حتى اليوم، وبعد رحيله بنحو من 18 عاماً، وبعد أكثر من ستة عقود مضت منذ ألف أعماله الكبرى، لا يزال الموسيقي الألماني كارل أورف، موضع سجال في أوساط علماء الموسيقى الغربيين. والغريب في الأمر أن سجالهم حوله لا يطاول الأساليب التي ابتكرها لتعليم الموسيقى للأطفال، منذ صغرهم، على رغم ثورية تلك الأساليب، بل يطاول بعض أجمل القطع الموسيقية التي كتبها، أو أعاد كتابتها، ولا سيما منها ثلاثية "الانتصارات" التي يشكل جزؤها الأول "كارمينا يورانا" الزاد الأساسي لكل مثقف وهاوي موسيقى في العالم أجمع. بعض علماء الموسيقى يرى في كارل أورف "الرجل الذي ينقض كل ما كانت الموسيقى الغربية وصلت إليه في تاريخها"، فيما يرى البعض الآخر أن "موسيقاه طازجة ونقية مثل كوب من الماء البارد". أما الموسوعات التي تتحدث عن اورف فإنها تعرفه بأنه أولاً "مدرس موسيقى"، ثم "قائد اوركسترا"، وبعد ذلك "عالم موسيقى"، متناسية أنه في المقام الأول مؤلف. كارل اورف الذي رحل عن عالمنا يوم 19 آذار مارس 1982، هو مؤلف "كارمينا بورانا" بين أعمال أخرى، وهو كتب موسيقاه انطلاقاً من أشعار وقصائد الحانات التي تعود إلى آخر القرون الوسطى، والتي تم العثور على نصوصها وبعض نوتاتها في خزائن أديرة بنكيتة. واورف قدم "كارمينا بورانا" للمرة الأولى في العام 1937 بوصفها "مغناة مسرحية" وهي في الحقيقة قدمت في شكل "اوراتوريو". ونجاحها الساحق هو الذي سيقود صاحبها لاحقاً إلى تكريس نفسه لما سيطلق عليه اسم "الموسيقى المسرحية"، وهو سيؤلف ضمن هذا الإطار عشرات الأعمال طوال سنوات الأربعينات والخمسينات وما بعدها. ومع هذا سيظل حتى النهاية معروفاً بعمله الأشهر "كارمينا بورانا" وربما أيضاً بالجزءين الملحقين به في "الثلاثية": "كاتولي كارمينا" و"انتصار افروديت". هل معنى هذا ان كارل اورف كان من طينة أولئك المبدعين الذين يقعون في فخ النجاح الساحق الذي يحققه عمل واحد لهم، على حساب أعمالهم الأخرى؟ ربما. لكن الرجل لم يهتم لهذا كثيراً في حياته. فهو كان من ذلك النوع الذي يعمل ويعمل من دون هوادة. وهو ظل يؤلف حتى أعوامه الأخيرة. وهواة الموسيقى والرياضة لا ينسون بالطبع تلك القطعة الاحتفالية الرائعة التي كتبها لمناسبة الألعاب الأولمبية في ميونيخ في العام 1932 بعنوان "روتا". ولد كارل اورف في العام 1895 في ميونيخ التي سيموت فيها بعد ذلك بسبعة وثمانين عاماً. وهو درس الموسيقى في أكاديمية المدينة نفسها، لا سيما مع الموسيقي البارز هاينريغ كامنسكي الذي عرف بعصاميته. وكان اورف أبدى نزوعاً نحو الموسيقى والأدب منذ طفولته الباكرة. وكان في التاسعة عشرة من عمره حين تخرج من الاكاديمية ليعمل معبداً في مسارح ميونيخ ومانهايم. في البداية كان نزوعه الموسيقي يقوده نحو الانطباعية ونحو أعمال ريتشارد شتراوس الما - بعد - رومانسية، ثم خلال فترة اهتم بالموسيقى الاثني عشرية، من خلال عمله على "الشبيلكاميرا" مع ماركس رينهارت. غير ان تعرفه لاحقاً على المزيد من أعمال كامنسكي وتعاونه مع الراقصة ماري ويغمان قاداه إلى أبعد من ذلك، حيث باتت الموسيقى لا تنفصل لديه عن الايقاع وعن الرقص والمسرح. من هنا ظلت موسيقاه، كما الحال "كارمينا بورانا" و"انتصار افروديت" بشكل خاص، موسيقى يغلب عليها الايقاع، وتتسم بالمبلوديات السهلة، وبأقل قدر من الهارمونيا. في الوقت نفسه ومن خلال عمله مع دوروثي غونتر وتأسيسه معها مدرسة موسيقية عرفت باسم غونترسكول، بدأ اسم كارل اورف يرتبط بشكل عميق بأسلوب خاص في تعليم الموسيقى للأطفال. ولعل من سوء حظ اورف أنه في الوقت نفسه الذي تمكن أخيراً من أن يثوّر تعليم الموسيقى عبر كتابه المخمس الأجزاء "سكولغركي"، وصل النازيون إلى الحكم، فاعتبرت أعمال اورف هرطقة ومنعت. قبل ذلك كان اورف اكتشف الموسيقى القديمة وغناها مع تبحره في أعمال مونتغردي، حيث قدم تنويعاً جديداً على "اورفيو" لهذا الأخير، ثم قدم لها "رقصة الجاحدين". وهذا كله توجه لورف في العام 1937 حين انجز "كارمينا بورانا" التي اتبعها في العام 1939 بأوبرا شعبية عنوانها "القمر" ثم بعمل مشابه آخر عنوانه "المرأة الحكيمة". وبعد الحرب العالمية الثانية كرس اورف نفسه للمسرح وبدأ يكتب ما يشبه الأوبرات، إضافة إلى موسيقى المسرحيات مثل تلك التي وضعها ل "حل ليلة صيف" لشكسبير، أو "انطيغون" لوفوكليس، بترجمة هولدرلن. وهو انصرف آنذاك إلى التراجيديات الاغريقية فكتب الموسيقى ل "اوديب ملكاً" و"برومينيوس". وخلال العقدين الأخيرين من حياته اهتم بمسرحيات الأسرار وبالكوميديات القديمة. ومع هذا، وعلى رغم كثافة انتاجه، ظل اورف معروفاً ب "كارمينا بورانا" التي تظل أشهر أعماله على الاطلاق، وربما أشهر ما وضع من مؤلفات موسيقية في القرن العشرين.