اجتمعت لوحات الفنان السوري الراحل فاتح المدرس مع لوحات ابنه فادي في معرض مشترك المركز الثقافي السوري، واحتلّ كل منهما قاعة خاصة ووقعت بينهما لوحة وحيدة مشتركة، من المجموعات التي أنجزها الأب والابن معاً وحملت اسمهما قبل وفاة الأب في حزيران يونيو 1999 ميلادية. حملتني هذه اللوحة الى زيارتي الفنان الراحل قبل وفاته بأشهر قليلة في حي الشعلان في مرسمه الدمشقي تحت الأرض. وهالني في حينها انتصار المرض على أسطورة فاتح، ومدى ضعفه وتمسكه بالحياة والفرشاة. كان منشغلاً على وهنه بتصوير اللوحات الممدّدة على أرض الصالتين، يتنقّل من واحدة الى اخرى ببطء ومرارة من دون ان تفارقه ابتسامته الدمثة. بادرته بالسؤال وكنت واقفاً كاتماً خيبتي حيال توقيع اللوحات باسمين: "فاتح وفادي مدرّس". منعته أنفة روحه من الاجابة، ولم أكن أعرف من يرسم قبل الثاني الأب ام الابن؟ ولكن استهجاني انقلب اليوم مع تعرفي الى تجربة فادي قبولاً نسبياً بهذه الشراكة. فبعض لوحاته على عددها القليل تخلّصت من خصائص والده أو آثاره. وعلى رغم ان بعض اللوحات مرتبكة وطرية العود بسبب تقليدها منهج الأب فإن بعضها حقق خروجاً كاملاً عن قطار فاتح وعن مدرسته. فهو يؤنسن بعض الجمادات والعناصر الحلمية والسوريالية في طريقة ذاتية. وكنت تعرفت للمرة الأولى على تجربة الابن فادي بمعزل عن التوقيع المشترك وأدركت عناد الأب في دفع وصيته للسباحة خارج بركته، فهو نوع من الاصرار القسري قبل الرحيل. يملك فادي بالنتيجة الكثير من الوعد المتناسخ عن روح والده ولكنه ورث دماثته وذكاءه ووسامته، وحريته الداخلية التي تصل حد الوجودية. لكنه لم يخطّ أو ينقل حالته، ونحن بانتظار اطلاق اسم المدرس الابن بعد المدرّس الأب. معروف حجم الخطورة الأسلوبية التي تتميز بها خصوصيته أو أصالة فاتح المدرس. فهي تحرق كل من يقترب منها، مثل حريق الشمعة الفراشة العاشقة للنار، فكيف إذا كان المخاطر رساماً طري العود؟ أما جناح الأب فاشتمل على خمس عشرة لوحة تمثّل الجزء الأكبر من تركته لابنه فادي. وهو كان متعلقاً به ورافقه في محنة مرضه حتى مثواه الأخير. ولكن التركة الأكبر والمنتقاة تتمثل في مجموعته الخاصة التي جمعتها زوجته الثانية السيدة شكران، وقد أصبحت شريكة في "صالة عشتار" وعرضتها اكثر من مرة وهي مجموعة رسوم ولوحات بديعة، تسعى منذ فترة لتهيئة مرسم فاتح المذكور ليكون متحفاً لأعماله ولاسمه. تملك بعض صالات العرض مجموعات كبيرة من أعماله، على غرار مجموعة أتاسي ومجموعة صالة دمشق. وقد جمع بعضها اصدقاء الراحل كالطبيب طلال عقيلي والشاعر أدونيس. وبسبب غزارة انتاجه فمجموعاته موزعة بين دمشق وبيروت، وبعضها انتقل الى أوروبا وأميركا مثل مجموعة منير العكش. وكان بدأ يعرض في السنوات الأخيرة في بعض صالات الخليج وخصوصاً في صالة عائلة أتاسي في الامارات ثم صالة جنان الخليل في البحرين. وعرضت "دار المدى" بمناسبة الذكرى الأولى لوفاته ذخائر من أعماله المتينة تمثل عدداً من المجموعات الخاصة من حلب ودمشق. وأثارت الانتباه مجموعة الشاعر نزيه أبو عفش. وأقيمت في هذه المناسبة ندوة عن فنّه شاركتُ فيها الى جانب عبدالرحمن منيف. وتحدثت يومذاك عن الجانب الوجودي الذي لا يحكى عن طبيعته النفسية والسلوكية والإبداعية، وعلاقته بجان بول سارتر. ولم يرق هذا التحليل لبعض النقاد الذين يجدون فنه ملتزماً على الطريقة المحلية، وخصوصاً انه شغل لفترة مسؤولية نقابة الفنانين. ومهما يكن فإن هذه الصفة تقاربنا من ملحمته العبثية الداخلية، التي كانت تقوده كما فعل بشراكته المتسرعة مع ابنه الى إعادة تعويم أسعار لوحاته حتى انها كانت تصل احياناً اثناء حياته الى مستوى أسعار تلامذته. ونلاحظ في المعرض "تقاليد" استهانته بأسعار لوحاته. فهي عرضت بصورة بخسة، على رغم ارتفاع اسعاره بعد وفاته. والبعض يتصور ان سرعة انتاجه وخصوبته هما خلف ذلك، وتقعان بالتالي خلف تباين مستوى اللوحات نفسها. فأهمية المدرس تقع في خمس أعماله، وهو ما يسمح لضعاف النفوس والجاحدين التجريح في فنه كأحد أهم رموز الفن السوري، وما زال. ولعل الأخطر من كل ذلك هو موجة تزوير لوحاته التي انتشرت بعد وفاته، والتي تباع في كل مكان، حتى ان الزبائن أحجموا عن طلب لوحاته بسبب ذلك. وهو دليل آخر على تواضع العين الخبيرة بأصالة فاتح التي تعتمد على "سهل ممتنع" لا يقلّد. وبما ان الناس يطلبون هذا السهل الممتنع والمنمّط فهم يقعون في مصيدة قصورهم الذوقي. ان اسلوب فاتح المشرق في المعرض أشد تعقيداً مما يوحي الى بعض الهواة. فهو استخرج من أسرار الكنعانيين وتراث الآراميين والآشوريين والحثيين والحضارات المسيحية السورية المحلية ما يمكن بعثه في ميثولوجيا معاصرة، تملك علاقة عضوية مع الحساسية الجغرافية والتعبيرية المأسوية السورية. ناهيك ببصمات دراسته في روما وبخاصة الألوان الآجرية التي حملها معه من تجارب ايطالية أصيلة: جنتليني وسيروني وموراندي وسواهم، وهي المدرسة الايطالية المتوسطية. وهو درس في باريس عن قرب جان دوبوفي ونزعته "البكر"، وفنون لاسكو والتاميرا لفريسكات عصر الكهوف. ويظل أسلوب مدرّس بالنتيجة زاداً وجودياً يترك بصماته في التجارب التعبيرية السورية المتميزة الى جانب الياس زيات ونبعة والزعبي وكيالي. وليس غريباً ان أحد أبرز التعبيريين الجدد من هؤلاء والمقيم في باريس وهو يوسف عبدلكي كان خلف مشروع المعرض. وصادفت إقامته في الوقت الذي حصد عبدلكي واحدة من جوائز بينالي القاهرة الدولي. ولا شك ان تراث مدرس لا يقف عند ابنه، وانما ينتمي الى جيلين من فناني التعبيرية السورية. ننتظر معرضهم المقبل في معهد العالم العربي إذا لم تربكه الخلافات التقليدية.