في "اليومين" اللذين يكتب فيهما انطوان يونس شعره اللبناني، وهو يقول "يومين" تصغيراً لغوياً ومعنوياً، يضع الشاعر العمر كله، وحوادثه من الولادة إلى الموت، ويضع الكون كله، من طلوع الشمس الى انطفاء النجوم. وهذا المذهب في تدوين الحوادث البشرية والحوادث الكونية يرثه الشاعر اللبناني، ب"اللبنانيي"، تراثاً يتحدر اليه من كبار شعراء العامية، وهم أهل "القول" أو القوالة والزجالون. وعاميتهم، او لغتهم العامية، انما هي لغة على معنى الاحاطة والجملة والاستيفاء. فهي ليست "لهجة"، على خلاف زعم مخالفيهم من أهل الفصحى. ولو كانت لهجة لاختصت بموضوعات او بأبواب قول وبمعانٍ تطرقها، من دون موضوعات وأبواب اخرى تمتنع عليها. وهذا، اي الامتناع من الخوض في الموضوعات والمعاني كلها، ما لا يقيد انطوان يونس اليوم، على نحو ما لم يقيد اقرانه الذين سبقوه الى "فرقة بنت العرزال" خليل شحرور وصعب كفوري...، أو زملاءه في "جوقة صنين" يوسف الحاج وانطوان خليل وعلي شريم.... فمع ميشال طراد وسعيد عقل وأسعد السبعلي دخلت "اللغا اللبنانيي" المعاني كلها، ولم تستثن معنى او باباً. وصارت العامية، من طرف ساخر وغير مقصود ربما، تلم بالاختبار الانساني كله، تواضع هذا الاختبار او سما، ولا تتهيب وجهاً من وجوهه او مرتبة من مراتبه. فهي عامية لأنها تعم ما لا يدركه غيرها، ولأنها مرآة هذا العموم على أدق تفاصيله ومسالكه ومذاهبه. وفصل "قلب عَ الورق"، على ما يسم انطوان يونس آخر ابواب ديوانه او آخر كومة من كومات قصائده، موقوف على يوميات "اليومين" وصاحبهما. وأهل اليوميات وأصحابها هم "بيي وأمي ... والأسامي الباقيين المحفورين بالقلب". وهم سكان "مِيَّات الصفحات المكتوبي" بحبر مسحور يسأل بلسان الإنسيين، مثل فاكهة بستان في "ألف ليلة وليلة" أو مثل حوت في القصص الديني، "وين ه الغيبي؟". وهؤلاء السكان يتناولهم الشاعر على اطوارهم وأحوالهم كلها. فهم يتوهجون "جمر" جمراً على شاكلة خد "الصبيي" لما كانت صبية ولم يترك اللون خدَّها ولم يميل به الى الصفرة. ولكن جمرهم هذا، على قوته، لم ينسلخ من "خيط الحرير"، ولا من جمعهِ الوهن العنكبوتي الى مراس "المَيِْبر" وصبره. ولعل جمع هذه كلها، الجمر والصبي والحرير والميبر والموقد والتنور و"الرواح" ذهاب الريح والروح كناية عن الموت في "خبر" "شو عاد بدي خبّرك من هون"، على ما يجمعها يونس ويكتبها، يحيلها شعراً عامياً، ويقرّبها من القلب ومن الورق معاً. ف"الغنا" و"الدعا" و"الرني بالقلب" و"الاسم اللي بيمرق ع الشفاف" و"تصوير الخيال بالحنايا" و"غصة الهجرا"، كلها واحد. وكلها تؤدي، على شاكلة سواقي المثل اللبناني، الى بحر الشعر وتصب فيه. وصيرورتها شعراً "لِبْناني" لبنانياً - على خلاف زعم الشاعر "رفقة" الشعر له منذ حبوه "إسمعو من بيي بالحقلي، وبقصص إمي، وبحلقات السهر حول الموقدي، وحفلات ساحة الضيعا..." - تفترض صنعة قديمة، وتقليداً عريقاً، وباعاً وثقافة. والصنعة والتقليد والباع هي التي تقلب "البي" الأب "بيت" وعمارة، ثم "دعمة" ركناً وسنداً، وتجعله "دخيري" ذخيرة ومؤونة. فالعامية، على ما يَعْرفها انطوان يونس، تحمل الحياة على انشاء وترتيب وصنعة. وليس هذا الحمل من باب التشبيه او الاستعارة وحده، بل هو اعتقاد يدمج الخلق بالصنع، ويوحد مثاليهما في مثال واحد. فيقول صاحب "كلُّن يومين"، وأذنه ترنو الى "شهقات ورد" سعيد عقل: ... وعَمّرِك بالبال بيت بجرد/ الصيف يشتقلك... يغار البرد/ وَيغْفى بشعرك ليل طول الليل/ وتوعي ع زند الفجر شهقة ورد./ وتتولى "اللبنانيي"، شأن اليونانية والسريانية والعربية من غير ريب عندما كانت عاميات، قول نظائر المثالين، وتنبيه من خفيت عليه وهو "الحمار" في لغة الشاعر الى هذه النظائر. ويذهب المنطق الشعري العامي هذا، على معنيي العامية المتقدمين، بالشاعر الى القول مخاطباً أباه: ويا ريت فيّي إعملك إبني نهار/ ت صير حبَّك قد ما بتحبني./ فالسعي في الشبه، والبلوغ به مبلغ المساواة والمكافأة، هما باعث قوي على القول الشعري اللبناني. والحق ان السعي في الشبه لا يبلغ الشعر الا لأنه لا يغفل عن فعل الزمن في المتشابه والواحد، وجري "اليومين" في ثنايا الحياة والحي. فلا يبقى غير "الخيال" آلة إلهية الى تمثيل الشبه فيما أَعمل فيه الزمنُ "الدنيي" تفريقاً واختلافاً وزوالاً عن نفسه. ويتتبع انطوان يونس ما كانت العرب وهو يحدس في جذور لغتها يوم كانت... عامية او عاميات تسميه مظانَّ هذا السعي. ويبلغ في تتبعه الاستيفاء. ويشفع تتبعُه الصورَ والرسوم والمعاني بإيقاعات تولد والصورَ والمعانيَ من رحم واحدة، على ما كان ليقول لو عاد الى عامية العربية. فيمتد البيت: وشعرِك مثل غابي ع طول الحور/ ويتعرج: إنتي دني عليكي ما في إنس اهتدى/ ويخب: لما وصلنا ع الستين/ وعربشنا طالع طالع/ ويحج: لاكن عم شوف من بعيد/ العيد بمعبد عينيكي. كل ديوان، وعيد ديوان، وانطوان يونس بخير.