تثير تداعيات أحداث الشرق الأوسط وتطورات النزاع العربي - الإسرائيلي تساؤلات كثيرة بشأن عصرية النظم السياسية العربية لمواجهة القرارات الكبرى على الساحة القومية. بل إن تساؤلات أخرى تطاول ما هو أكثر من ذلك بالتطرق المباشر الى ضرورة تغيير النظام الاقليمي العربي في وقت تغيرت أفكار كثيرة وتبدلت رموز مختلفة وأصبحنا أمام واقع قومي مغاير. لذلك فإني أتساءل في هذا المقال: هل آن الأوان لكي تتغير صورة العالم العربي وواقعه الاقليمي في ظل الظروف بالغة الخطورة وشديدة الحساسية؟ أقول ذلك وليس في ذهني إشارة إلى نظم بعينها أو رغبة في إقحام الشأن الداخلي لدولة بذاتها على الوضع العربي العام، وأضيف أيضاً أن التغيير الصحيح لا يحدث في الظروف الاستثنائية، ولكنه قد يأتي في أعقابها أو يكون واحداً من نتائجها. أما لماذا أتطرق إلى هذا الموضوع الشائك الآن فلذلك دوافعه ومبرراته: أولا: إن الخارطة السياسية للمنطقة منذ اندلاع انتفاضة الأقصى هي خارطة قلقة تتطلع إلى الرغبة في السلام البعيد ولكن في ظل أجواء التوتر الشديد، لذلك أزعم أن المأزق الذي تواجهه المنطقة حالياً لا بد وأن ينعكس على مستقبل النظام الاقليمي كله، لأننا لا يمكن أن نتصور أن تظل المعطيات قائمة في الشرق الأوسط على ما هي عليه بعد المحنة التي واجهتها التسوية واختناق الأمل في السلام خلال الشهور الأخيرة. ثانياً: إن جامعة الدول العربية تدخل مرحلة جديدة بعدما تحقق في عهد الأمين العام الحالي انجاز تاريخي يتعلق بإقرار آلية دورية القمة العربية، بينما يتقدم نحو الجامعة أمين عام جديد يحمل تاريخاً ديبلوماسياً حافلاً ورصيداً شعبياً كبيراً، إذ تشير التوقعات إلى أن جامعة الدول العربية ستشهد في عهده تحولات ايجابية تعيد ترتيب الأوضاع فيها على نحو يرفع كفاءة أداء هذه المنظمة العربية الكبرى، كما يمكن أن تؤدي النقلة النوعية المنتظرة في أسلوب عمل الجامعة وإطارها الجديد وهيكلها المختلف إلى تأسيس نظام عربي اقليمي وفقاً للقواعد الجديدة للعبة الدولية التي تبدو إرهاصاتها الآن في الأفق القريب. إذ يصعب التعامل مع منظمة قومية اقليمية يرجع ميثاقها الى ما قبل ميثاق الأممالمتحدة ذاتها. فالمتغيرات كثيرة، والتحولات مستمرة، والمنطقة تمر بمرحلة مخاض سيؤدي بالضرورة إلى ميلاد جديد نرى له أن يكون دعماً للعرب ومستقبل أجيالهم القادمة. ثالثاً: إن الأمر يستتبع - والحال كذلك - نظرة مختلفة لطبيعة العلاقات العربية - العربية، لأنني أتصور أن جزءاً كبيراً من المتاعب التي عرفتها المنطقة نجم عن غياب ديموقراطية العلاقات بين دول القومية الواحدة. وإذا كنا نتحدث عن معاناة الشعوب في ظل نقص ما هو متاح من مساحة الحرية والممارسة الديموقراطية فإننا نتحدث أيضاً بالحماسة نفسها عن ديموقراطية العلاقات بين الدول العربية، فنحن نريد لها أن تضع حداً للمخاوف والهواجس والحساسيات، وأن يدرك الكبير أنه "الأول بين متساوين"، وأن نظرية القيادة الاقليمية لا تعني السيطرة السياسية، كما أن سيادة الدول العربية الصغيرة هي محل رعاية مؤكدة من الجميع، لأن مفهوم العلاقات الدولية المعاصرة يتحدث منذ أكثر من نصف قرن عن المساواة بين الدول بغض النظر عن أحجامها أو أوزانها. ويكفي أن نشير في هذا المقام إلى أن نشوء الجمعية العامة للأمم المتحدة كان تعبيراً عن مولد برلمان دولي تقف فيه الدول كافة على قدم المساواة وفقاً لقاعدة "صوت واحد لكل دولة". رابعاً: إن إسرائيل على الطرف الآخر من المعادلة المقبلة للشرق الأوسط هي نموذج للدولة صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، وبالتالي فإن أقدار الدول أصبحت تتحدد بما لديها من تقدم علمي وتفوق اقتصادي وقوة عسكرية ولم تعد تتحدد أبداً بالنظرة التقليدية وفقاً للمفهوم التاريخي لحجم الدولة. والذي يعنيني هنا هو أن أؤكد أن التفاوت في القوة بين الدول العربية هو الذي أدى في النهاية إلى اختزال مفهوم الأمن القومي العربي لكي يصبح محصوراً في حماية الأصغر من أطماع الأكبر، ولم يعد تعبيراً عن نظرة شاملة ترتبط بالتعريف الاستراتيجي لمفهوم الأمن القومي الكامل. خامساً: إن مسألة الثروة العربية تركت بصمتها هي الأخرى على الخارطة العربية المعاصرة، بل إنها مارست دوراً سلبياً في تحديد شكل العلاقات بين الأغنياء والفقراء في العالم العربي. فالغني يخشى تطلع الفقير إلى ما لديه، ويخشى في الوقت ذاته من التوصيف المكرر الذي يقوم على تصور مؤداه أن وجود القوة العددية في يد الفقراء، بينما الثروة الضخمة ملك الأغنياء وحدهم. ولعلي أجازف هنا بالقول إن ما شهده العالم العربي في منعطفات تاريخية قريبة العهد لا يبتعد كثيراً عن نتائج ما نشير إليه في هذه النقطة تحديداً. وفي ما يخص العلاقة الارتباطية بين النظام العربي الاقليمي الجديد وطبيعة العلاقات العربية - العربية الحالية أعتقد ان الأمر يحتاج منا جميعاً - ومن دون استثناء - إلى نظرة جديدة وفهم مختلف وإدراك يقوم على استيعاب المخاطر التي تحيط بالعرب في ظل مناخ دولي غير واضح لم تتحدد حتى الآن ملامح قيادته الجديدة في ظل ادارة اميركية مختلفة لم تحزم أمرها بعد ولم تحدد على ما يبدو حتى الآن رؤيتها للتعامل مع القضايا الدولية والمشاكل الاقليمية، إلى الحد الذي وصل ببعض المحللين لكي يرى أن الولاياتالمتحدة تمر بمرحلة حرجة تتأرجح فيها بين التركيز على الداخل وتقليص دورها في الخارج وبين مواصلة الطريق الذي سلكته منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عندما أصبحت لاعباً رئيسياً في العلاقات الدولية المعاصرة بعد سنوات طويلة من العزلة والبناء الذاتي الداخلي. ولا شك في أن الذين تحمسوا لإدارة بوش وصفقوا لفوزه المحدود على آل غور - وأعترف انني كنت واحداً منهم - إنما يراجعون الآن حساباتهم ويعيدون النظر في حماسهم الذي كان مستنداً على مظاهر شكلية أكثر من اعتماده على أسس موضوعية. في غضون ذلك، تبقى المنطقة العربية مصدراً للقلق ومركزاً للتوتر في ظل مواصلة اسرائيل سياسات طويلة المدى تهدف الى كسب الوقت وتغيير معالم الأرض في محاولة لتعويد العرب على أمور غير مهيئين لها ولا مستعدين لقبولها. فإسرائيل تراهن على تحقيق الأمن لها مع إرجاء التسويات مع جيرانها لحين الوصول الى أضعف النقاط في المسار العربي كله، وتتصور انها ستحصل حينها على الأرض والسلام وعلى الأمن والسيطرة وتصبح الفاعل الرئيسي على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط! غاب عن العقل الاسرائيلي تماماً أن هناك متغيرات على الجانب الآخر، لأن الموقف لن يظل على ما هو عليه، كما أن الصورة ستتغير بالضرورة وفقاً لحركة الزمن وفلسفة التطور. فمناخ الحرية مقبل والديموقراطية تكتسب كل يوم أرضاً جديدة والوعي العربي يعود من جديد والصحوة القومية أصبحت مرحلة ضرورية يدركها العرب حكاماً ومحكومين، ولن يتحقق نظام عربي اقليمي ناجح من دون أن يستوعب في مفرداته المتغيرات كافة التي نشهدها الآن على الساحتين الاقليمية والدولية. ولكن يبقى علينا أن نؤكد في هذا المقام أن الإرادة السياسية في كل قطر عربي ستظل مسؤولة عن كل نجاح يتحقق أو فشل يستمر، ولعلي أرصد هنا بعض المظاهر الايجابية التي يجب أن نسجلها ببعض الارتياح على رغم اجواء التوتر ومناخ العنف في المنطقة: أولاً : إن التوصيف الدقيق والتعريف السليم للأعراض الحقيقية لأمراض العمل العربي المشترك اصبحا حقيقة واقعية. وفي ظني أن معرفة المريض لطبيعة مرضه هي نصف العلاج لأنها بداية الطريق الصحيح إليه والتحرك الواعي نحوه. ثانياً: إن ادراك حجم المسؤولية المرتبطة بالمستقبل وصل الى رجل الشارع العادي في الاقطار العربية المختلفة. لذلك فإن توريث المسؤولية للأجيال المقبلة أصبح أمراً وارداً لا بديل منه، بل إننا نلاحظ أن الفوران العربي الشعبي الذي صاحب بداية انتفاضة الاقصى تحول الآن الى مرحلة نقد موضوعي للذات يمثل في رأينا منطلقاً ايجابياً يستحق التأمل والرضا. ثالثاً: بدأت العلاقات العربية - العربية، على رغم موجات الصعود والهبوط، تدخل مرحلة جديدة قد يكون لروح الغفران وفلسفة النسيان تأثيرهما فيها، فالكل يدرك أن المصلحة العربية العليا لن تتحقق إلا بحسابات قومية عليا ولن تكون أبداً بنظرات قطرية محدودة. إن ديموقراطية العلاقات بين العرب لن ترتبط فقط برياح التغيير المقبلة، ولكنها ترتبط قبل ذلك بالعقل العربي ذاته الذي يجب أن يتغير نحو الأفضل وأن يتحول عن ازدواجية الشخصية إلى الاعتراف الموضوعي بالخطايا والتعلم من الماضي والدخول في نظام اقليمي جديد ستتشكل ملامحه وفقاً لطبيعة العمل الذي تقتضيه طبيعة المخاطر ومجمل التحديات. ولا شك في أن الدول العربية تتحمل العبء الكامل للخروج من المأزق القومي الراهن الذي بدأ بحرب الخليج الثانية وتأكد بالانتفاضة الفلسطينية الأخيرة. وقد لا يتحقق لنا كل ما نريد ولكن يجب على الأقل ألا يسقط المشروع القومي العربي في مستنقع القلق والاحباط واليأس الذي تحاول إسرائيل أن تصدره الينا خصوصاً في الشهور الأخيرة، بل يجب أن ندرك جميعاً أننا أمام "أجندة عربية" جديدة تواجه كل التحديات، وتتصدى لكل المشاكل، وتتوقع كل المفاجآت. * كاتب قومي، عضو مجلس الشعب البرلمان المصري.