ارتفاع أسعار الذهب    وصول الطائرة الإغاثية العاشرة ضمن الجسر الجوي السعودي لإغاثة الشعب اللبناني    مدينة سلطان بن عبدالعزيز للخدمات الإنسانية توقع اتفاقية في الطب الرياضي    بمجمع إرادة بالرياض.. 10 أوراق علمية تناقش الصحة النفسية في بيئة العمل الأحد المقبل    بمشاركة 140 طالبة.. انطلاق بطولة الجامعات السعودية للشطرنج بجامعة الملك خالد غدًا    إصابة طفل فلسطيني خلال مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي جنوب نابلس    الرقابة البيئية على الأنشطة ذات الأثر البيئي ترتفع بأكثر من 8٪؜    الأرصاد: الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    انطلاق أعمال الحوار الحضاري لخطة التعاون 10+10 بين الجامعات الصينية والعربية في شانغهاي    "مفوض الإفتاء في جازان": القران والسنة تحث على تيسير الزواج    أستراليا توقّع اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة بقيمة 7 مليارات دولار أسترالي    أمين التعاون الخليجي»: تصريحات خرازي تدخل سافر في شؤون الدول    الأحوال المدنية تشارك في المعرض المصاحب لأعمال ملتقى الصحة العالمي 2024    أمير القصيم يدشّن مشروع "وقف الوالدين" الخيري في البدائع    كيف تثبت الجريمة قانونيا بمقطع فيديو؟    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الفوز على الريان    نيوم يتغلّب على الصفا بثلاثية ويعزز صدارته لدوري يلو    وزير الدفاع يبحث مع نظيره البريطاني المستجدات    سعود بن نايف يستقبل الشدي المتنازل عن قاتل ابنه    الجدعان يترأس وفد المملكة في اجتماعات النقد والبنك الدوليين ووزراء مالية ال20    رئيس أرامكو يدعو لوضع خطة محدثة لتحوّل الطاقة تراعي احتياجات الدول    السجل العقاري يتيح الاطلاع على صكوك الملكية في «توكلنا»    شُخصت به في أوج عطائها.. مديرة مدرسة تتحدى المرض وتحصد جائزة «التميز»    الصيف والشتاء.. في سماء أكتوبر    الجبير يمثل المملكة في حفل تنصيب رئيس إندونيسيا    هيئة الأفلام: ملتقى النقد السينمائي في الأحساء    سعود ينتظر الظهور الثالث مع روما في «الدوري الأوروبي»    النصر يصطدم باستقلال طهران    5 مخاطر مؤكدة للمشروبات الغازية    طريق السلام..أم الاستسلام؟    31 مليار دولار إيرادات القطاع الزراعي    سمو وزير الدفاع ونظيره البريطاني يبحثان المستجدات والتنسيق المشترك    استثمر في الصحة    "غير الربحي" تقنيات وقصص نجاح    بأمر خادم الحرمين الشريفين.. ترقية وتعيين (50) قاضياً بديوان المظالم    ملتقى التميز المدرسي.. قفزة نوعية في قطاع التعليم !    اغتنام الفرص في زمن الكساد الاقتصادي    المملكة تدين قصف منازل شمال قطاع غزة    لكل زمن هيافته    جامعة الأميرة نورة تُطلق الملتقى السعودي الأول للدراسات العليا    المؤرخون العرب ونصرة الجغرافيا العربية    مُلّاك الإبل والمهتمون: مزاد نجران للإبل يُعزز الموروث الثقافي    فاشية الديمقراطية!    كن ممتناً    "التخصصي" يطلق وحدة السكتة الدماغية المتنقلة لتسريع تقديم العلاج للمرضى    منصة "أبشر" تستعرض خدمتي تسجيل المواليد والوثائق الرقمية    الحرف الهندية تروي حكاياتها من قلب الرياض    "الأفلام" تقيم ملتقى النقد السينمائي في الأحساء    لو علمتم ما ينتظركم يا أصحاب البثوث    نائب أمير الشرقية يستقبل رئيس جامعة الملك فيصل    ختام مسابقة القرآن والسنة في إثيوبيا    وزير الحرس الوطني يستقبل سفير أوزبكستان لدى المملكة    مستشفى صحة الافتراضي يحصل على شهادة غينيس كأكبر مستشفى افتراضي    تست4    الأمير سعود بن مشعل يطّلع على وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    الأمير سعود بن نهار يستقبل قائد قاعدة الملك فهد الجوية المعين حديثًا    الرقابي يرفع شكره للقيادة لإقامة مسابقة حفظ القرآن في موريتانيا    الخيانة بئست البطانة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التصفيق الأشباح من وراء الزجاج الأسود ... كأنها تمشي في الضباب بعيون نصف مغلقة في ما يشبه الغيبوبة
نشر في الحياة يوم 04 - 04 - 2001

التصفيق يدوي في أذنيك، بقايا حلم لا ينقطع بمجيء الصباح، تأتيك الدعوة المذهبة الحواف الى الاجتماع، منقوش عليها الرمز الأبدي منذ الفراعنة، الموعد في تمام الساعة العاشرة في قاعة الاجتماعات الكبرى، الحضور قبل الموعد بساعة ونصف الساعة بالملابس الرسمية وربطة العنق.
تلفين حول عنقك ربطة على شكل الإيشارب، حول رأسك تلفين الطرحة على شكل التيربون، يختفي شعرك عن عيون الرجال جميعاً، إلا عينيه، يغمضهما ويتثاءب ثلاث مرات، يبتلع الحبة الزرقاء بقليل من الماء، ويعود الى النوم، يواصل الحلم مع سكرتيرته الحسناء تدق على الكمبيوتر، تشبه المتدربة الشقراء في البيت الأبيض.
تبتلعين اللعاب المر في حلقك، تبلغين الخامسة والاربعين من عمرك بعد يومين، يرن الرقم في أذنيك مرعباً، يسمونه سن اليأس، يكبرك بثلاثين عاماً ويبتلع الفياغرا من دون يأس، تزوجك وأنت في الثامنة عشرة، تحلمين بالغلام من عمرك، المولود معك في يوم واحد عام الهزيمة.
تفرضين العزلة على نفسك وراء الحجاب، والرجال في كل مكان، في الشوارع والباصات ونوافذ الجيران، وفي أحلامك يتنافسون عليك، يجذبهم اليك التأجج في عينيك المكحلتين، والنداء المكبوت بين شفتيك الحمراوين، تضغطين عليهما بإصبع الروج قبل أن تخرجي من البيت، تمرين بالفرشاة فوق خديك، وظلال خفيفة فوق جفنيك، وقطرات العطر ترشيها تحت إبطيك.
تسيرين بخطوة بطيئة مثل الوزيرات، يرتج جسمك المربع فوق كعبك العالي، تشدين عضلات ظهرك وعنقك، فوق رأسك يدور التيربون بإحكام، لا تفلت شعرة واحدة للعيان، كل شيء مباح لك إلا ظهور هذه الشعرة أمام عيون الرجال.
تتأهبين لحضور الاجتماع المهم، ترتدين التايير الجديد من الصوف الانكليزي، لونه أزرق سماوي، منقوش عليه ورود حمر، انجذبت اليه عيناك وأنت تسيرين في شارع ريجنت، حين حضرت مؤتمر الأديان منذ عامين في اكسفورد، تحتفظين به معلقاً داخل الدولاب، ملفوفاً بالنايلون الشفاف، لا يخرج الى النور إلا في المناسبات، ترشقين فوق صدرك البروش الذهبي بالفص الألماس، تثبتين بالدبابيس حبات اللؤلؤ حول التيربون، وبعض جواهر قليلة حول العنق والمعصمين.
تهبطين السلالم الرخامية في الفيلا الجديدة، تسمعين صوت كعبك الرفيع يدق الأرض، تنظرين الى ساعتك الذهبية بحركة متوترة، تخافين التأخر عن الوصول في الموعد، تتحسسين الدعوة داخل الحقيبة تحت إبطك، منقوش عليها اسمك الثلاثي ولقبك الوزاري ومنصبك العالي في المجلس المنتخب والمعين بقرار واحد.
يفتح لك السائق باب سيارتك الطويلة السوداء، نوافذها محكمة الإغلاق، لا ينفذ منها ضجيج أو تراب، زجاجها داكن اللون لا يكشف الداخل، ويبقى الخارج مكشوفاً أمام عينيك، تشعرين بلذة الرؤية من دون أن يراك أحد، مثل الوزراء والسفراء والملوك والرؤساء، ممن يركبون السيارات الشبح السوداء.
من وراء الزجاج الأسود ترين الأشباح تمشي في الضباب، وجوهها شاحبة ممصوصة أو مترهلة بالشحم، عيونها نصف مغلقة في ما يشبه الغيبوبة، والجدران العالية تتغطى بالإعلانات، أجساد نساء عاريات فوق السيارات، في أيديهن المسدسات وبين شفاههن سيجارة دانهيل.
منذ الزواج أصابك الزهد في كل شيء، الجنس وقصص الحب وقزقزة اللب في السينما، يمتد بك الزهد الى الصمت عن الكلام، لا يبقى أمامك من ملذات الدنيا إلا الأكل والنهم للشراء، لكن ملذات الآخرة هي الأبقى، تشرئب عيناك في الحلم إلى القصر في الجنة، وأباريق الفضة يطوف بها الغلمان، تنجذب عيناك الى الغلام من عمرك، يحوّم طيفه حول سريرك طوال الليل، تحاولين طرده بقراءة آية الكرسي، تطرد الجان والشياطين إلا هذا الغلام من عمرك.
تتوقف سيارتك عند حاجز الأمن، يحوطه الحراس وعيون السلطة والبصاصون من وراء النظارات السوداء، تقفين في الطابور الطويل ضمن ثلاثمئة آخرين، تندهشين لهذا العدد الكبير من المدعوين، تصورت أن النخبة هي القلة، فإذا بهم كثيرون، يحمل كل منهم لقب المفكر الكبير، يصلون قبل الموعد بساعتين، يرتدون البذلات المكوية من الصوف المستورد، تتهدل عضلات سيقانهم تحت البنطال المشدود، حول أعناقهم تدور الربطة المعقودة بإحكام، شعر رؤوسهم مصبوغ بلون أسود فاقع، عيونهم المتغضنة وجفونهم المتورمة تكشف عمرهم الحقيقي، تلمع أنوفهم بنشوة الفياغرا، يسيرون بخطى وئيدة بطيئة، وأمام الباب يتقافزون على الدخول كالتلاميذ المتنافسين.
والباب صغير ضيق يشبه أبواب السجون، لا يسمح بدخول الجسم والرأس مرفوع، لا يتسع لدخول الفرد الواحد إلا بالجنب، وأنت واقفة في مؤخرة الطابور، تصورت أنك أول الواصلين فإذا بك آخرهم، تسبقك النخبة دائماً الى حيث تذهبين، يلتقطون قبلك رائحة السلطة حينما تكون بحكم الموروث منذ عصر العبيد، وخريطة الجينوم الذكوري المدرب عبر القرون.
تجدين رأسك تنحني عند الدخول، وجسدك ينثني ويلتوي، تبتلعين المهانة مع لعابك المُر، لا شيء يواسيك إلا أنك لست وحدك، وإذا كان الوباء عاماً فليس عليك حرج، أمامك في الطابور جميع الوجوه التي تظهر في الصحف، وفوق الشاشات وأغلفة المجلات والكتب.
مراسم الدخول طويلة بطيئة، بسبب الزحام وتعطل العين الالكترونية، وحرص رجال الأمن على التفتيش الدقيق، يجردونك من ملابسك من دون أن تخلعيها، وتدخلين بعد الفحص الى القاعة الكبيرة، يعلوها الوجه بحجم الكرة الارضية، معلق قرب السقف، ومثبت بالمسامير مثل ثوابت الأمة، يختفي مثل الإله وراء عمود من الدخان، ونظارة سوداء فوق العينين.
الصفوف الأمامية كلها محجوزة، مقاعدها مذهبة الحواف من القطيفة الحمراء، فوق ظهر كل مقعد قطعة ورق، مكتوب عليها الاسم واللقب، يجلسون في الصفوف بحسب الدرجة، يأتي في المقدمة الوزراء والسفراء والمستشارون، ورجال الدين والشرطة والإعلام، يأتي بعدهم المطربون والمذيعون والمذيعات، والنافخون في الآلات، وبعض العلماء والمنجمون والأطباء النفسانيون وضاربو الودع، يأتي بعدهم الأدباء والروائيون الواقعيون والحالمون لا يمكن ان يتخلف أحد، وإن كان نزيل المستشفى لتغيير صمامات القلب، سرعان ما يفيق من المخدر ويأتي قبل الموعد، مرتدياً البذلة الرسمية وربطة العنق، والأزرار مغلقة حول قفصه الصدري، يجلس مع القاعدين مكتوف الذراعين والساقين، وقدماه داخل الحذاء اللامع مشبوكتان تحت المقعد، تتورمان من طول الجلوس، تمر الساعة وراء الساعة من دون الخروج لقضاء الحاجة، فالأبواب كلها أصبحت مغلقة، ولا أحد يدخل ولا أحد يخرج.
ثم تدوي الصيحة العالية، تنتفض الأجساد واقفة والأيادي ترتفع بالتصفيق، تجدين نفسك واقفة تصفقين، يدك اليمنى تضرب يدك اليسرى في قوة من دون توقف، الدقات تحت ضلوعك تفقد انتظامها، صدرك يعلو ويهبط بحركة مرئية، تنقضي الدقائق والتصفيق مستمر، وتمتد أيدٍ سحرية تفتح باباً خفياً في الجدار، تتعلق العيون بالباب المفتوح والأنفاس مكتومة، ثم يبدأ الموكب يدخل على مهل، يأتي الحرس الخاص في المقدمة بالملابس المدنية، ويظل الباب مفتوحاً من دون أن يظهر أحد، يدب الصمت العميق بضع لحظات كأنما كل شيء مات.
ثم تظهر كتلة الأضواء، تومض الفلاشات والعدسات والآلات اللاقطة، لا يمكن للعين أن ترى الوجه وإن امتد العنق الى آخره، الأضواء الفضية تذوب داخل نسيج البذلة المكوية، الكتفان المحشوان والصدر العريض يشبه الدرع.
تجلسين في الصف الخلفي تحملقين نحوه، يكاد يشبه الوهم، على رغم المسافة الطويلة تبدو الملامح قريبة، عضلاته متهدلة، يكاد يشبه زوجك، الجفون متورمة مع انتفاخ الخدين والشفتين وما تحت العينين، نظراته هائمة ما بين السقف والجدران لا تستقر على وجه، كأنما الضوء يعميها عن الرؤية.
يستمر التصفيق يدوي وأنت نائمة، لا ينقطع بمجيء الصباح، لا تعرفين الحقيقة من الحلم، وأنت جالسة تصفقين مع الجالسين، الأيادي كلها مرفوعة تصفق، لا أحد يشذ عن المجموع، تشعرين بالمهانة وأنت تصفقين، تبتلعين المهانة مع لعابك المر، لا شيء يواسيك إلا أن الجميع يصفقون، إذا كان الرياء عاماً وشاملاً فليس عليك حرج، تدور عيناك في القاعة تبحثين عن شخص واحد لا يصفق، ترينه جالساً في الطرف البعيد من الصف الأخير، الغلام من عمرك المولود معك عام الهزيمة، يداه الى جواره لا ترتفعان، هو الوحيد الذي لا يصفق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.