة في أدائه، منها الميل نحو المبالغة في الانفعالات. وهذه المشكلات تعكس غياب توجيه المخرج ممثليه. فشل يدور "راندفو" على سيدة مطلقة، اسمها تهاني سمية الخشاب، اضطرتها ظروفها إلى أن تعمل عاهرة. تلتقي ثلاثة شبان خرجوا للبحث عن المتعة الجسدية في أولى تجاربهم، فيصطحبونها إلى فيلا معتز، لكنهم يفشلون في إقامة علاقة معها، بينما يسقط أمجد من فرط تناوله الأقراص المخدرة وينقل إلى المستشفى. بالطبع ترافقهم "توتو" تهاني. وتبدأ علاقة صداقة بينها وبين الشباب الثلاثة! يتوهم أمجد أنه وقع في حبها، بينما يلجأ إليها معتز لتمضية سهرة بريئة، وبرفقتها عاهرة زميلة لها، كاميليا منى حسين أكثر شخصيات الفيلم إقناعاً وقدرة على تفجير الضحكات بتلقائية ومن دون افتعال الكوميديا، حتى يستطيع جذب صديقته عبير إنجي شرف للذهاب معه إلى الفيلا. يذهبون... لكن المشكلة هي تحول دور منى حسين مجرد كليشيه، إذ كثيراً مااختيرت لهذا الدور. مشكلة الدور- القفص، التي أصبحت تواجه الكثير من الممثلين. يصل والد معتز... رجل الأعمال أحمد سامي العدل ومعه صديقة اصطحبها سراً ليفاجئ الابن أمام اصدقائه بممارسة أبيه التي لا تختلف كثيراً عن تصرفاته، هو الشاب المراهق. ربما كان هذا المدخل طريقاً لعصام الشماع ليجد فرصة مناقشة التفكك الأسري والروابط العائلية، ولكن بطريقة تلفزيونية غلب عليها الحوار المكرر. يحاول أمجد إبعاد اصدقائه عن "توتو"، ويقنعهم بأهمية الاستذكار وترك هذه العاهرة في سبيلها، بينما يلتقطها أمجد ويذهب بها الى شقته لممارسة الجنس معها، عنوة، في وقت يصل الأصدقاء بعد اكتشاف خدعة أمجد. فتلقي "توتو" خطبة عصماء على غرار مناضلات الخمسينات والستينات عن الشرف والفقر والطبقات. حكمة من أين أتت "توتو" بلسان الحكمة هذا؟ هنا تعنت درامي وإخراجي أيضاً لتحويلها بطلة، واقتناص تعاطف المشاهد معها. ولكن هيهات، ليس لأنها عاهرة، ولكن لأن بناء الشخصية متهالك، والمواقف الدرامية ملفقة. وللتدليل على هذا الكلام، هناك مشهد يتكرر من أول الفيلم وآخره: رحلة "توتو" من الحي الشعبي الذي تقطنه إلى حي المهندسين الراقي حيث السيارات الفارهة التي ستلتقطها، ومرة تركب سيارة أجرة سرفيس فيتعرض لها أحدهم، داخلها، بالمداعبة الثقيلة. هل من المنطقي أن يقوم هذا الشخص بهذه المداعبة في سيارة عامة على مرأى من الركاب وبهذه الطريقة الساذجة؟ السؤال نفسه ينطبق على عشرات التفاصيل التي تؤدي حتماً إلى نتيجة واحدة، هي السذاجة والسطحية. في أسفل منزل أمجد تجد "توتو" شاباً غامضاً يؤدي دوره الممثل الشاب أشرف مصيلحي ينتظرها في سيارته، ولكن سبق لها أن شاهدته في موقع عملها الطريق حيث تنتظر الزبائن. يصحبها كأنه أحد الزبائن، لنكتشف أنه كان زميلاً لطليقها في أحدى الجماعات المتطرفة. ولإعجابه بها وشى بزوجها وأدخله السجن. وهو يرغب الآن في جسدها، وبعد أن يضربها ضرباً مبرحاً لأنه سادي، يجلس ليستغفر عما فعله... صدق أو لا تصدق! ثم نرى "توتو" في حال إعياء شديد، والكاميرا تصور، في سادية عجيبة، جسدها الدامي الممزق كأن قطاراً رَهَسَها. وأبرز ضعف هذه اللقطات وزيفها الماكياج السيئ جداً. وتنقل توتو إلى المستشفى، وعندما تتعافى لا تسأل عن الزمن في هذا الفيلم! تجد الأصدقاء الثلاثة حولها. فيقررون أن تتحول إنسانة جديدة، فيتولون ومعهم عبير صديقة معتز هل تتذكرونها؟ تعليمها الانكليزية والكومبيوتر. وهنا يكشر الاستعراض الغنائي عن أنيابه في مناسبة الاحتفال بنجاحها. وإلى هنا يعتقد المشاهد أن الفيلم انتهى. ولكن ليس نيل المطالب بالتمني. فللفيلم بقية: الأصدقاء يسعون إلى إيجاد عمل لها. ويتوسط معتز لدى والده لتعمل في شركته سكرتيرة. وتنجح "توتو" في الاختبار. ويقع الأب بدوره في حبها، ويطلبها للزواج، فتتصل بمعتز وتطلب منه أن يخبر أباه من أين جاء بها. ينغمس معتز في الشراب، بينما تقرر "توتو" الرجوع مرة أخرى الى مهنتها. لكن الأصدقاء يعودون، مرة أخرى، لإنقاذها من براثن الطريق، والدخول في معركة مع بعض الشبان الذين حاولوا اصطيادها، لنرى نهاية أخرى للفيلم، بالطبع غنائية استعراضية شبابية... بينما يحاول المشاهد المسكين الجالس في كرسيه التقاط أنفاسه من فرط ما شاهد وما سمع. التصوير لكمال عبدالعزيز، والموسيقى لمودي الإمام، والمونتاج لصلاح عبدالرازق، كل هذه العناصر كانت على مقدار السيناريو الباهت والتنفيذ المتواضع، فلم تسهم في انتشاله من هاوية الضعف الفني. كان العرض خاصاً، وخرجت بعد انتهائه لأجد الجميع يتبادلون التهانئ، والكاميرات والمصورين تقوم بعملها المعتاد في تسجيل لحظات الاحتفال... على جثة السينما المصرية. وتمنيت أن نعيد التفكير في هذه المصطلحات الساذجة التي اخترعناها مثل "سينما الشباب" و"الكوميديين الجدد"، وخلافه، لعل التاريخ يغفر لنا ما فعلناها.