سرت في الشارع. أتوقف بين الحين والحين تحت شجرة أفلتت من مقصلة تجميل المدينة، والعمران الحضاري وفقاً للمهام التي عُين لها وزير. منذ أن كبرت لم تتوقف الهمسات التي تشكو من كل شيء. كان القيظ شديداً فكنت أتنفس بصعوبة، ويسيل مني العرق تحت القميص ليصل إلى بطني، وأعلى الساقين. توقفت لألتقط أنفاسي وأزيل العرق من على جفوني حتى أرى إلى أين أسير. وجدت نفسي واقفاً أمام باب من الحديد سقطت منه أجزاء. دخلت من الفجوة المفتوحة في حديقة ممتدة أمامي إلى فضاء لم أستطع أن أبصر فيه شيئاً، ثم ظهر على يساري ما بدا لي أنه ظل أو ربما جدار. أصبحت أرى ظلالاً ليس لها وجود. أحسست بالحزن يزحف عليّ، فقد خطر في بالي أنني سأعجز قريباً عن السير، لكن في تلك اللحظة وجدت نفسي سائراً بخطوات بطيئة، مترددة قرب صف من الأشجار. توقفت من جديد لأتأكد مما رأيته، وصرت أتطلع إليها. كانت لها جذوع طويلة ونحيلة ينتهي أعلاها بما يشبه مظلة من الأغصان تحمل أوراقاً خضراء رقيقة، وزهوراً صفراء اللون، كانت تميل في الريح بحركة أعادت إليّ صورة قديمة، إلى تلك الفتاة ذات القوام النحيل يرفع رأسها الملفوف في منديل أصفر اللون. كنت أراها وأنا عائد من المدرسة سائرة في غيط وهي تميل بجسمها ميلاً خفيفاً مثل رقصة النخيل في الريح. لا أعرف هل ظللت واقفاً في مكاني أم مشيت قليلاً في الحديقة. كانت مستطيلة. قرب نهايتها، أو ما يبدو لي أنها كانت نهايتها فوجئت برجل يجلس على مقعد من الخيزران. كان يرتدي جلباباً من «السكاروتة» فاتح اللون يصعد من فتحته عنقُه الأسمر القوي، ووجهه الأسمر ملامحه خشنة قليلاً. تمعنت النظر فيه فقد فوجئت به في الحديقة، في جبهته العريضة، وشعره الكثيف المنكوش لم أتبين لونه وإن ظهرت فيه ربما شعيرات بيضاء قرب الأذنين، كان أنفه مربعاً تطل من أعلاه عينان تتأملان وجهي في هدوء. تملكتني الدهشة. هذا الرجل أعرفه، هو قريب مني حميم، في نظراته شيء يدعوني إليه. لكن كيف يكون جالساً هكذا في هذه الحديقة فقد مات منذ سنين؟ اقتربت منه. ضغطت بيدي على فخذه الممتلئ بحركة ود سريعة فقد كان شخصاً عزيزاً علي وسعدت برؤيته حياً، جالساً في الحديقة. في تلك اللحظة استيقظت. جلست على حافة السرير، وأنا أفيق بالتدريج من ثقل النوم، تطلعت من فتحة في الشيش إلى الأشعات الأولى للشمس تصعد في السماء حمراء وبرتقالية اللون. ظل الحلم يدور في ذهني. عاد بي إلى صورة للرجل كان يرتدي فيها بزة مخططة أنيقة. كان جالساً على أريكة، مائلاً ناحيتي باهتمام من دون أن يسند ظهره على الأريكة، وأنا إلى جواره صبى، بشرتي بيضاء، وملامحي ما زالت وديعة. مد يده إلي بساعة من الفضة مستديرة الشكل ورفيعة، وجهها أبيض ولها مؤشرات وأرقام فيها رقة، ساعة سويسرية ماركة «لونجين» بسيطة بساطة الذوق القديم. ربطتها على معصمي بأصابع ترتعش من الفرحة ملأت قلبي. أول ساعة في حياتي أرتديها. حملتها معي خلال سني العمر الطويلة إلى أن ضاعت مني، لا أعرف كيف، ولا أين، ربما في غرفة فندق في الهند، أو أثناء حملة تفتيش في السجن، ربما في سرير للعشق جعلني أنسى أن هناك زمناً تسجل مروره ساعتي اللونجين، أو في تخشيبة قسم بوليس مخصصة لحجز المجرمين والمشردين في المدينة. قال لي عمي يومها «هدية عيد ميلادك»، وفي عينيه تلك النظرة التي لمحتها في الحديقة، ثم مرت السنون فظننت أنه مات إلى أن التقيت به صدفة جالساً على مقعد من القش، وقد لفّ جسمه الأسمر المربع في جلباب من السكاروتة، فاتح اللون.