على أكف البياض ترسم لور غريب تعاويذها. تزينها بالوشم وشرائط المنمنمات والزخارف. تكتب في حواشيها كلاماً موجعاً أحياناً. والكلام يفيض وينتشر. يعلو ويهبط ويتلوى بين أمواج الأشكال وتفاصيلها وعمائرها، كعنصر أساسي من عناصر اللوحة، لأنه كثيراً ما يستدعي موضوعها، وموضوعات الرسامة في معرضها الجديد الذي تقيمه في غاليري "جانين ربيز" تدور غالبيتها حول متاهات مدينة بيروت في مرحلتي الحرب وإعادة الإعمار. "أحبك بيروت ولا أعرف أن أعيش خارج بحركِ، لكن الحياة على أبوابك صعبة ومتعبة ومقلقة" تكتب لور. وفي إحدى أعمالها الكبيرة المستوحاة من مشاهداتها للحفريات الأثرية، تبحث في ركام الأزمنة تقلبها. تنطلق من ساحة البرج في قلب بيروت الى الروابي المحيطة بها، وهي تلبس المدينة ثوب الماضي. فترسم المنازل بزخارف شرفاتها وهي مسكونة بالمحبة، ثم تزين الشوارع بصفوف الأشجار وتنتقل الى تجمعات الناس في الأحياء الشعبية، وتدلف من جسورها المعلقة في الهواء الى أزقتها الداخلية ومقاهيها ولافتات شوارعها وساحاتها وقبابها وأبراج عمائرها وأساطيرها وحكايات ناسها. وهي في ذلك تتبع حدسها. تتحاور مع الماضي. تتذكر طفولتها. تسافر الى الورقة بعين بريئة، تستنطق أقلامها الحبرية لتبوح بما يجول في خاطرها من غير ان تدركه. تفتح شاشة أحلامها على أحداث وصور وتفاصيل وزخارف، فترتطم بأهوال الحرب وذاكرة كوابيسها ومآسيها. إذ إن أسئلة الغربة والإقامة والوجود والموت تدخلها في دوامة حلزونية طاحنة. لذلك تعاود الحفر في أعماق الأرض بحثاً عن جذور راسخة للانتماء، وعن قيم إنسانية وحضارية، وهي تنقب ليس عن كنوز الماضي فحسب، بل عن ذهب الأيام الآتية. "نحن أبناء هذه الأرض نريد ان نعيش فيها مرفوعي الرأس" كتبت لور في اللوحة التي رسمتها تحية لذكرى الفنان الراحل سعيد أ. عقل، الذي وجه موهبتها في الستينات، نحو استغلال خربشاتها التلقائية، في بنائية طوطمية حديثة. ومنذ ذلك الحين تطور أسلوبها وتميز بنسيجه الزخرفي المنمنم. الذي استفاد من جماليات الفنون البدائية وعالم رسوم الأطفال، كما اتجه نحو المناخات التجريدية - الهندسية والتوليفات الأرابسكية، من دون ان ينحصر في اتجاه فني واحد. فقد استطاعت لور في كتابتها الغرافيكية أن توازن ما بين الكتلة والفراغ. تجعلها تتقلب كأجساد الوشم في ملاعب الضوء. تتلبس أفكاراً وتجسد موضوعات تصويرية تتحقق في الوجوه. "فالأحلام بالوجوه - كما كتبت لور - هي محاولة لاستعادة حضور هؤلاء الذين غادروا هذه الدنيا". ليس ذلك إلا مقدمة لكي تطالعنا وجوهاً كبيرة لدمى، تحمل أحياناً تشوهات الإنسان ومظاهره القبيحة أو الجميلة. لكنها تقترب أكثر من الكائنات الغرائبية والخرافية الآتية من عالم الفضاء. فتتراءى أشكال مرقّطة وأجنحة طائرة وعيون كبيرة مندهشة وأفواه صارخة وابتسامات حزينة. في حال مشهدية بانورامية تتنفس على مساحات كبيرة، كانت أولى محطاتها في العام 1997 مع اللوحة التي فازت في بينالي الاسكندرية وهي بعنوان: "الأمس واليوم وغداً". ولعل الأحجام الكبيرة هي ما يميز هذه المرة معرض لور غريب الذي يتضمن 37 لوحة حبر صيني وفيها يغدو الأسود والأبيض، لغة جمالية مبنية على نقيضين، كلفة للإحساس والمشاعر والرؤى التي تسجل عبرها الرسامة مواقفها. فالأسود ذو كثافات متفاوتة، يتلون في درجاته أقصى التلون. وهو الحبر الذي طالما غمست فيه لور غريب، رغيفها في تعاطيها اليومي مع الكتابة النقدية في الصحافة اللبنانية. لذلك فاللوحة لها مثل دفتر يوميات تدون عليه خواطرها ومشاعرها. ترسم لترفع عنها التوتر وتطرد القلق. ولعلها تمضي فيهما أكثر كلما تواطأت مع خيالها للدخول الى متاهات أفكارها المجهولة. ومتاهات لور غريب عن قرب هي نسيج مثل الدانتيلا حيث التخاريم الصغيرة متناهية الدقة. والكلام يجر الكلام مثل سطور النمل، يمشي احياناً مقلوباً، يتنزه في المساحات، يكحّل الأعين يفترش الأرض ويتسلق السحاب، وكل فكرة لها أخواتها في قماشة زخارف تنمو وتتشكل وتتماهى مع وقائع العيش ووساوس الأحلام. وقد تنتهي الورقة ولا تصل الفكرة الى مبتغاها، لذلك تكملها الرسامة على ورقة أخرى تحاذيها وهكذا فتصل اللوحة الكبيرة الى ثلاثية، تحمل تراكمات الوقت وتحولاته، وهي تحتمل دوماً بين قراءاتها المتعددة. قراءتين أساسيتين واحدة عن بعد لالتماس موضوع اللوحة، وأخرى عن قرب لتفحص نسيجها الداخلي. أما الأعمال الصغيرة، فهي مثل مناظر تلوح في آفاقها هياكل المدينة بحدائقها وأشجارها وقناطرها وهندسة بنائها، مشغولة كقطعة مطرزات، مشكوكة بخرز وفيها خيطان وعقد وضفائر ونسيج حكايات، وسبحة من كلام غيومه طويلة.