قد تكون المرة الأولى - ربما - يطل فيها تلفزيونياً هذا "الحشد" من الممثلين المسرحيين المحترفين على اختلاف أجيالهم. فهؤلاء وحدهم بدوا قادرين على اضفاء طابع خاص على مسلسل "من برسومي" وعلى خلق مناخ مسرحي أمام كاميرا ذات "هاجس" سينمائي واضح تمام الوضوح. غير ان اللعبة لم تكتمل في أبعادها الثلاثة المسرحية والسينمائية والتلفزيونية لو لم يتوافر لها مخرج قدير هو إيلي أضباشي "الابن" الوفي للثقافة السينمائية. وينبغي أيضاً عدم نسيان المصوّر حسن نعماني صاحب العين المرهفة ولا الكاتب سمير مراد الذي يخوض أولى تجاربه في كتابة السيناريو والحوار. يحار المشاهد أمام مسلسل من طراز هذا المسلسل غير المألوف وغير المعهود تلفزيونياً: ما الذي يجذبه أكثر، جو المسلسل المتفاوت بين طابعين، قروي ونضالي، أم لعبة التمثيل التي يؤديها ببراعة ممثلون مسرحيون محترفون في معظمهم أم لعبة الاخراج التي استطاعت أن تنسج السيناريو والحوار في لغة تلفزيونية جميلة ومرهفة تخاطب العين مقدار ما تخاطب المخيلة والذاكرة؟ نجح أيلي اضباشي في ادارة الممثلين افراداً وجماعة مستفيداً من قدراتهم ليخلق مناخاً "درامياً" قائماً على حضورهم وليس على ادائهم فقط. ونجح المخرج أيضاً في خلق حال من التناغم بين الشخصيات والممثلين وبين هؤلاء والوقائع لئلا أقول الأحداث التي تحصل أو تجري. وإن بدا المسلسل يعاني بعضاً من الوهن في السيناريو، فإن المخرج استطاع ان يتخطى هذا الوهن مركزاً على مبدأ "الجو" أو "المناخ" الدرامي العام أولاً ثم على الشخصيات كمجموعة "كاريكتيرات" غاية في الطرافة والالفة. والوهن "التقني" في السيناريو لا يعني أن الكاتب سمير مراد لم ينجح في كتابة الحوار. فالحوار كان ذكياً وجميلاً ونابعاً من واقع تلك الشخصيات القروية التي تعيش حالاً من الانقسام السياسي على طريقة أهل القرى اللبنانية في مرحلة الحرب العالمية الثانية. ربما هي "القصة" أو الحكاية نفسها انعكست على بنية السيناريو إذ أن "القصة" كمادة سردية لم تكن هي الأساس في المسلسل. فالوقائع أو الأحداث قليلة أو طفيفة في المفهوم "التقني" والتنامي الدرامي لا يتم من خلال الحدث المضطرد وإنما من خلال الجو العام الذي يندمج فيه التاريخ بالذاكرة والمخيلة. إنها باختصار قرية "برسومي" في واقعها الشعبي والقروي، تنقسم بين مؤيدي قوات فيشي ومؤيدي قوات فرنسا الحرة التي تؤازرها الدولة البريطانية. والانقسام لم يبدُ سياسياً أو "ايديولوجياً" مقدار ما بدا جزءاً من السياسة القروية التي لا تتعدى الصراع على مركز "المختارية" و"الناطور" كما يقال. فمعظم أهل القرية على قدر من السذاجة السياسية والاجتماعية. لا يعرفون تمام المعرفة مَن يكون هتلر مثلاً ذاك الذي رفع صورته أحد المتعاملين مع القوات الفيشية نديم الفايظ انطوان بلبان. وإن كان معلم القرية أحمد علي الزين هو الأكثر قدرة مبدئياً على معرفة أسرار السياسة فإنه لم يكن مبالياً كثيراً بالسياسة، على غرار الكثير من الشخصيات الأخرى المشغولة بالحب في مفهومه القروي، البريء والنزق في آن. إلا أن السذاجة التي ظهرت من خلال سلوك أهل القرية وبعض مواقفهم وعلاقاتهم كانت مصحوبة أيضاً ببعض من "الخبث" القروي و"العناد" والشرّ والحماسة والغيرة والتعنّت. وهذه كلها برزت في الصراع على مركز "المختارية" مثلاً وفي "المماحكة" حول بعض الأمور الصغيرة واليومية. لم تكن السياسة كما يعيشها أهل القرية بعيدة عن فخّ المماحكة والصراعات النافلة على رغم مضيّ بعض القرويين في مهمة النضال ضد القوات الفيشية. وفي طليعة هؤلاء المناضلين المختار سامي موريس معلوف الذي زُجّ في السجن عقاباً له على نضاله السياسي. والمختار هذا هو الأقل سذاجة بين الأهلين والأكثر وعياً وذكاء ووطنية. ويمثل نموذج المواطن المثالي الذي ينبذ الطائفية ويؤمن بوحدة "القرية" وناسها. وبرز قبالته الخائن نديم القايظ ممثلاً نموذج "العميل" أو "المتعامل" مع المحتل. وبدت الشخصية على شيء من المبالغة سواء في ملامحها أم في أدائها. ولم يكن شخص هذا العميل يحتاج الى مثل هذا التضخيم ليظهر في مظهر العميل المكروه وشبه المجنون. فجنونه كان مفتعلاً وغير مقنع وكذلك عنفه الذي مارسه على زوجته كارول الحاج، علماً ان وجهاً آخر برز من شخصيته هو وجه "المرابي" والمتاجر بمآسي القرويين. وهذا الوجه يفترض الكثير من الحنكة والحيلة. ولعل اللقطة الجميلة تلك التي أدتها كارول الحاج لحظة علمت أن زوجها "الديكتاتور" مات قتلاً عبّرت عن الكراهية التي تكنّها له. شعرت للحين أنها تحررت وأنها عادت الى أنوثتها فبدلت ثيابها وتبرّجت عوض أن تحزن وتعلن الحداد. شخصيات طريفة جداً وممثلون حقيقيون في معظمهم يؤدون تلك الشخصيات بحذاقة وطرافة وألفة، دامجين بين الأداء العفوي والأداء "الكاريكاتوري" الساخر، بين عيش تلك اللحظات الصادقة واللعب على المواقف، بين الواقعية والطبيعية و"التضخيم" الطفيف. فالمسلسل عماده تلك الشخصيات والشخصيات وقف على الممثلين الذين نجح المخرج في ادارتهم وفي التمهيد لهم وللعبتهم. وكم بدت رائعة عودة انطوان ولطيفة ملتقى الى الشاشة الصغيرة في دورين طريفين: انطوان يؤدي شخصية "المناضل" العجوز الذي ما برح يقتات من ذكرياته "العروبية" المجيدة. ولطيفة تودي دور بادرية الجدّة التي ما برحت نفسها "خضراء" عاطفياً. ولعل العلاقة العاطفية "المؤجلة" بينهما والخفرة والملتبسة بدت جميلة في انسانيتها. أما المخرج والممثل المسرحي موريس فكانت اطلالته مفاجئة أيضاً ومتينة. ومنحها معلوف الكثير من خبرته الطويلة مجسداً شخصية "المختار" الوطني والمناضل والعاشق الذي لا يتوانى عن خيانة زوجته. فالخيانة الزوجية مسموحة في هذه القرية على خلاف خيانة الوطن المرفوضة تماماً وأي وطن؟. وخيانة المختار وخيانته هي قصة حبّ يعيشها مع "داية" القرية تقلا شمعون التي أحبته روحاً وجسداً. وكم بدت تقلا شمعون رائعة في شخصية "الداية" التي لم تؤدّها فقط، بل "تقمّصتها" صوتاً ولفظاً وحركة وتعابير. ناهيك بالجرأج التي جعلتها تلتصق بشخصية المرأة العاشقة. أما أهل القرية فكانوا أشبه ب"التشكيلة" التي طالما عرفتها القرية اللبنانية: المختار بالتعيين سعدون السكيكي غبريال يمين، المختار بالحيلة مشهور القبوط جورج كعدي، الكندرجي الساذج نزيه يوسف الذي يؤيد حكومة فيشي والألمان تيّمناً بمعلمه نديم الفايظ، دعاس اللحام أسعد حداد، الحلاق يوسف فخري، أم جميل كارمن لبّس، منتورة جيزيل بويز، شروف فاديا صعيبي، سليمة ريتا دكاش، الفران غازاروس الطونيان، الدكنجي مارون شرفان، مأمور الأحراش علي مطر، المعاز صلاح مخللاتي، البوسطجي فايق حميصي وسواهم... جميع هؤلاء الأشخاص صنعوا بحق صورة حقيقية لقرية متوهمة وكانوا قاعدتها الاجتماعية الحافلة بالقصص الصغيرة، الساذجة والأليمة، الطريفة والمأسوية... أم جميل كارمن لبس، في اطلالة جميلة ومختلفة كانت تنتظر رسالة من زوجها "المغترب" مملوءة بالحب والحنين وبعض المال... وعندما فتحها معلم المدرسة القارئ الوحيد مثلما بدا تلعثم. وراح يقرأها. حينذاك لم تستطع أم جميل أن تتحمل ما ورد فيها، فأبو جميل أرسل يطلب الطلاق منها من دون أن يغفل ارسال بعض المال... هكذا هي بعض قصص قرية "برسومي" حزينة وكئيبة. لكن القرويين قادرون على التناسي وخصوصاً عندما تكبر حكاية المواجهة بين الجيوش الغريبة على أرضهم وتهدر المدافع في سمائهم. يصعب نسيان أي ممثل في المسلسل حتى وإن كان دوره صغيراً. فالممثلون يحضرون هنا كما لم يعتادوا أن يحضروا في مثل هذه الاطلالات الجميلة والمحكمة وفي مثل هذا الاداء الغني والمتنوع: نقولا دانيال الادجيدان رعد، بول سليمان ضابط روود، أسعد رشدان الدركي سبع، بيتر سمعان اليهودي مزراح، رضوان حمزة الملثم... أما كارول الحاج فانتقلت ببراعة من شخصية الزوجة القروية المأسورة سلاسل الحديد التي كانت أولى ضحايا "العميل" نديم الفايظ، الى شخصية الزوجة الفرنسية فرنسواز العاشقة التي لا تتردد عن خيانة زوجها الكولونيل الفرنسي مع أحد الضباط المنقلبين ضد الحكم الفيشي. وفي الشخصيتين بدت كارول الحاج ممثلة قادرة على أن تطلّ إطلالتين مختلفتين تماماً في عمل درامي واحد. أما الاخراج في ما يتضمن من تقطيع و"كادراج" وإيقاع وحركة فكان ذا نزعة سينمائية واضحة. وبدا ايلي أضباشي رساماً وشاعراً في اختيار اللقطات وتصويرها وفي تجسيد مناخ القرية تجسيداً جمالياً و"درامياً". فلا مجانية هنا ولا مبالغة ولا ثرثرة بل حركة متواصلة من الصور والمشاهد وفق ايقاع حيّ بعيد عن الرتابة. وسعى المخرج الى تغليب منطق الاخراج السينمائي ضمن ما توافر له من امكانات. فابتعد عن عالم الاستديو وشاء التصوير في "الخارج" أي في وسط الطبيعة والقرى والمنازل القديمة والأحياء... علاوة على تركيزه على علاقة الممثلين بالمكان الذي غدا جزءاً منهم مثلما كانوا جزءاً منه. هنا يمكن تذكّر بعض المشاهد بسهولة: مشهد التنور، مشهد الوضع، مشهد المحاكمة، مشهد البوسطجي، مشهد الاستقبال... أما اللافت فهو العلاقة الجريئة بالتاريخ اللبناني. وتمثلت الجرأة في استحضار بعض العائلات اليهودية التي وقعت ضحية بعض "النازيين" في تلك الفترة. لكن الاطلالة اليهودية تلك كانت تحتاج الى مزيد من الايضاح والبلورة فلا تبقى ملتبسة أو غامضة في مسلسل يفضح حقبة بكاملها. وأجمل الفضائح سذاجة "الجندرمة" اللبنانيين العاملين تحت أمرة حكومة فيشي. وهي سذاجة تضاهي سذاجة القرويين المنقسمين على نفسهم سياسياً من دون أن يكونوا معنيين كثيراً بما يحصل من حولهم. ولعل جرأة الكاتب سمير سعد تكمن في فعل الفضح هذا، فضح "أكاذيب" التاريخ اللبناني من خلال هذه القرية الحقيقية والمتوهمة في الحين نفسه. فاللبنانيون الذين تعاملوا مع الحكم الفرنسي لم يمثلوا كل اللبنانيين، بل ان الكثيرين منهم اختاروا النضال ضد الظلم الفيشي والنازي. وهذا النضال سوف يستمر لاحقاً ليتحول الى نضال ضد الانتداب الفرنسي ولن ينتهي الا غداة الاستقلال. وما أحوج الشاشات اللبنانية حقاً الى كاتب من طراز سمير سعد يدرك جيداً كيف يقرأ المعطيات وكيف يعيد كتابتها حتى وإن لم يكن اعتاد تقنية السيناريو. * يعرض المسلسل على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال أل بي سي.