طوال قرننا العشرين هذا، من الصعب العثور على عمل موسيقي حظي باعجاب المثقفين والكتاب، ولا سيما منهم أولئك الذين لم تعتد الأعمال الموسيقية ان تكون جزءاً من اهتمامهم، بقدر ما فعل ذلك العمل الذي يحمل اسم الألماني كارل أورف وعنوانه "كارمينا بورانا". ومن الواضح ان علة الاعجاب تتعلق الى حد ما بفنيّة هذا العمل وتألقه الشكلي، ولكنها تتعلق أكثر من هذا بالظروف التي احاطت به، وب"اكتشافه" وبكونه يمثل، بالنسبة الى مؤرخي فني الموسيقى والغناء، نوعاً من التمرد الذي ظهر في القرن الثالث عشر، على الغناء الكنسي وعلى الموسيقى الدينية. فالحال ان "كارمينا بورانا" حتى وإن كانت تنتمي الى القرن العشرين، فإنها تعود في جذورها الى بدايات عصور النهضة تلك، بالنظر الى أن كارل أورف، ابن زماننا، كان اكتشف تلك الأعمال مخبوءة داخل دير بندكتي، في بورون في المانيا. وكان من الواضح ان قساوسة الدير هم الذين خبأوها كنوع من ممارسة الرقابة والحظر عليها، لأنها تنطلق أصلاً من اناشيد دنيوية عربيدة كان الطلاب والمتجولون يلهون بانشادها في الحانات والأعياد، كنوع من الطقس "الوثني" المرتبط بآلهة الخمر والحب عند اليونان والرومان. في هذا المعنى كانت "كارمينا بورانا" تنتمي الى طقوس الغناء الشعبي المنفلت الذي كانت الكنيسة تسعى جاهدة لتحريمه وهي تمكنت في بعض الأزمان من تحريمه، فكانت اطلالته في القرن العشرين صاخبة مفاجئة على يد ذلك الموسيقي الذي تمكن بذلك من ان يلقي على ذلك الزمن السحيق نفسه اضواء جديدة ربما تقول ان العصور الوسطى لم تكن على تلك الكآبة التي تصور عادة عليها، وان الاديرة المنتشرة وذات السلطة في ممارستها رقابة ومنع صارخين، انما تعمدت ان تعطي عن ازمانها صورة الكتابة تلك. والحال انه ما ان ظهرت تلك الأغاني، حتى استبعدت مشاهد مضاهية لها في أعمال لبروغل وروبنز وغيرهما، تلقي بدورها اضواء على عصر انبعاث الانسانية وسط الظلمات في تلك الأزمان. ومع هذا كله، فإن الباحثين المعاصرين حين يتحدثون عن "كارمينا بورانا" وعن بقية اجزاء ثلاثية كارل اورف المعروفة باسم "الانتصارات" يصرون على استخدام الشرطية في كلامهم، اذ لا شيء مؤكداً في هذا المجال. وما هو معروف حتى اليوم هو أن "كارمينا بورانا" هي في الأصل مخطوطة أو مجموعة مخطوطات تعود الى القرن الثالث عشر، كتبها على الأرجح طلاب ودارسون كانوا اعتادوا التجول في غرب أوروبا بين القرنين العاشر والثالث عشر. أما نص "كارمينا بورانا" نفسه فيتألف من اغنيات وست مسرحيات "دينية". ما يعني ان العمل نفسه ينقسم قسمين: واحد دنيوي والثاني ديني. فأما القسم الأول فإنه يضم الاغنيات، ومعظمها باللاتينية مع وجود بعض منها بالألمانية، وهي تتنوع في مواضيعها وأسلوبها، اذ هناك ما يمكننا ان نطلق عليه اسم "الخمريات"، وهناك اغنيات الحب والقصائد الدينية والأناشيد الراعوية وكذلك هناك اغنيات تسخر من الحكومة ومن رجال الكنيسة وتصورهم في شكل كاريكاتوري. أما المسرحيات فإنها كلها كتبت باللاتينية، وكلها ذات طابع ديني. أما ما لحنه كارل اورف، فإنما هو بعض اغنيات هذا المجموع، مختاراً فقط القصائد الدنيوية والخمريات وحكايات الحب. وهو وزع عمله الى مقدمة وخاتمة بينهما ثلاثة اقسام موزعة على خمس وعشرين اغنية. أما عناوين الأقسام فهي: المقدمة "فورتونا امبراتزيكس موندي"، ثم "بريمو فيري وأوف دم آنغر"، والقسم الثاني عنوانه "ان تابرنا" في الحانة، فيما ينقسم القسم الثالث الى قسمين، "بلاط الحب" و"بلانز فلور وهيلينا"، والخاتمة تحمل اسم "أو فورتونا". والعمل ككل يؤدى من قبل مغنين منفردين صوليست: سوبرانو وباريتون وتينور، كما من قبل اوركسترا شدد فيها على وجود الآلات الايقاعية كعنصر أساسي. من ناحية مبدئية وضع كارل اورف موسيقى "كارمينا بورانا" انطلاقاً من بعض الايقاعات والألحان التي كانت سائدة بالفعل في الزمن الذي كتبت فيه الاغنيات، وهذا ما جعل كثيرين يعتقدون ان موسيقى هذا العمل قديمة قدم النصوص الملحنة، غير ان هذا الاعتقاد خاطئ، لأنه اذا كانت النصوص والأشعار والروح تنتمي جميعاً الى القرون الأولى للألفية الثانية، فإن الموسيقى تنتمي كلية الى القرن العشرين. انها موسيقى كارل أورف نفسه. وهي هنا تشكل في "كارمينا بورانا" جزءاً من ثلاثية هذا الموسيقي الألماني التي تحمل، كما اسلفنا عنوان "انتصارات". صحيح ان اجزاء الثلاثية، تتنوع في ما بينها وتبدو مختلفة بين جزء وآخر، خصوصاً وان كارل اورف كتبها في أوقات متفرقة وانطلاقاً من مصادر الهام متنوعة وانه لم يكتبها في الأصل لتشكل ثلاثية، ومع هذا فإن الاستماع اليها اليوم معاً، ستضعنا امام عمل ذا وحدة متكاملة. وربما يعود هذا الى ان أورف نفسه، بعد اكتشافه نصوص "كارمينا بورانا" في العام 1936، وبعدما لحنها انطلاقاً من دراسة عن كثب لموسيقى الحانات والحب والتجوال في تلك القرون الغابرة، تعمد ان يحدث تغييراً جذرياً في أسلوبه الموسيقي الذي كان عرف به قبل ذلك وهكذا كانت الثلاثية التي تضم "كارمينا بورانا" 1936 و"كاثولي كارمينا" 1943، و"انتصار افروديت" التي لحنها لاحقاً، نقطة تحول في فنه، ولكن كذلك في موسيقى القرن العشرين. والثلاثية كتبت، للمغنين المنفردين والكورس والاوركسترا، وهي في مجملها تشكل اعادة اعتبار لموسيقى الشعوب على حساب الموسيقى الرسمية. ولد كارل اورف في العام 1985 ودرس الموسيقى في اكاديمية ميونيخ، ثم عمل مديراً للموسيقى الكنسية في الكثير من المدن الألمانية، وذلك قبل ان يؤسس بنفسه في العام 1924 "مدرسة غونتر للرقص والموسيقى"، ما كشف باكراً عن رغبته العارمة في المزج بين الفنون الاستعراضية. وكان اورف منذ ذلك الوقت المبكر لا يخفي ايمانه بضرورة الوصول الى تعبير فني حر وغريزي متحرر من القواعد التي يرسمها السلف وهو كان يصف فلسفته تلك بأنها "أسلوب غريزة الطفولة" بمعنى ان على العمل الفني ان يكون في تعبيره حراً حرية الطفل في تعبيره الغريزي، وكان بذلك يدعو الى أقصى درجات الارتجال في الدنو من الموسيقى والرقص وحتى الغناء. غير انه عند بداياته كتب موسيقاه بالشكل السائد، ثم كانت النقلة الأساسية في حياته حين اكتشف نصوص "كارمينا بورانا" وأدرك انه عثر اخيراً على ما كان يبحث عنه: موسيقى الشعب التلقائية والمتحررة من القيود. وهو حين انجز ذلك العمل اطلق عليه اسم "مغناة مشهدية" وجعل الغناء في المغناة يتواكب مع مشاهد تمثيلية وايمائية منطلقة. وهو منذ تلك اللحظة انسحب من عالمه الموسيقي القديم وانصرف الى ذلك النوع الجديد من التعامل مع تراث "محظور" أو مخبوء.