بعد باريس، تشهد بيروت معرضاً سعودياً محوره كتاب "جنّيات لار" الصادر عن مؤسسة المنصورية للثقافة والابداع. وهو عبارة عن اثنتي عشرة محفورة بقيام 60×42 سم، نفذتها الرسامة شاديا عالم بتقنية الشاشة الحريرية مضافاً اليها تلوين وتذهيب يدويان. وهي مطبوعة على ورق فاخر بعدد محدود من مئتي نسخة. عشرون منها غير مخصصة للبيع، ومئة وثمانون النسخ الباقية المرقمة من 1 الى 180 وتحمل كلها توقيع الفنانة. تترافق رسوم الكتاب مع نصوص شعرية للأديبة رجاء عالم، نقلتها من العربية الى الفرنسية الشاعرة اللبنانية ايتل عدنان والى الانكليزية الشاعر العراقي سركون بولس. وأودعت نسخة من هذه المجموعة في جناح الكتب النادرة في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس. والكتاب بمحفوراته الأصلية الاثنتي عشرة شكّل نواة المعرض الذي نظمته السيدة ندين بكداش في غاليري جانين ربيز يستمر حتى 3 آذار/مارس ضمن إطار الاهتمام بنقل التجارب المميزة في الأدب والفن التشكيلي السعودي الى بيروت، بالتنسيق مع مؤسسة المنصورية التي انشئت العام 1999 في باريس، ومن اهدافها مؤازرة الحركة الابداعية السعودية ووضعها ضمن المنظور الثقافي العالمي، فضلاً عن تنظيم المعارض ورعايتها ودعم الفنانين ونشر الكتب الفنية، والتوثيق للحركة الفنية السعودية، بغية تكوين موسوعة الفن التشكيلي السعودي المعاصر. "جنيات لار" ليس مجرد كتاب يلتقي فيه الفن والأدب، بل هو اقرب ما يكون الى طريق في الفلسفة او في الروح، لأنه ليس مجرد بناء يقوم على اسطورة نهر لار. انه دعوة للبحث عن الانسان فينا، عن القدرات الكافة التي تقدونا للتفرد وتنأى بنا عن العادية والركود وما في اذيالها من العجز. انه نبش حثيث بالخط وتجليه في الصور والأحرف. هو العزيمة حين تحفر لاكتشاف النهر العذب الذي يقودنا بجريانه صوب التحقق والسكينة والصلح مع الذات وقدراتها الفائقة على الاصلاح والبناء. هناك على الطرف القصي من منبع لار الكامن فينا، تنتظرنا حقيقتنا الأعلى من الزوال. انت وأنا لار الذي سيعم الأرض بنعيمه. فلا تفتش ابعد من فلكك/ هيكلك داخلك النهر والنعيم وما الجنيات الا علامة على الطريق. هكذا خاطبت رجاء عالم مواربة النهر الاسطوري الذي غاب عن الاعين، وغابت معه قبائل من جزيرة العرب في دهاليز الرمال المتوالدة التي لا تبلغ الشمس قيعانها، ومن تجاهلها لم يعد الا المسافر الذي كان يبحث عن طلاسم الجنيات في روح امرأة محبوكة في سواد يبرق جسدها ويتخفى فلا تمسكه نار ولا حكاية. عرّفوها له انها النهر، ففي لغة تلك القبائل ان الانثى نهر. وتروي الكاتبة ما رآه المسافر في التيه وما اجتمع له من حقائق الجنيات باسلوب شعري بديع، وبلاغة تصل الى اعماق روحانية، وسرد مشوِّق يشبه سحر ألف ليلة وليلة. فالنصوص مستمدة من احوال اثنتي عشرة جنية رسمتها شاديا في لحظات ولاداتها من الفكر الى مساحات الحلم، فمن دخان القمم تخرج ألغاز كل جنية من الجنيات الاثنتي عشرة، وتبدأ لتتحرر لونياً و"كثلوياً"، من شِعاب جسدها وتكوراته وزعانفه وأذياله وزغبه الملون كالفسيفساء. فهي تتكون مثل منحوتة مغطاة بالوشم والزخارف، وأحياناً تتبخر كدخان او تسيل كنهر. وفي كل مرة يتزيّن الجسد ويتبدل، يتلوى مثل رقص الأفعى او يتشعب كتنين الكرنفالات الاسطورية، مواصلاً جريانه والتفافه في الهيئات والأماكن وفي الظلمة والمنور كما في الولادة والتجلي. بلك ما في رسم الحركة من غموض والتباس ومظاهر ألاعيب وأعاجيب. وقد تكون الجنية من حبر اسود او من حجر كريم ورفيقاتها من فضة وتبر. جسد تصقله حركة الريح والرمل وتنولد من سطوحه بروق، تتوق للذهاب او للغياب في الروح. واذ تمسك شاديا عالم بلب الحركة ومفاصلها. تطوّعها في مدها وجزرها لذلك تترصد انعتاق الجسد من هيئته الحيوانية او الغريزية البدائية، وتؤكد عليه بخطوط بارزة لا تلبث ان تتحول شبح امرأة مغطاة بزخارف "السدو" التي تلوح مثل نقوش على ظهر الكتيب، او تتلون باخضرار سعف النخيل، التي ترن ثمارها كفضة القمر وسط حزام الليل الذي يطوق خصرها بالنجوم. انها المرأة اللعوب الداكنة المسمرة كدياجير الزمان، تلك التي تطالعنا وتتفتح امام اعيننا حاملة على جسدها الدهري، رائحة الارض، ونيران الشمس البرتقالية وأشعتها الصفراء الذهبية كرمال الصحاري البعيدة. الى الغرابة والدهشة، تأخذنا الشقيقتان رجاء وشاديا عالم من مواليد مكةالمكرمة اللتان تشتركان في الخلفية الاسطورية والثقافية نفسها وتتكاملان في الموهبة والعطاء كروح واحدة متناغمة. ولعل هذا التناغم هو الذي كسر الحدود الألفية لتجربة الابداع السعودي الشاب. نحو آفاق محدثة جديدة. وحداثيتها مستمدة من التراث الشعبي المتلون بأبعاد روحانية عميقة الجذور، محبوكة في نسيج بدوي من فنون الجزيرة وسلالات قبائلها وحكاياتها المندثرة. بعد تجربة "مسرى يا رقيب" يعود الأدب والفن يتآخيان في "جنيات لار" بين رسم ووشم ونص وصورة حيث اصوات المخيلة وجنيات افكارها تسافر معاً الى اعماق الازمنة وخرافاتها، لتنكشف دهاليز النفس الانثوية المفعمة بالأسرار. رجاء وشاديا عالم موهبتان انكشف ابداعهما غير مرة للعيان داخل المملكة العربية السعودية وخارجها. وقطفتا في حقلي الأدب والتصوير الكثير من الجوائز. في انعطافهما صنعة الفن وزخارفه وتدفق اللغة وشاعريتها. كلتاهما في بؤرة الابداع تحفران باتجاه واحد الى عمق الذاكرة: ذاكرة العين والقلب.