عزيزي الرئيس جورج بوش الابن أكتب لك من مضجعي في بسكنتا الذي أقضّه ما أسمعه يتردد حولي عن سياساتك البيئية ولن أتطرق الى غيرها، استعاضة بالجزء عن الكل. لا أدري بأي صفة أكتب إليك. أبصفتي مواطناً لبنانياً؟ أم بصفتي مواطناً عربياً؟ أم بصفتي مواطناً عالمياً؟ الأرجح مما أسمع انه لا وزن عندك لأي من هذه الصفات، فهم يقولون انك زعيم أكبر قوة في الأرض وانه لا شيء يهمك ما لم يكن شأناً أميركياً صرفاً. دعني إذاً أكتب لك بصفتي مواطناً اميركياً سابقاً، فلعل علمك بهذا يغريك أن تصغي إلي دقيقة أو بعض دقيقة. نعم أنا اميركي سابق عشت في بلادك عشرين عاماً كانت زهرة شبابي. أتيتها عام 1911 في مقتبل العشرينات من عمري وغادرتها الى غير رجعة عام 1932 وقد ولجت في العقد الخامس، وقد عرفت بلادك شرقاً وغرباً، فقد درست في جامعة واشنطن في سياتل في أقصى الشمال الغربي للولايات المتحدة حيث كنت أول طالب يتأهل في الآداب والقانون معاً، كما أقمت وعملت سنوات بعد ذلك في نيويورك على الساحل الشرقي. فإن لم يكن هذا كافياً لديك لكي تستمع إليّ، فهل يشفع لديك أن تعلم انني قد انخرطت في جيش بلادك وحاربت دفاعاً عن مبادئها ومصالحها في فرنسا عام 1918؟ الحق أقول لك ان أملي ضعيف أن أجد فيك أذناً صاغية، فهم يقولون انك متصلب الرأي، رجعي في سياساتك، مغرور بقوة بلادك، تظن انك وأنها على حق دائماً، وان لها الأمر وعلى العالم الطاعة. ولكني سأنصحك غير مبالٍ أسمعتني أم لم تسمعني، فنحن الكتّاب أصحاب رسالة. نحن ضمير الإنسانية، علينا أن نخزها من وقت الى آخر كلما دعت الحاجة وافترقت الطرق وتعين الاختيار، ولا تثريب علينا إن لم يصغ الينا أصحاب السلطان. لعلك تسأل ما الذي جعلني أغادر أميركا بعد عشرين سنة من العيش فيها دارساً وعاملاً ومحارباً، وكيف تركت حضارة الغرب كي أعود للعيش في قرية بدائية على جبل لبناني. وكنت أود أن أحيلك على بعض قصصي وكتاباتي ففيها خير جواب على سؤالك. لكنهم يقولون ان الثقافة ليست في دائرة اهتماماتك، وانه لا صبر لك على القراءة. بل يقولون انك لا تعرف اسماء الحكّام والزعماء، فأي أمل لي أن تعرف أسماء الكتّاب وعناوين المؤلفات؟ دعني إذاً أخبرك انني في عام 1925 كتبت قصة بعنوان "ساعة الكوكو"، ولو كلفت أحد معاونيك الصغار ممن يتقنون العربية ان يقرأها ويوجز لك ما فيها من عبرة، فلسوف تجد فيها أوفى جواب على سؤالك. لقد عشت في أميركا يوم لم يكن لها من الجبروت ما لها اليوم، يوم لم تكن تحمل الآثام في أرجاء المعمورة ما ينوء به كاهلها اليوم، ومع ذلك فإنني لم أطقها. لقد رأيت بعين النبوءة وحساسية الشاعر انها قوة موغلة حثيثاً في طريق المادة، عابدة للدولار، مؤلهة للسيطرة، قوة جديدة لم تتعلم شيئاً من تاريخ العالم القديم، أو تعلمت منه أسوأ ما فيه. قوة تحترم مجد المادة العابر وتحتقر مجد الروح الدائم. لهذا كتبت قصة "ساعة الكوكو" لكي أحث أبناء بلادي ومنهم أخي الأصغر ألا يهاجروا من ديارهم الى أميركا كما كانوا يفعلون بكثرة في ذلك الوقت. وفي هذه القصة رمزت الى الحضارة الغربية الاميركية المادية بتلك الساعة الميكانيكية الباهرة التي أغوى مرآها فلاحاً لبنانياً بسيطاً بالهجرة الى البلاد الخارقة التي صنعتها فحقق المال ولكنه فقد السعادة وسكينة الروح. وقد جعلت بطلي في القصة يعود الى قريته في نهاية المطاف نابذاً الوعد الاميركي الزائف، ولم تنقض سنوات حتى كنت أحذو حذوه فأنبذ نيويورك غير نادم، عائداً الى قريتي بسكنتا في حضن صنين. معذرة للإطالة فقد رأيت أن ألخص لك عبرة القصة بنفسي مخافة أن يضيع ذلك على معاونك، فأنا أعلم ان السياسيين ليسوا من أصحاب الخيال وأن تفسير الأدب قد لا يواتيهم بالبداهة. أتعلم ماذا فعلت حين عدت الى قريتي في عام 1932؟ أقاموا لي احتفالاً في مدرسة القرية الابتدائية التي كنت درست فيها، فخطبت فيهم شاكراً وقائلاً: "ليس أضل ممن يعتقد ان بامكانه التوفيق بين ريال نيويورك وسلام صنين. فريال نيويورك نقاب كثيف يحجب وجه الله وصنين عرش من طهارة يبدو عليه وجه الله سافراً". ثم خطبت في حفل آخر ببيروت فقلت: "تركت نيويورك وفي أذني ولولة الانسانية بأسرها. ولولة تكاد تحسبها حشرجة الموت". واني لأخشى، يا سيدي الرئيس، ان الانسانية لم تكف عن الولولة منذ زمن الأزمة الاقتصادية الطاحنة لسبب أو آخر، سيرتفع صراخها وتزيد آلامها في ظل سياساتكم التي لم ير العالم منها الا حصيلة ثلاثة شهور من وجودكم في سدة الحكم. ولكن دعني أعود الى الموضوع الذي بدأت به وهو سياستكم البيئية، والتي أرجو أن تسمحوا لي أن أتطاول فأصفها بأنها غير مسؤولة، إن لم نقل أنانية وقصيرة النظر. فأنتم تترأسون الدولة التي لا ينازعها منازع في قيادة الكرة الأرضية، الدولة التي يجب أن تكون قدوة تُحتذى، ومع ذلك فأنتم تتنصلون من اتفاق كيوتو الذي يهدف الى حماية الكرة الأرضية من الاختناق بأبخرة المصانع والوقود المحترق، من التحول التدريجي الى كوكب جحيمي غير قابل للمعاش. انتم تعلمون هذا وتعلمون ان اميركا بصناعاتها الهائلة واستهلاكها الفائق للوقود مسؤولة عن الاتفاق من أجل ألا تزيدوا تكلفة الانتاج على كبار الصناعيين من أصحاب البلايين. أرأيت، يا سيدي، ما عنيته بقولي ان ريال نيويورك نقاب كثيف ويحجب وجه الحق؟ وقد تعجب يا سيدي من أديب لبناني ذي صلة اميركية سابقة يكتب لك واعظاً من مهجعه الأخير في جبل لبناني. قد تتساءل ماذا يعنيني من هذا كله وقد غادرت ظهر الأرض منذ نيف وعقد من الزمان. وإني لواجد لك العذر، فليس في حاشيتك خبير في آداب العالم يعلمك إني أؤمن بوحدة الوجود وتعاضد المخلوقات في كيان كلي شامل، وانني أؤمن بتناسخ الأرواح، وانني قد أكون الآن في موضع ما من المسكونة أعاني كما غيري من سياستكم غير الحكيمة. ولقد أزعجني بصفة خاصة انني كنت أعيش في نيويورك قبل نحو من تسعين عاماً، حين لم تكن الصناعات الاميركية بالضخامة التي هي عليها اليوم، وحين لم يكن ازدحام البشر وآلاتهم الحارقة للوقود كما اليوم، وحين لم يكن أحد قد سمع بما يسميه علماء اليوم ثقب الأوزون وظاهرة بيت النباتات الزجاجي أو الاحتباس الحراري، ومع ذلك كنت أشعر بالاختناق في نيويورك. ويبدو الآن ان الأمر قد استفحل وان العالم كله صائر الى أن يصبح نيويورك كبيرة في يوم صيف قائظ. كتبت في أوائل العشرينات اثناء حياتي في نيويورك مشهداً وصفياً هو أقرب لأن يكون لوحة في كلمات سميته "نيويورك: تنين البحر والبر" أصور نفسي فيه جالساً في حديقة "ماديسون سكوير" في منتصف المدينة. لن أطيل عليك بسرد المشهد كاملاً، وانما أوجز بفقرة واحدة: "الشمس في السماء. لكن من في الحديقة يشعرون بها ولا يرونها لأنها مقنّعة بقناع أغبر كثيف، ليس ضباباً، ولا سحاباً. ان هو إلا أنفاس التنيني المتصاعدة من ألوف المداخن، وملايين النوافذ، وجبال متراكمة من الحديد والحجر والقير والاسفلت، وقوافل لا يدرك أولها وآخرها من العجلات - العجلات المسيرة بالغازات والمسيرة بالبخار والمسيرة بالكهرباء. تتصاعد هذه الأنفاس في الهواء فينوء تحتها الهواء. ترفعها الأرض بكل قواها الى فوق فتشمئز منها السماء وتضغط بها الى أسفل. فتبقى عالقة بين الأرض والسماء. حافظة من الشمس حرارتها. خانقة من النسيم أنفاسه. ضاغطة بصفائح من حديد محمية في نار جهنم على صدر التنين المتمدد بين نهرين، الفاغر فاه ليشرب البحر ويبتلع البر من دون أن يرتوي يوماً أو يشبع". أرأيت، يا سيدي الرئيس، ما أعنيه ببصيرة الشعراء؟ ها أنا قد رأيت ووصفت بقلم الرائي قبل نيف وثلاثة ارباع القرن ما تعانون منه اليوم، ومع ذلك فأنتم ترفضون ان تروا أهوالاً تعايشونها وترفضون ان تستشرفوا أهوالاً أمر لا يعنيكم ان تورثوها الى الاجيال اللاحقة. لعلك لم تغضب من تصويري نيويورك في هيئة تنين، فليس هذا إلا مجازاً، ونحن الأدباء أهل خيال ومجاز. لقد رأيت نيويوركالمدينة الصناعية الكبرى تتنفس ناراً ودخاناً مثل تنين الأساطير. وهو ما يذكرني بمفارقة لا ينبغي أن أختم حديثي إليك من دون التوقف عندها. لقد قلت في موضع من وصفي المذكور، وقد تملكني اليأس من حال نيويورك ومن وراءها المدنية الغربية الصناعية الضالة الطريق: "ليكن اسم التنين معظماً من الآن الى أن يقيّض الله له جاورجيوسه". انت تعلم بالطبع، يا سيدي الرئيس، قصة القديس جرجس، أو جورج كما ينطق في الانكليزية، الذي صرع التنين، فأنت صاحب نشأة دينية محافظة ولا بد من أن هذه الأمثولة المسيحية الشهيرة تليت عليك في مدارس الأحد أو غيرها من معاهد التلقين في سني الطفولة، بل انك سَمِيّ القديس جورج، وهنا المفارقة التي أعنيها، فأنت لا يهمك ان تصرع تنين الصناعة الحديثة الذي صورته في مشهدي، بل أنت - على خلاف سلفك العظيم - لا يعنيك أن تدعه يحرق الأرض ومن عليها بأنفاسه ذات اللهيب. * كاتب مصري. أستاذ الأدب العربي في جامعة إكستر - بريطانيا.