بين عام وعام يحلو للمحللين والسياسيين القيام بجردة حسابات يعرضون فيها أهم الأحداث والمتغيرات والعلامات البارزة التي تميز بها عام منصرم لأخذ العبر والدروس منها ومحاولة استشراف المستقبل ورسم صورة تقريبية لأجندة أولويات العام الجديد. وقد قرأنا خلال الأيام القليلة الماضية الكثير من التحليلات عن أحداث العام 2000 الذي كان الحديث عنه قبل عام وفي نهاية القرن العشرين وكأنه عام الحسم والحل والربط والمتغيرات الكبرى وعام الانتقال من نظام عالمي بائد الى نظام عالمي جديد ومن حال الى حال فإذا به يمر مرور الكرام كئيباً باهتاً لا لون فيه ولا رائحة ولا طعم باستثناء أحداث مرتقبة وتقليدية وروتينية مثل انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة وانهيار الحكومة الاسرائيلية برئاسة ايهود باراك الذي ضرب رقماً قياسياً في الفشل السريع والذريع والدعوة لانتخابات مبكرة تجري بعد أسابيع قليلة وتحدد لمن الغلبة في قيادة اسرائيل خلال المرحلة المقبلة التي قد لا تمتد أكثر من سنة أو سنتين على أبعد تقدير نظراً للوضع السياسي الاسرائيلي الذي يعيش حالة "فقدان توازن" منذ أكثر من عقد من الزمن. عربياً كانت معظم الأحداث مرتقبة وعادية باستثناء إتمام الانسحاب العسكري الاسرائيلي من جنوبلبنان لأنه سجل سابقة لا مثيل لها في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي تمثلت في نجاح لبنان بصغر حجمه وقلة حيلته وضعف قوته في إجبار اسرائيل على الانسحاب أو بالأصح الهروب تحت جنح الظلام وبشكل مهين من الشريط الحدودي الذي احتلته بزعم الحفاظ على الأمن فإذا به يتحول الى قنبلة موقوتة تهدد هذا الأمن المزعوم بسلاح المقاومة البدائي وتقض مضاجع الاسرائيليين الذين تعودوا على ترويج مزاعم "التفوق" و"الفوقية" و"الجيش الذي لا يقهر" وغير ذلك من العنجهيات والغرور والأباطيل، وما زال التهديد قائماً رغم اتمام هذا الانسحاب إذا لم توافق اسرائيل على شروط السلام العادل مع سورية ولبنان لأن المستوطنات والمدن التي كانت مهددة من قبل عن بعد أصبحت الآن ضمن مدى سلاح المقاومة وقد تمتد الى العمق الاسرائيلي إذا استمر التعنت الاسرائيلي وتبددت الآمال بتحقيق السلام المنشود على المسارين السوري واللبناني وعلى المسار الفلسطيني بالذات... وما تهديد باراك الأخير إلا صفارة انذار للاسرائيليين بأن الانتخابات المقبلة ستحسم الأمر بين خياري السلام والحرب وسط أحاديث متصاعدة هذه الأيام عن حرب جديدة محتملة في المنطقة إذا تخلت اسرائيل عن مرجعية مدريد، ولم تسارع الادارة الأميركية الجديدة برئاسة الرئيس جورج بوش الابن لانقاذ الموقف واستئناف مفاوضات السلام لا لاطالة أمدها وكسب الوقت كما يريد الاسرائيليون، ولا لذر الرماد في العيون وتحقيق مكاسب سياسية كما كانت تسعى ادارة الرئيس بيل كلينتون، ولا لوضع صيغ ومقترحات تصب كلها في خانة الارادة الصهيونية ومصالح اسرائيل والانحياز اليها، بل بالعودة الى مرجعية مؤتمر مدريد وأسس مبادرة والد الرئيس الحالي، الرئيس جورج بوش التي ارتكزت على مبدأ الأرض مقابل السلام وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها القرار 242 والقرار رقم 338. ولولا الانحراف عن خطوط هذه المبادرة لما تتالت الاضطرابات وذبحت مسيرة السلام وقتلت الأمال بهذا السلام بسكين التطرف الصهيوني والخبث الماكر الذي لا يعرف الرحمة ولا يفهم إلا بلغة العنف والارهاب والدم والدمار، ولولا الانحياز الأميركي لاسرائيل والمؤامرة الاسرائيلية الرامية لتفريغ مسيرة السلام من مضامينها والنكث بالوعود والتراجع عن اتفاقات ومعاهدات وقعها رؤساء وزراء اسرائيل اسحق رابين وبنيامين نتانياهو وشيمون بيريز وايهود باراك لما ساد اليأس وخيبات الأمل وسفكت دماء الأبرياء والأطفال الفلسطينيين في "انتفاضة الأقصى" بعدما عاقبت اسرائيل الضحية وهي الشعب الفلسطيني بدلاً من معاقبة السفاح الذي تسبب بهذه المذابح وهو ارييل شارون زعيم حزب ليكود الذي استفز مشاعر العرب والمسلمين بتدنيس حرمة المسجد الأقصى المبارك والحرم القدسي الشريف. بل أن شارون نفسه قد يكافأ، حسب استطلاعات الرأي، من قبل الشعب الاسرائيلي بانتخابه رئيساً للوزراء في الانتخابات المقبلة رغم ماضيه الارهابي وادانته من قبل القضاء الاسرائيلي وتحميله مسؤولية توريط اسرائيل في "المستنقع اللبناني" والتسبب بمقتل واصابة المئات من الجنود الاسرائيليين عدا عن دوره الدافع في مذبحة صبرا وشاتيلا وغيرها من المذابح الوحشية. هذه الانتفاضة المباركة كانت بحق الحدث الأبرز والأهم في العام 2000 لأنها أعادت الأمور الى نصابها ووضعت النقاط على الحروف. فقد أكدت تصميم الشعب الفلسطيني على تحرير أراضيه ورفض السلام المنقوص والظالم والاصرار على السلام العادل الذي يحرر الأرض ويعيد الحقوق ويعترف بهوية الشعب الفلسطيني وحقه في اقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. والأهم من ذلك ان الانتفاضة نجحت في تفجير زلزال في ضمير الأمة العربية والاسلامية ليصحو على واقع جديد وتعود اليه الروح بعدما كان الرهان سائداً بأنها ذهبت الى غير رجعة وأن رياح الخمسينات والستينات لن تعود أبداً. فقد شهدنا خلال الأشهر القليلة الماضية انبعاث روح التحدي ورفض الظلم وواقع الاحتلال والتصميم على مواجهة اسرائيل ورفض الاستسلام والتمسك بعروبة القدس الشريف والسيادة الكاملة على المسجد الأقصى المبارك والحرم الشريف مهما بلغت التضحيات، فما ضاع حق وراءه مطالب، وما هزمت أمة تمسكت بعقيدتها ومبادئها وصمودها واعتبرت الجهاد هو السبيل لتحقيق الأهداف وقهر الأعداء عندما يرفضون الجنوح للسلم. فرغم التضحيات الجسام وآلام الأمهات وهن يرين فلذات أكبادهن يذبحون بيد الجلاد الاسرائيلي، ورغم الآلام والمصاعب والخسائر والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي خلفتها أحداث الانتفاضة فإن ايجابيات كثيرة تولدت عنها دعمت جهاد الفلسطينيين بالدم واكسبتهم احترام العالم كله وتعاطف ومساندة ودعم العرب والمسلمين. وما انعقاد القمة العربية بعد انقطاع طويل واتباعها بالقمة الاسلامية سوى تعبير مبدئي عن واقع جديد في العالم العربي استمع فيه القادة الى نبض الشارع وارادة الجماهير. وقد وجهت الكثير من الانتقادات للقمة العربية وقراراتها إلا أن نظرة موضوعية الى الواقع العربي المتردي الذي كان سائداً قبل انعقادها يعطيها حقها من الايجابيات والانجازات أولها الاجماع على دعم نضال الشعب الفلسطيني ووقف التطبيع مع اسرائيل وتوجيه رسالتي تحذير الى تل أبيب وواشنطن والتمسك بالحقوق العربية وبعروبة القدس وبالسيادة على المسجد الأقصى. ومن بين الايجابيات أيضاً تبني اقتراح المملكة العربية السعودية بانشاء صندوقين لدعم الانتفاضة والأقصى ومساعدة الفلسطينيين على الصمود في وجه الحصار الاسرائيلي الظالم. أما الانجاز الأهم لهذه القمة فيتمثل في اتمام عقدها بكامل أعضائها واجماعهم وتضامهم لأول مرة منذ عقد من الزمن بعدما تعذر هذا الانعقاد الكامل باستثناء ليبيا اذا استثنينا قمة القاهرة عام 1996، بسبب تداعيات وآثار الغزو العراقي للكويت عام 1990. فمجرد انعقاد هذه القمة كان انجازاً وحدثاً بارزاً سجل في عام 2000 رغم المآخذ على القرارات المتواضعة والمواقف غير الحاسمة والحازمة. فالمنطق يفرض علينا قبول الحدث على علاته كانجاز والنظر اليه بعين التفاؤل والأمل بمستقبل أفضل للعمل العربي المشترك ولانطلاق مؤسسة القمة من جديد بعد طول سبات لتعقد مؤتمرات دورية سنوية وتتخذ قرارات متتالية وواقعية لا بد أن تصل في النهاية الى تحقيق بعض الأهداف السامية وتلبية الآمال العربية في الوحدة والتضامن والتقدم والاستقرار والازدهار. لقد عقدت القمة العربية في فصل الخريف وكأنها مرآة لصورة الواقع العربي، أو الخريف العربي الذي تتهدد أوراقه أخطار السقوط الواحدة تلو الأخرى والاستعداد لمواجهة العواصف والرياح العاتية وربما الطوفان!! ولكنها استطاعت أن تضخ مشاعر الأمل بتجاوز المد الخريفي أولاً بتشكيل لجنة لمتابعة تنفيذ القرارات ووضع آليات العمل وثانياً، وهذا هو الأهم في الاتفاق على العودة لمبدأ دورية القمة العربية كل عام على أن تعقد القمة الأولى في العهد الجديد في عمان في آذار مارس 2001 أي مع بدايات فصل الربيع. فهل نتفاءل خيراً ونعتبر أن هذا الموعد المحبب هو بداية التجسيد العملي لمعاني الربيع فتكون قمة عمان الربيعية منطلقاً لعمل عربي مشترك يضع حداً للخلافات ويرسم طريق المستقبل بحكمة وعقلانية ويضع الثوابت العربية بالنسبة للسلام وغير ذلك من الأمور في منزلة مقدسة تتحول الى محرمات لا يجوز لأي طرف أن يتخلى عنها ولا لأي جهة اجنبية ان تتجاوزها أو تتحداها. نعرف أن المشوار صعب، وأن المصاعب كثيرة، كما علمتنا التجارب أن المشاكل لا تحل بمؤتمر ولا بمؤتمرين وأن الخلافات العربية لا سيما بالنسبة لما يسمى ب"الحالة العراقية" تحتاج الى جهود مضنية لحلها وردم الشرخ الذي تسبب به الغزو العراقي للكويت، ولكن المهم أن يدشن العرب مشروع المصالحة بعد المصارحة وينطلق قطار التضامن في مساره الصحيح. وهناك الآن عدة مؤشرات ومبادرات وخطوات ايجابية كان آخرها موقف مجلس التعاون الخليجي في قمته المنصرمة التي نقرأ في مضامينها لغة جديدة وبادرة طيبة مغلفة بثوب الاعتدال والرغبة في طي الصفحة السوداء شرط وضع ضوابط حاسمة لمنع تكرار الخطيئة... والأمل الآن أن يتخلى النظام العراقي عن مواقفه السابقة ويتجاوب مع البادرة ويستغل الفرصة التي سنحت له ولا يرد اليد الكريمة التي امتدت اليه. صحيح أن الجو العام الذي يطغى على سمائنا العربية غائم ومظلم ومغلف بتشاؤم يطالعنا كل صباح، ولكن القادة العرب يتحملون اليوم مسؤولية تاريخية لتبديد هذه الأجواء المقيتة وانقاذ شعوبهم... وأنفسهم قبل فوات الأوان لأنه لم يعد هناك أي مجال لتأخير أو مماطلة أو اهمال ولامبالاة... فالنار حامية والجرح عميق والاعصاب مشدودة والأخطار محيقة بالأمة من كل جانب والقرار أي قرار سيكون مصيرياً. فهل يستجيب القادة لنداء التاريخ فتكون قمة الربيع هي قمة الانتقال من خريف العرب الى ربيعهم؟ لقد طال انتظار العرب لهذا الربيع الذي تتمتع به كل شعوب العالم... ولم يعد جائزاً حرمانهم من ثماره واجوائه وزهوره وأفراحه... وأي تأخير أو اصرار على تعميق آلام هذا الحرمان يعني حتماً مواجهة صيف حار وملتهب يتبعه شتاء كله عواصف لا يعلم إلا الله عز وجل باثارها وعواقبها وخفاياها ونتائجها. * كاتب وصحافي عربي.