حلّ المخرج الايراني عباس كياروستامي ضيفاً مفاجئاً على مهرجان دمشق السينمائي الدولي الثاني عشر، ولم يكن يريد لقاء أحد من الصحافيين لأنهم "لا يعرفون أفلامي"، وعندما طلبنا موعداً، اعتذر بلطف بالغ، داعياً الى حضور مؤتمره الصحافي في اليوم التالي الذي يعقب عرض فيلمه الوثائقي الجديد "افريقيا ABC". لكنه ما لبث ان اعاد النظر وحدد موعداً للقاء: هل يزعجك انني تعرفت اليك في عتمة الصالة وأنت تشاهد الفيلم البلغاري "الكرات الزجاجية"؟ - من الصعب الاجابة عن هذا السؤال. أنت بالطبع لم تزعجني، ولكنني بطبعي لا أحب أن أتعرف الى الناس كثيراً. قد يكون التعارف شيئاً لطيفاً في البداية، ولكنه يتحول في ما بعد الى كابوس مخيف. أنت لا تطيق الجلوس خلف طاولة، بل تحب أن ترى العالم من نافذة سيارتك. سائق السيارة في فيلم ل"تستمر الحياة" هل هو عباس كياروستامي؟ - لا... هذه شخصية قريبة مني، ولكنها لا تتطابق معي مئة بالمئة... ربما هي قريبة فقط. هل جاء السائق برفقة الطفلين ليضع خاتمة من نوع ما لغياب الشاعر الصوفي زوهراب سيبهري؟! - لا أستطيع شرح أفلامي بالكلمات، وكل صانعي الأفلام لا يقومون بذلك، السينما تفرض عليّ طريقة عميقة في التفكير. على أي حال يجب أن أبدي اعجابي بحساسيتك المفرطة تجاه أفلامي. في القصيدة التي استوحيت منها فيلم "أين يسكن الصديق" ثمة ما معناه "سنذهب الى آخر الدرب" بينما يقول الطفل المسترخي في المقعد الخلفي والذي هو في الواقع ابن السائق في فيلم "تستمر الحياة": "ان درباً تؤدي الى مكان ما لا تؤدي في النهاية إلا الى درب مسدودة". هل ستبحث بمفردك عن هذه الدرب في جزء ثالث؟ - لطالما أضاف صانع الأفلام شيئاً من شعوره الى أفلامه، وبهذه الطريقة أتعامل مع أفلامي. فيلمي هذا يشبه نصف بناء، وبإمكانك الاضافة اليه وكسوه، وأنا متأكد ان قراءتك للفيلم يجب ألاّ تشبه بالضرورة قراءتي له. أنت حر بإضافة ما تشاء. أما عنوان الفيلم المأخوذ من قصيدة زوهراب سيبهري، فهو احترام وتقدير له. سياسة مبطنة! ألا يحمل هذا "التصرف" موقفاً سياسياً مبطناً من موت شاعر يشاع انه قضى في ظروف غامضة عام 1980؟ - السياسة ليست الشيء نفسه الذي تفكرون به، ولكن بالنسبة إليّ يظل الفيلم الشاعري سياسياً أكثر من الفيلم السياسي ومن السياسة بحد ذاتها. أنا لا أعني بالطبع ان فيلمي شاعري بالكامل، ولكنني أرى أحياناً أن الفيلم الشاعري يحمل مدلولات سياسية أكثر. لأن هذا النوع من الأفلام ينفذ الى عمق التاريخ ويخترق المشاعر الإنسانية. هل لديك ميل الى التمسك بالقصص التي تنتهي منها؟ - القصة في فيلمي الأخير لم تنته. وربما أتابعها من جديد. هل تقف الآن على بعد خطوتين من "وردة العزلة" التي يتحدث عنها الشاعر زوهراب وتظل ترى طفلاً جديداً أمام كل مشروع فيلم تعمل عليه؟ - ... أنا كنت أعمل في معهد للأطفال والمراهقين قبل سنين، لذلك أراني مهتماً بعالمهم، وربما هي عودة جميلة الى طفولتي. لذلك أنا أقول ان طفولتنا تذهب معنا الى نهاية الطريق. وإذا ما نظرت خلفك سوف ترى، وتتأكد، ان طفولتك معك وستبقى معك... خصوصاً في بلد مثل ايران له ثقافته وعاداته الاجتماعية... والوضع لا يتغير بسهولة، وهذا يعني ان طفولتنا معنا مثل أطفالنا. الأطفال في بلادنا وفي بلادكم كما أرى ليسوا أطفالاً عاديين، بل هم أطفال راشدون... لذلك لدينا مثل هذه النوعية من الأفلام. لديك ميل واضح لتمجيد الحياة. الطفل في فيلم "المسافر" يمسك بكاميرا عباس كياروستامي ليحتفي بوقائع الحياة كما هي معروضة في الاستاديوم الرياضي... بطل "طعم الكرز" بيدي يحفر القبر في الليل باحثاً عن شهوة الحياة... هل تعتقد ان الواقع أهم من السينما؟ - السينما هي السينما، والواقع هو الواقع. وليس هناك اتصال بينهما، ولكن السينما تحاول اكتشاف الواقع واعادة تركيبه. والحياة بحد ذاتها ليست مجيدة، ولكنني إذا ما رأيتها بطريقة وردية، فلي أن أمجدها، وإلا فهي ليست مجيدة كما ترى أنت في سؤالك. على أي حال ليس هنا أي طريق أو فرصة لتختار شيئاً آخر. هذه هي الحياة وهذه هي الطريقة التي يجب ان نعيش فيها. نحن مجبرون على تلميع هذا الحذاء لأننا لا نملك سواه. عندما لا يكون هناك أي طريق إلا المغادرة. في فيلم "طعم الكرز" عرضت الوجه الآخر للعملة. إذا أردت أن تغادر، فأمامك طريق واحد. بمعنى أنك إذا أردت ان تغادر فيجب ان يكون عندك سبب لتمجيد الحياة وإذا لم ترد ان تغادر، فأمامك طريق واحد... ما هو؟ - الانتحار....!! وأعني هنا ان الطريق الوحيد هو ان تفتح نافذة حتى تستمر الحياة. لهذا ربما قدمت فيلم "تستمر الحياة" على شكل ريبورتاج عن زلزال واقعي ضرب ايران عام 1990؟ - بالتأكيد عملت الفيلم على شكل ريبورتاج، هذا الفيلم لم أصنعه أنا، بل الناس الذين نجوا من الزلزال هم الذين صنعوه. كلهم ساعدوني في صنع هذا الفيلم، لأنهم يريدون تجاوز هذه الكارثة والاستمرار في الحياة. عندي فيلم آخر هو "افريقيا ABC"، وهو قريب في بنيته من فيلم "تستمر الحياة"، لأنك سوف تجد ان كارثة الإيدز في افريقيا تحصد أرواحاً أكثر من عشرات الزلازل، وسوف تشاهد أيضاً في هذا الفيلم حب الناس للحياة وتمجيدهم لها. في الواقع كاميرتنا تسجل الحياة، ومن المؤسف انه في غالبية الأفلام ترى غالبية المخرجين يقتلون اللحظات الواقعية في الحياة، بهدف تزويرها. ولأنني حي وأمثل، كمبدع، كل البشر الذين هم على قيد الحياة، سأظل أعيد جمع النتف التي أراها في هذا السياق وتركيبها من جديد كلما سنحت لي الفرصة. ربما لهذا ظهر الشاب وهو يحاول تركيب هوائي التلفزيون ليشاهد مباراة كرة قدم في فوضى الزلزال المدمر؟! - تماماً... بعد فوزك بسعفة "كان" الذهبية عن فيلم "طعم الكرز" استقبلك المحافظون المتشددون في ايران بالبندورة الفاسدة، لأن كاترين دونوف قبّلتك وهي تسلمك الجائزة... هل يتعاطون في ايران مع أفلامك بالطريقة نفسها! - اعتقد ان الاجابة عن هذا السؤال عندك، لأنكم تعيشون الظروف نفسها. لماذا...؟ لو قبّلتني كاترين دونوف لن يرميني أحد بالبندورة... - يضحك هذا يعني ان الأوضاع عندنا أصعب من أوضاعكم، عندنا الحياة صعبة، كي تكون ناجحاً في بلادنا، عليك ان تتحمل المتاعب. وأنا أرى ان أفضل طريقة هي أن أفكر بالمزيد من المشاريع والأفلام. سحر السينما قلت ذات مرة ان أهل النظام السياسي في ايران بدأوا يستسيغون أفلامك ويكتشفون سحر السينما... القاضي المتشدد سمح لك بتصوير مشهد المحكمة في فيلم "كلوز - أب" لأنه مغرم بأفلام محسن مخملباف... - لدي الفكرة نفسها التي كتبت على صيغة سؤال. حتى المتدينون مهتمون بمشاهدة وجوههم في السينما، وأنا قلت سابقاً إنهم اكتشفوا سحر السينما بعد الثورة، لأنها كانت محرمة بالنسبة اليهم قبلها. كانت "إباحية وتبحث عن العنف"، والآن بعد الثورة تغير الوضع، ولذلك هم يستمتعون بمشاهدة وجوههم وشخصياتهم ونمط معيشتهم في السينما... بعد أن صار للسينما الايرانية مؤلفوها وموضوعاتها... ألا تعتقد ان تكرار "أفلام الأطفال" قد يوصلها الى درب مسدودة؟ - الأطفال في المجتمع هم غالبية السكان. ولقد شاهدنا الفيلم السوري "قمران وزيتونة" للمخرج عبداللطيف عبدالحميد، وكان رائعاً، واستخدم فيه المخرج الأطفال. وهو بذلك كان يكشف بطريقة وأسلوبية ناجحة عن علاقات اجتماعية في تاريخ سورية المعاصر. ويظل سوء توظيف الموضوع أياً كان، هو الأساس، سواء أكان الفيلم للأطفال أو للنساء... على أي حال هذه النوعية من الأفلام بدأت تتناقص في ايران وبدأ المخرجون يتوجهون نحو موضوعات أخرى. تنتج ايران حوالى 80 فيلماً في العام... ألا يريد النظام السياسي في ايران مقابل توفير هذا الدعم للسينما الايرانية دعاية له؟ - لا أعتقد هذا... ولكن الدعاية تظل دعاية للأمة الايرانية. نحن نحاول ان نعرف الوجه الآخر للعملة الذي أصبح مثل كليشيه في العالم. وحتى الدولة الايرانية سوف تحصل على ايجابيات من هذا الانتاج الوفير، وبالنسبة إلي يظل الشعب أكثر أهمية، بخاصة ان وسائل الإعلام الغربية تحاول ان تنمط كليشيهات أخرى عن الشعب الايراني، ونحن نبرز الوجه الآخر من خلال ثقافة الأمة الايرانية وحضارتها. اكيرا كوروساوا تحدث في حياته الطويلة عن جان رينوار وجون فورد فقط... وبعد صمت نصف قرن، عاد الى الحديث عن ساتياجيت راي وعباس كياروستامي... أين تجد نفسك بعد هذه المقارنات؟ - كلماته كانت مؤثرة جداً، وهو عندما أشار إليّ بإصبعه ترك أثراً كبيراً في نفسي. وأنا في الوقت الذي تحدث عن أفلامي كنت أحس بالضعف ولم أستطع فعل شيء. على أي حال هذا النوع من التمجيد لن يغير من أسلوبي. كيف تتعامل مع الممثلين، خصوصاً إذا كانوا أطفالاً... هل ينفرون منك أحياناً؟ - أفضل طريقة هي ألا ندمر حياتهم الخاصة والطريقة التي يعيشون بها، لذلك أنا أبحث عن أنسب طفل للشخصية التي أريدها. وأنا لا أحاول أن أغير من طبيعتهم بل أحاول أن أغير أفكاري ونظرتي لهم. قلت ذات مرة ان الأفلام تخرج من القلب ويجب ان تشاهد من القلب. لو رأينا أفلامك بعقولنا ماذا سيحدث؟ - أنا لم أقل هذا. هذا القول لكوروساوا...!! لكن وسائل الإعلام تناقلته منسوباً اليك؟! - أنا أعتقد ان العقل يجب ألاّ يعمل بعيداً من القلب، فأي تضارب بينهما لن يكون جيداً، ولذلك ليس هناك أي اختلاف بينهما إذا كنت مهتماً بالتعبير عن الأفلام. يبدو ان الغرب فشل في بحثه عن مخرجين معارضين بينكم، ولهذا خفت حماسته اتجاهكم في الآونة الأخيرة... فيلم "قندهار" لمحسن مخملباف منع من جانب عمدة مدينة فرنسية تستضيف مهرجاناً سينمائياً... ألا يمثل هذا تراجعاً غربياً عن دعم أفلامكم؟ - أنا متأكد ان الفيلم عرض في فرنسا أو سيعرض، وأنا عندما كنت في باريس منذ أسبوعين كان بدأ عرض الفيلم في ايطاليا... هل لا يزال الغرب مولعاً بالسحر الايراني، بخاصة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001؟! - بالتأكيد أحداث نيويورك ستغير الكثير من الأشياء في العالم وهذه حقيقة، ولكنني متأكد ان هذا لن يغير من طبيعة هذه الأشياء بسهولة. أما أنا فسأنتظر وأشاهد وأترقب ما الذي سيحدث؟! تبني النمسوي وزوجته للطفلة الأوغندية التي ترتدي تي شيرت عليه حروف ABC في فيلمك الجديد والسفر بها في الطائرة... هل يمثل تخلياً طوعياً من العالم المتحضر عن القارة السوداء وتركها لمصيرها الغامض والمجهول؟ - كصانع للفيلم لا أعرف ما الذي حلَّ بالطفلة، ولكن خلال اقامتي في أوغندا سمعت الكثير عن الدعم الذي تقدمه الدول الأوروبية لمكافحة الإيدز، ولكنني سمعت أيضاً ان هذا الفيروس تم تطويره واهداؤه لإفريقيا كوسيلة للحد من تزايد السكان!! في نهاية الفيلم استخدمت مقاطع من موسيقى كلاسيكية... ولطالما انتقدك المحافظون مراراً لاستخدامك هذا النوع من الموسيقى بصفتها بدعة غربية... ألا يزال الوضع على حاله؟ - لا يمكن تغيير المحافظين بسهولة في ايران، فهم وظفوا كل طاقاتهم للمحافظة على مكتسباتهم... وتظل الموسيقى الكلاسيكية بلا حدود ولا تنتمي الى أي بلد..!!