هناك مثل يقول: "أن تأتي متأخراً خير من ألاّ تأتي أبداً"، وهو مثل ينطبق على "الحالة العربية" هذه الأيام بعد القمة الأخيرة في عمان التي يفترض أنها أسست لنظام عربي جديد يواكب متغيرات القرن الجديد ومتطلبات النظام العالمي الجديد وضوابطه ووجهت رسائل واضحة الى إسرائيل والولايات المتحدة نأمل ان تقرأ جيداً. فكل ما يجري الآن في العالم العربي هو إرهاصات تمهد لتركيب صيغة النظام العربي الجديد الذي يحلم بقيامه كل انسان عربي من المحيط الى الخليج لأنه أصبح ضرورة قومية ومصلحية ملحة لم يعد امام القيادات العربية من مفر سوى تسريع خطواته حتى يبصر النور قبل فوات الأوان. صحيح ان القمة العربية الدورية العادية الأولى جاءت بعد انقطاع طويل وشرذمة كادت تودي بكل مكتسبات ومصالح العرب وربما بمصيرهم الواحد، إلا أنها جاءت متأخرة كثيراً أولاً عن روح العصر ومتغيراته وشروطه وقوانينه، وثانياً عن حاجات الأمة وضروراتها الملحة وآمال الجماهير العربية وحاجاتها ومصالحها. ومع هذا فإنه يمكن القول إن قمة عمان طبقت مبدأ "ليس بالإمكان أحسن مما كان" أي أنها توصلت الى الحد الأدنى المطلوب للخروج من المحنة الراهنة التي طال امدها وامتدت الى كل منحى من مناحي حياة الأمة ككل وكل دولة على حدة وصولاً الى لقمة عيش المواطن العادي. فما تم التوافق عليه في عمان يمكن ان يشكل بداية طيبة لا بد ان يبنى عليها في القمم المقبلة وأولها قمة بيروت المرتقبة في مثل هذه الأيام من العام المقبل. وعلى رغم الانتقادات الكثيرة التي سمعناها والتحليلات التي قرأناها والتي عادة ما تتردد بعد انعقاد كل قمة أو اجتماع عربي، فإن الخطوة الأولى كانت ضرورية وملفتة وهي تكريس مبدأ انعقاد القمة الدورية السنوية على رغم كل العوائق والعواصف والأزمات تبعتها خطوات تمثلت في توفير الرغبة الكاملة والإجماع النادر على المصارحة والمصالحة ونسيان الخلافات وطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة تقوم على التعاون والتنسيق وفق منهج العقلانية والواقعية وتغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة. أما التحليلات التي ذهبت بعيداً في النقد واعتبار ان نتائج القمة جاءت مخيبة لآمال الجماهير وتطلعاتها وأن الطابع الإنشائي قد طغى عليها، وأن الشكل تغلب على الجوهر، فإنها تدخل في نطاق عقدة جلد الذات التي سيطرت على ممارساتنا ونظرتنا للأمور والأوضاع منذ اكثر من نصف قرن. وهي تحليلات يمكن تبريرها من خلال ما تعرضت له هذه الأمة من هزائم ونكسات وصفعات وممارسات مخيبة للآمال، وما شهدته من خلافات وأزمات وحالات نقض للمواثيق والعهود والاتفاقات العربية - العربية وعمليات تقزيم متواصلة لجامعة الدول العربية والمنظمات العربية الأخرى ولكل عمل عربي وحدوي أو مشترك. لكن هذه التبريرات لا تمنع من الدعوة الى التحلي بالصبر ورفض الوقوع في شراك اليأس وفخ التشاؤم بل النظر لما تحقق من زاوية النصف الملآن في الكأس وليس من النصف الفارغ لأن علينا ان لا نطلب المستحيل بل المستطاع بعد سلسلة الزلازل التي غيرت وجه العالم والمنطقة خلال عقدين من الزمن في ظل غياب التنسيق العربي وعدم انعقاد أية قمة عربية عادية، بل مجرد قمم طارئة عقدت لغايات محددة وفي ظل ظروف معروفة. فالقمة العربية الأخيرة عقدت في فترة حرجة حقيقية امام مفترق طرق بين الحرب والسلام على الصعيد الصراع العربي - الإسرائيلي فيما نواجه حكومة إسرائيلية ليكودية تقرع طبول الحرب وتهدد بمذابح جديدة وتهجير واسع للفلسطينيين داخل الأراضي العربية المحتلة عام 1948 وخارجها. كما انها عقدت بعد سنوات من الخلافات واتساع الشرخ الخطير الذي أحدثه الغزو العراقي للكويت عام 1990 وما نجم عنه من مفاعيل وانتكاسات سياسية وعسكرية واقتصادية ومالية واجتماعية ومعيشية. كما ان القيادات العربية وجدت نفسها لأول مرة منذ عقود محاصرة بين نبض الشارع العربي الذي عادت إليه الروح ليطالب بالكثير على مختلف الأصعدة وبين واقع مؤلم ومحير على الأصعدة ذاتها... فالأوضاع الاقتصادية العربية في مجملها صعبة وحرجة، والصراع مع إسرائيل عاد الى المربع رقم واحد من مواجهة وتسخين وتوقع الأسوأ الذي يراوح بين ضربات عسكرية وحرب شاملة قد تنفجر في أية لحظة ويشعل فتيلها عود ثقاب صغير... والسلام الذي بنى الكثيرون الآمال العظام عليه دخل في نفق مظلم بسبب المناورات الإسرائيلية وارتفاع نبرة التطرف والعنصرية الصهيونية، وقبل كل شيء بسبب الضعف العربي والهوان وغياب التنسيق ووحدة القرار والرأي والجبهات والمواقف. كما ان القمة العربية عقدت بعد غياب طويل لتجد نفسها تخاطب عالماً غير العالم الذي كانت تتعامل معه من قبل، عالم ممسوك زمامه ولا حول له ولا قوة من روسيا الى أوروبا ومن اليابان الى الصين، ومن دول عدم الانحياز الى دول الوحدة الافريقية. وعالم تسيطر عليه هيمنة القوة الأحادية للولايات المتحدة حتى إشعار آخر، وبشكل أو بآخر القوة الغاشمة السرية والعلنية للصهيونية العالمية. هذه الصورة البانورامية المختصرة قد تعطي تبريرات للنتائج المتواضعة لقمة عمان، وتدعو لنبذ دعوات الإحباط والشجب ولكنها في الوقت نفسه تحث على النهوض من الكبوة المتمادية ورفض الواقع المرير ومضاعفة الجهود من اجل الخروج من عنق الزجاجة ومواجهة الأوضاع والمتغيرات والتحديات بكافة اشكالها بجرأة وحسم وجدية وحزم لأن صبر الجماهير لن يطول كثيراً والضغوط الكثيرة المتزايدة عليها لم تعد تحتمل، ليس بالنسبة لقضية العرب الأولى فلسطين فحسب، بل لجميع القضايا من التحرير حتى لقمة العيش. والمهم الآن بعد أن "وضع القطار على السكة" أن يتم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه فوراً مهما كان متواضعاً ومهما تردد عن صعاب تعترض سبيل بعض المواضيع والقضايا المعقدة، فإذا توافرت النيات فإن كل شيء يهون ويسهل التعامل معه لأن العبرة في النفوس وليس في النصوص. فالقرارات اتخذت وأهمها قرار استمرارية انعقاد القمة سنوياً على أساس ان قمة عمان تعتبر قمة تأسيسية لمرحلة جديدة والمطلوب الآن وضع آلية تنفيذ عملية وسريعة لهذه القرارات ولا سيما تلك التي تتعلق بالعمل العربي المشترك وبالشق الاقتصادي الذي يمكن ان يطال المواطن العادي سلباً أو إيجاباً، ولم يعد هناك اي مبرر بعد اليوم لتعليق الفشل والتواكل والتخلف عن تنفيذ متطلبات التضامن العربي على شماعة عدم انعقاد القمة أو بالتلطي وراء قميص الخلافات العربية - العربية لا سيما خلافات الحدود التي حل معظمها بعد قرار محكمة العدل الدولية المتعلقة بالخلاف القطري - البحريني، وتوصل المملكة العربية السعودية وكل من اليمن وقطر والكويت الى اتفاقات أنهت اي خلاف حدودي أو غير حدودي وفتحت صفحة جديدة من أجل إقامة علاقات متينة وتعاون مثالي. ولم يبق سوى قضية الصحراء التي تهدد أمن واستقرار المغرب العربي وتعرقل خطوات بناء الاتحاد المغاربي. ويأمل المخلصون ان يتم قريباً التوصل الى صيغة تضع حداً لهذا الجرح النازف، وكم كنا نتمنى لو ان القمة العربية شكلت لجنة وساطة بين الجزائر والمغرب لتحقيق هذا الغرض السامي. أما بالنسبة الى العراق أو ما أطلق عليه عنوان "الحالة بين العراقوالكويت" فقد استطاع المؤتمر على رغم ما وصف به من فشل، فتح ثغرة في جدار الشرخ الكبير والتعمق في بحث الموضوع والتدقيق في اختيار الصيغ الكفيلة بإنهاء هذه المحنة الأليمة وحصر تداعياتها. فقد جاءت قرارات الدعوة لإنهاء العقوبات المفروضة على العراق وإنهاء معاناة الشعب العراقي وحل قضايا الأسرى والمفقودين الكويتيين ودعوة العراق لإقفال ملف استجابته للقرارات الدولية لتشكل بداية أو خطوة في طريق الألف ميل. أما بالنسبة "للحالة" فهناك تكليف للملك عبدالله بمتابعة ملفها على أن يساعد العراق نفسه بعد ان أجمعت القمة على فتح الباب أمامه فتمنّع. وهنا لا بد من التوقف عند وضع جامعة الدول العربية بعد اكثر من نصف قرن على إنشائها. فبعد اعتماد تكريس قيام مؤسسة القمة العربية لم يعد هناك مفر امام العرب سوى تعزيز مركز "بيتهم الكبير والوحيد" الذي بقي لهم كجامع مشترك لآمالهم وأمانيهم، والعمل على منح الجامعة دوراً أكبر لتجسيد هذه الآمال وتفعيل المجالس والمنظمات المنضوية تحت لوائها مثل مجلس الوحدة الاقتصادية والسوق العربية المشتركة ومنطقة التجارة العربية الموحدة. والآمال الآن معلقة على همة الأمين العام الجديد السيد عمرو موسى الذي أثبت جدارته في إدارة الديبلوماسية المصرية لعقود خلت واكتسب شعبية واسعة في مصر والعالم العربي نظراً لكفاءته وإخلاصه للقضايا العربية وأولها قضية فلسطين وإيمانه بجدوى التضامن العربي والعمل المشترك وعقلانيته وحكمته التي اكتسبها عبر السنين، ومواكبته لروح العصر ومعرفته بأسرار وخفايا الكواليس الدولية، ولا سيما الكواليس الإسرائيلية والأميركية التي حاربته سراً وعلانية. والمهم ان يمنح عمرو موسى صلاحيات واسعة في العمل العربي الشامل وفي إعادة ترتيب بيت الجامعة من الداخل ونفض الغبار المتراكم في مكاتبها وأسلوب عملها. والمهم ايضاً ضخ الأموال إليها من قبل الدول الأعضاء حتى تتمكن من تأدية دورها المطلوب مع وضع خطين احمرين تحت بند أولوية محاربة الفساد المستشري في دهاليزها. ويجب أن لا نغمط حق من سبق الوزير موسى في تولي هذه الأمانة ونحن نمتدح قدراته ونتأمل الخير منه. فالدكتور عصمت عبدالمجيد واجه ظروفاً قاسية وأوضاعاً عربية صعبة بعد الشرخ الذي تسبب به غزو الكويت كما انه قاسى من ازمات مالية متوالية... ولا ننسى أيضاً دور الأمين العام السابق الشاذلي القليبي، الذي أمسك بزمام الجامعة في ظروف إقامتها في تونس وغياب مصر مروراً بالأمين العام المرحلي اللواء حسن أبو سعدة الذي قام بدور كبير في إنجاح عملية الانتقال من تونس الى المقر الأساسي في القاهرة وسلّم الأمانة سالمة الى الدكتور عبدالمجيد. أخيراً لا بد من التركيز على أولويتين لا بد من معالجتهما سريعاً في ضوء قرارات القمة العربية: الأولى: داخلية عربية وتتعلق بالإسراع بتحقيق التكامل الاقتصادي وفتح الحدود والتجارة البينية ومساعدة الدول المحتاجة على حل مشكلاتها وأولها مشكلة البطالة والفقر وهجرة الأدمغة. والثانية: دعم الصمود العربي والوقوف بقوة وراء الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين لمواجهة مخططات شارون العدوانية ومنعه من الاستفراد بهم وتوجيه ضربات مرتقبة لشل حركتهم وتكريس الأمر الواقع الظالم. والقرارات التي اتخذت اخيراً كانت بلا شك متقدمة على ما سبقها خصوصاً بالنسبة الى توفير الدعم المباشر للشعب الفلسطيني وفق الدعوة التي أطلقتها السعودية لإنشاء صندوقين لهذه الغاية. هاتان الأولويتان هما مفتاح الحل والسلام في المنطقة والسبيل الموضوعي المتوافر لتصحيح المسار ومنع وقوع الانفجار الكبير المرتقب أو على الأقل الحد من خسائره. وبالتالي تحويل إرهاصات النظام العربي الجديد الى حقيقة ملموسة. * كاتب وصحافي عربي.