الجمهور اللبناني الذي تابع حلقات المسلسل المحلّي "اسمها.. لا" لن يتمكّن من معرفة أي "بطلة" ستنتصر في الختام: سهى أم سلا. فالتلفزيون اللبناني سيضع نهاية "مفتوحة" لهذا المسلسل عبر انقطاعه عن البث بعد القرار الرسمي الذي قضى بإغلاقه فترة بغية الاصلاح والتجهيز. والفترة هذه التي قد تطول ستدفع الجمهور الى تصوّر "نهايات" مختلفة للصراع الذي عاشه معظم شخصيات هذا المسلسل. وربما هي المرة الأولى التي يحصل ما يشبه هذه النهاية "المعلّقة" فيتصوّر الجمهور أقدار الشخصيات التي رافقها كما يحلو له أن يتصوّر. فالمسلسل يصعب أن يعود بعد طول انقطاع حتى وإن عاد التلفزيون الى البث في صيغة حديثة وعصرية يحلم بها البعض ويشك بها البعض الآخر. كان مسلسل "اسمها.. لا" ناهز الحلقة الستين وبات الصراع "التقليدي" بين الخير والشر في أوجّه بعض ملامح الختام بدأ يلوح، عبر انتصار البعض وهزيمة الآخرين. الا أن استباق مخيلة كاتب القصة والسيناريو شكري أنيس فاخوري والتكهّن بمصائر الشخصيات ليسا من الأمور السهلة. فالكاتب أصلاً لم ينه كتابة الحلقات وهو لا يدري العدد الذي "كان" من الممكن أن يبلغه المسلسل. وهذه طريقة طريفة في الكتابة إذ يدخل في حسبانها تفاعل الجمهور مع القصة ما يدفع الكاتب الى بعض التبديل والتصرّف على ضوء ذلك التفاعل. سيكون إيقاف المسلسل قبل أن يصل الى نهايته بمثابة ضربة موجهة الى أكثر من جهة: الى الكاتب والممثلين أولاً، ثم الى الانتاج، ثم الى الجمهور الذي تابع "القصة" في ما يشبه الشوق واللهفة. فالمسلسل كان بدأ يجلب المزيد من الاعلانات تبعاً لرواجه الشعبي، على رغم نفور الجمهور اللبناني عموماً من المحطة الرسمية التعيسة وشبه المتخلّفة. نجح المسلسل في مزاحمة المسلسلات الأخرى التي تعرضها الشاشات الأرضية والفضائية: المسلسلات المكسيكية الباهتة والمسلسلات العربية التي بدأت تقع في الرتابة. حاول المسلسل أن يقدم جواً آخر لا يخلو من "المفاجآت" المكسيكية ولا يخلو كذلك من التشويق البوليسي وبعض "التشويق" الإباحي الخفيف والذكيّ الذي لم يتخطّ حدود الحشمة حتى وإن تصاعد لفظياً أو كلامياً. ونمّ هذا العنصر الإباحي عن وعي الحال التي يتخبّط فيها مجتمع ملؤه الفساد والانحطاط. ولكن قبالة هذا الانحطاط الأخلاقي كان هناك الحب البريء والحقيقي والصافي وهو الذي سيكون أداة لفضح الأمراض النفسية والأخلاقية التي تسود مثل هذا المجتمع. سعى المسلسل الى أن يكون واقعياً ولبنانياً من خلال بعض الإشارات الواضحة في الأحداث والمعالم والحوارات. لكنه ظل أقرب الى "المكسيكية" ولكن في تميّز واختلاف. مسلسل لبناني في صيغة مكسيكية أو العكس ربما. لكنه أيضاً مسلسل مكتوب بذكاء وطرافة ومبنيّ بحذاقة ومفتوح على الصراع القائم على خلفية من التشويق البوليسي. ويمكن اختصار هذا الصراع عبر العلاقة السلبية القائمة بين الشخصيتين الرئيسيتين: سهى كارمن لبّس وسلا كارول سماحة. هاتان الشخصيتان تختصران الجهتين اللتين تعيشان "أحوال" المواجهة والتحدي والكراهية والانتقام... لكن رموز الخير ستختلط في رموز الشرّ حتى تختفي الحدود في وجدان بعض الشخصيات الأخرى. فالأم ألفيرا يونس التي خانت زوجها ميشال تابت مع حبيبها الأول أسعد رشدان وأنجبت منه ابنها مجدي مشموشي هي حال وسطى بين الخير والشر. الخيانة تغدو هنا على قدر من البراءة لأنها أعادت الى المرأة المظلومة والمحذوفة من الحياة بعضاً من وجودها وحياتها. حتى سلا نفسها لم تتسلح بالشر إلا من أجل أن تحقق حلمها وهو الحب الحقيقي. غير ان معطيات الشر ستظل قائمة وكذلك معطيات الخير على رغم تداخلها بعضها ببعض في أحيان. ربما كانت شخصية سهى هي أشد الشخصيات درامية في المسلسل. وقد أضفى أداء كارمن لبّس عليها المزيد من العمق والتوهج. ونادراً ما شاهد الجمهور ممثلة شابة تؤدي بمثل هذا النزق وهذه الشفافية. إطلالة تذكر حقاً ببعض الاطلالات السابقة لممثلات رائدات من مثل نضال الأشقر ومادونا غازي ورضى خوري وسواهن. صحيح ان الشخصية غنية وحافلة بالمتناقضات، لكن الأداء بدا محيطاً بها ومجسّداً للنزعات الداخلية والتفجّرات التي تختزنها في روحها وجسدها. وكم بدت مصادفة جميلة ان تكون كارول سماحة "غريمة" كارمن لبّس. ممثلة أخرى بدت مرهفة جداً في تلبّس تلك الشخصية العميقة والصعبة: طالبة جميلة تقع في حبّ استاذها البريء والمتورّط في لعبة الأب والأخت وتسعى الى انقاذه من براثن الشر. ومثلما عاشت سهى صراعاً داخلياً بين الماضي والحاضر عاشت سلا بدورها صراعاً بين ماضٍ وحاضر. إلا أن كارمن لبّس كانت تلك المرأة التي من لحم ودم كما يقال ومن هواجس وكوابيس. وما أجمل تلك اللقطات التي بلغت فيها ذروة التفجّر الداخلي أو تلك اللحظات التي كشفت فيها أسرارها الأليمة وعلاقتها المتوترة بأمّها وكانت شاهدتها تخون والدها على سريره. حينذاك انكسرت في وجدانها صورة الأم ومعها انكسر مثال البراءة. وبدا من السهل على فتاة مثلها أن تنجرف في الشر مخدرات وتجارة أطفال وجرائم... بعدما فقدت توازنها النفسي والروحي. لكنها كانت ترجع حيناً تلو آخر الى حقيقتها المقموعة لتمسي تلك المرأة الضعيفة والمنهكة التي تحتاج بشدة الى لحظة حب أو حنان. هذه الشخصية المعقدة لم يكن لها أن تنهض وتصبح شخصية حية لو لم تؤدّها كارمن لبّس أداء متنوّع الأدوات والوتيرات والأمزجة. فهي سعت الى توظيف عينيها وصوتها مثلما وظفت ما تيسّر أمام الكاميرا من حركة الجسد وكذلك سلوكها ومزاجها الحاد. اداء داخليّ قائم على عيش اللحظة يوازيه أداء خارجي متمثل في طواعية الصوت وتقطّع النبرات وفي حدّة النظرات التي تبوح وتمتنع في الحين عينه. أما كارول سماحة فلم تقل براعة وحذاقة عن غريمتها في المسلسل. لكن اطلالتها بدت مختلفة تبعاً لاختلاف الشخصية نفسها. اداء ذكي ومتماسك يعي أدواته وحدوده بدقة. إنها الفتاة التي ترفض ان تتخلى عن البراءة حتى عندما تنقلب الى عاشقة منتقمة. وعندما تدرك أسرار حياتها تزداد شراسة وبراءة في وقت واحد. وشخصية هذه الفتاة ساعدت كارول سماحة على تلوين الأداء وأتاحت لها الانتقال من حال الى أخرى تناقضها. وإن بدت قصة "اسمها لا" شبه مركّبة وشبه "مكسيكية" أي قائمة على مفاجآت "قدرية" مفتعلة وهزيلة في أحيان فإن بعض الشخصيات استطاعت أن تفرض ملامحها لتصبح قريبة وأليفة من الجمهور. وبدا واضحاً أن علاقة الجمهور بالمسلسل لم تقم على "القصة" وحدها. فالقصة لا تختلف في أحداثها عن الكثير من المسلسلات ونهايتها قد تمكن معرفتها مسبقاً. الجديد في هذا المسلسل هو بناء الشخصيات أو رسمها وتكوينها. فالشخصيتان الرئيسيتان سهى وسلا قادرتان أن تجذبا الجمهور كشخصيتين. وكذلك شخصية أخت سهى كريستين شويري ذات الاطلالة اللطيفة والجميلة وشخصية خطيبها الممثل القدير شربل زيادة. حتى شخصية المفتش الطريف والمثقف أداها برهافة بيتر سمعان الذي يحقق في القضية على طريقة أبطال أغاثا كريستي. ويجب عدم تجاهل شخصية الفتاة العمياء ابنة خالة سلا التي أدّتها ببراعة كلوديا مرشليان على رغم استنفاد الكاتب فكرة عمائها. وهي لم تكن تحتاج كشخصية أن تلعب هذه المفارقة. وهناك أيضاً شخصية والد سلا كمال حلو والحبيب القديم والوالد غير الشرعي أسعد رشدان في إطلالة مميزة... وقد تطول لائحة الشخصيات والممثلين... انحاز المشاهدون إذاً الى هذه الشخصيات وعاشوا معها الأحداث والحالات المتقلبة والمفاجآت. البعض انحاز الى سلا ولكن مع تبرئة سهى التي وقعت هي بدورها ضحية خيانة الأم ومجون الأب. والبعض برّأ الأم من الخيانة لأنها لم تجد الحب إلا مع حبيبها الأول الذي أبعدت عنه قسراً تحت إغراء المال. والبعض أيضاً برّأ الفتاة اللعوب التي لم تعترض على أن تتصوّر عارية في سرير صديقها الفنان تذكيراً بحادثة نيكول بلان... كان لا بد إذاً من أن تكون الشخصيات هي صلة الوصل الحقيقية بين جو المسلسل والجمهور. فمعطيات القصة في أحيان مضحكة وهزيلة ومبالَغ بها وخصوصاً تبييض الأموال والمخدرات وتجارة الأطفال.... وهذه العناصر تجيد المسلسلات أو الأفلام الغربية تركيبها وصوغها أكثر من الأعمال التلفزيونية اللبنانية والعربية والمكسيكية طبعاً نظراً الى ما تتطلّب من دقة وموضوعية. وقد نجح فاخوري في نسج تلك الشخصيات وبناء معالمها ومنحها بعض الملامح الفريدة حيناً والطريفة حيناً، مبرراً أفعالها تارة ودافعاً بها طوراً الى مواجهة مصيرها. أما اللافت فهو هيمنة النص المكتوب أو السيناريو في معنى ما على حركة الإخراج. ففي مثل هذا المسلسل يبدو الإخراج تنفيذاً للسيناريو الجاهز مضافاً إليه بعض الحركة وبعض التفاصيل. فالتصوير في معظمه لا غاية له إلا أداء وظيفته وخصوصاً أنه يدور في معظمه داخل الاستوديو. اللقطات الخارجية قليلة. ولئن نجح المخرج ألبير كيلو في رسم بعض اللقطات الداخلية الجميلة سهى أمام المرآة، الطفلة سهى، مشهد السرير... فإنّ جزءاً من التصوير بدا يحتاج الى التنويع والتخييل والغنى في حقول الصورة وأبعادها. وطغت الحوارات في أحيان على المواقف والشخصيات جاعلة من المسلسل منبراً للكلام الطريف والنهفات على طريقة زياد الرحباني والكلام الشعري والعاطفي. على أن مسلسل "اسمها.. لا" يظل على رغم بعض الهنات، من أفضل المسلسلات التي قدّمها تلفزيون لبنان، هذا التلفزيون العجوز الذي سيعاد تجديد شبابه إن أمكن. ويكفي أن يجمع المسلسل بعضاً من الممثلين الجدد والشباب الذين خبروا الأداء على المسرح قبل أن يقفوا أمام الكاميرا، اضافة الى بعض المواهب المفاجئة كريستين شويري....