تبدأ "الورقة" التي حملها معه وفد لبنان الى اجتماع باريس الرئيس الفرنسي، ورئيس المفوضية الأوروبية، ورئيس البنك الدولي بالقول: "النظام السياسي اللبناني يشبه الى حد بعيد النظم السياسية القائمة في أوروبا الغربية". وتستمر الورقة على عقد المقارنات وإثبات الشبه: "كذلك فإن نظامنا القضائي والقانوني... إن لبنان يتمتع بنظام ديموقراطي ويملك دستوراً يصون حقوق الإنسان والحريات الفردية". وتغلِّب فاتحة التقرير الاقتصادي الذي تفصِّل بنودَه إجراءاتُ الخصخصة، وأنظمة الرسوم الجمركية والضمان الاجتماعي والضرائب ونفقات التقاعد الجديدة، ولا ينسى التقرير التنبيهَ الى مبادرة الحكومة الى "صرف 500 موظف في التلفزيون الحكومي" مرتين ويرد الى إجراءين، مشروع قانون وقرار، أقرا في 22 شباط /فبراير، قبل أيام قليلة من الاجتماع- تغلِّب فاتحة التقرير الاقتصادي هذا السياسةَ تغليباً يكاد يكون فاقعاً. فالسياسة الاقتصادية "الجديدة" - وهي جديدة على معنى سوفياتي "النيب" الشهيرة - سياسة سياسية و"رجعية". وليست عودتها أو رجعتها إلى سياسة ليبرالية واجتماعية قديمة إلا قناعاً تحاول السياسة "اللبنانية" القاصرة تقنيع إخفاقها الذريع به. وهي صرفت خمسة عشر عاماً، منذ 1984، في تبديد الموارد اللبنانية، بشراً وهيئات ومؤسسات ومهارات ورساميل، من غير طائل، إلا تقوية "أوراق" السياسة السورية المفترضة بإزاء السياسة الإسرائيلية. ففي غضون الأعوام الستة الباقية من العقد التاسع تجددت الحروب الملبننة قصفاً وقتلاً وخطفاً وتهجيراً، من وجه، وتجددت هدماً للدولة المستقلة وحطاً بالسياسة والمنازعة والانتخابات والإدارة والصحافة والتعليم الى مستوى الولاء والتسليم وشرائهما، من وجه آخر. وأثمر تهديد الدولة المستقلة بالإلحاق، وتهديد أركانها السياسية والاجتماعية وليس "الطائفية" وحدها على زعم عروبي شائع ومغرض بالتغيير القسري، أثمر التهديد المزدوج هذا هجرة عريضة تطاولت الى أصحاب المهارات والكفايات العالية من شباب أهل المدن ومتعلميهم وعازبيهم. والسبب الأول سياسي. فالمرحلة التي تلت انعطاف 1984، واستيلاء المنظمات العروبية المسلحة والأمنية على "مناطق" أجلت الدولة المشتركة عنها، هذه المرحلة أنجزت فك العلاقات السياسية اللبنانية من موازين القوى الاجتماعية، وأرست المراتب السياسية، بمساعدة عسكرية وأمنية عروبية، على الموارد العسكرية والأمنية وحدها. وهذه معارك، على المعنى الحرفي، ليس في وسع الطبقات المتوسطة المدينية خوضها إلا إذا تخلت عن مصالحها وعن ثقافتها وقيمها، وارتضت تغليب عوامِّها على نفسها. وربحت الحروبَ الملبننة الطوائفُ والجماعات التي قبلت الأمرين: تخليها عن مصالح طبقاتها المتوسطة وثقافتها، وتغليبها عوامها وسياستهم على سياستها وثقافتها. فكان العام 1984 عام استئناف أمواج الهجرة المنقلبة الى إقامة دائمة في المهاجر، وبداية ما سمي "الإضراب عن الاستثمار" في لبنان، وعام تردي سعر صرف العملة اللبنانية الى غير عودة. والوجوه الثلاثة متلازمة ومتشابكة، ويؤدي الوجه منها الى الوجه الآخر ويثبته. فتقدمَ "القطاع العام" على العمل الخاص، وتولت الإدارة، من غير موارد تقريباً، إعالة المستخدمين والأجراء والموظفين والمصالح العامة الكهرباء والمواصلات والمياه، وتولت تعويض المنكوبين والمصابين. ولم يكن تقدم القطاع العام، الإداري، على هذا النحو تعويضاً ظرفياً وطارئاً عن تردي النشاط الخاص. فهو اتصل اتصالاً وثيقاً بنازع اجتماعي وإيديولوجي غلب على جمهور المنظمات العسكرية والأمنية العروبية، ونشأ عن ظروف دخول هذا الجمهور ميدان السياسة. فمعظم هذا الجمهور جمع بين السياسة التي خبرها وبين انتزاع ريع أكبر وأعرض من الناتج "الوطني". ووحَّد قادة الجمهور، المقاتل والناشط والراصد والمناصر، بين انتصارهم، وانتصار جمهورهم وجماعاتهم، وبين زيادة حصتهم من الريوع، وهي رواتب وبدلات وإعفاءات وتعويضات وخدمات ومنح مختلفة. وتأخرت، والحال هذه، معايير الإنتاج والإنتاجية والكفاءة والاستثمار والربح والموازنة بين الموارد والمصروفات، إذا لم تلغَ هذه المعايير إلغاء تاماً. وترجمت القوى المنتصرة انتصارها العسكري والأمني، والسياسي تالياً، منافع كثيرة تحملت الإدارة والمالية "العامتان" نفقاتها المتعاظمة. فابتُكرت للإدارات القائمة مرافق جديدة، عسكرية وأمنية، وتنفيذية وقيادية وإجرائية. وتعاظم عديد المرافق القديمة والجديدة، من القاعدة الى القمة. وكان جلياً أن النظام السياسي الجديد، المنقطع من القوى الاجتماعية المنتجة ومن موازينها ومعاييرها، إنما يشتري، من غير حساب، ولاء الجماعات التي يعيلها - ويستعملها من غير تحفظ في استتباع لبنان دولة وسياسة وجماعات - لسياساته وللسياسات التي يواليها ويخدمها. ونجم عن تجديد سياسة 1984 وأركانها في حلة مختلفة، تجدد التظاهرات التي لازمتها وترتبت عليها. فأثقلت هذه السياسة، وهي اشترت استمرار الأعمال العسكرية الحزب اللهية في جنوبلبنان، وتداركت بعض آثارها ونتائجها، وأرست ولاء جمهور الزعامات المذهبية المنتصرة على منافع وعوائد أرادتها ثابتة - أثقلت كاهل الأبنية الإدارية والاجتماعية والاقتصادية، وأكلت مواردها الباقية. فسَرَت في كل المرافق بطالة وعالة تقنعتا بالاستخدام الجزئي والعمالة الجزئية، وتسترتا بهما. وفي غضون سنوات قليلة، بين 1990 و1993، انتقل شطر كبير من عديد المنظمات العسكرية والأمنية المذهبية، وخصوصاً الشيعية والدرزية، من صفوف المنظمات الأهلية هذه الى القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي النظامية. ودخلت شطور أخرى من فئات العمر نفسها 20- 35 سنة، ومن طوائف المنظمات، في وزارات "الخدمات"، والمصالح العامة، والمرافق التي تتولاها الإدارة العامة مثل شركة الطيران الوطنية وبعض المصارف والمرافق السياحية. وكان ثمن عبء الميليشيات الأهلية و"استيعابها" رفعَ عديد الجيش وقوى الأمن الداخلي من نحو خمسة وعشرين ألفاً الى نحو ستين ألفاً. وتصدرت وزارتا الدفاع والداخلية مصروفات الميزانية العامة، فبلغت نحو أربعين في المئة من جملة المصروفات. وتمتع أفراد السلك المزدوج هذا بامتيازات كبيرة، قياساً على الأسلاك الأخرى وعلى مداخيل العاملين في القطاع الخاص، بعضها نقدي، وبعضها الآخر عيني، وبعضها الثالث يترتب على تعويضات الصرف والاستقالة ونهاية الخدمة. وزاد عدد العاملين في الإدارات كلها، المدنية منها والاقتصادية والعسكرية، من نحو 120 ألفاً الى 220 ألفاً. وسددت الماليةُ العامة، من وجه آخر، جزءاً غير قليل من تكلفة التعويض عن المهجرين و"المقيمين"- وهؤلاء كانوا تولوا تهجير أولئك والاستيلاء على بيوتهم وممتلكاتهم فعُوّضوا إخلاء الممتلكات التي استولوا عليها. واضطلعت ببعض اعباء الحرب "القومية"، الإسرائيلية - العربية أي السورية والفلسطينية، على اللبنانيين. فتولى "صندوق" مجلس الجنوب تمكين السيد نبيه بري، رئيس حركة "أمل" العسكرية الاسم: أفواج المقاومة اللبنانية و"زعيم" المجلس النيابي المدني، من منافسة "حزب الله" - القائم على توزيع "حقوق" السيد علي خامنئي، المرشد الثوري الإيراني، على مستضعفي شيعة لبنان ومقاتليهم وشهدائهم ومعوقيهم وموظفيهم - على ولاء الطائفة المشتركة والمختلفة الوظائف السياسية والعسكرية. فنشأ عن هذا كله اقتصاد سياسي محض، أو يكاد يكون محضاً. ولما خدم هذا الاقتصاد غلبةَ الذين غلبواعلى الدولة بالقوة والاستيلاء والعلاقات الإقليمية، ولم تتقيد غلبةُ المتغلبين والمستولين بموازين السياسة "الوفاقية" وقيودها، أحجم أهل القوة الاقتصادية والمالية والمهنية ومعظمهم من الجماعات المسيحية المغلوبة عن الاضطلاع بجزء من تكلفة استتباب السلم الأهلي المزعوم على نقيض مصالحهم وكرامتهم وتراثهم التاريخي. فالمتغلبون الإقليميون والمحليون حملوا انتصارهم العسكري والأمني على انتصار سياسي واجتماعي وثقافي، وتوقعوا "أجراً" عليه وعوائد. وحسبوا أن المغلوبين عائدون الى الاستثمار والإنتاج في بلد أُخرجت ضماناته الحقوقية والسياسية والسيادية من أيدي أهاليه وأبنائه وجماعاته، ووضعت في أيدي قيادات اختيرت وفقاً لمعيار السمع والطاعة. وعندما يقارن بعض مستكتَبي السيد الحريري بين لبنان وسورية ضمناً أو علناً، وبين صين دينغ وزيمين القارية والشيوعية، يغفلون عن ان استثمار الصينيين والشتات الصيني الآسيوي في "البلد الأم" إنما سبقه تسليم سياسي وإيديولوجي باستقلال السوق والمصالح الاقتصادية عن تعسف القيادة الحزبية. وكان شرط هذا الاستثمار إقرار تشريعات تحمي الاستثمارات، وتشرك الرساميل الأميركية والأوروبية والآسيوية في السوق، وتورِّط دولها والمؤسسات الدولية في حماية التشريعات والالتزامات المترتبة عليها. أما حمل الاستثمار الصيني على عصبية قومية، على ما يصنع بعض أقلام رجل الأعمال اللبناني، ف"تعريب" وتسويغ كسولان، وقرينة على انتظار معجزة أعيى انتظارها المعرِّبين والمسوغين الكسالى. ودلت الأعمال العسكرية التي نيطت بالمنظمة الخمينية المحلية طوال العقد العاشر، وكانت ذراها في صيف 1993 وربيع 1996 وفي 1999- 2000، على ضعف اعتبار السياستين السورية والإيرانية مصالح لبنان واحتياجاته الاقتصادية والاجتماعية. فتوسلت السياستان، من طريق آلتهما العسكرية والأمنية الأهلية، بالجبهة والميدان اللبنانيين الى إحراز نصر معنوي على الاحتلال الإسرائيلي. فحالتا دون جلائه باكراً، على ما كان محتملاً منذ 1993، وكبدتا لبنان، اقتصاداً وعلاقات سياسية وأهلية، خسائر فادحة. فظهر لبنان تابعاً لا يملك أهلُه، لا من طريق الانتخابات ولا من طريق الرأي العام وتياراته، رسم اتجاهات سياسته ولا صوغ القرارات التي تترتب مصائره عليها. واضطرت فذلكات الموازنات اللبنانية، وهي تقارير تقنية، الى الاقرار بأن تمديد ولاية السيد الياس الهراوي، في خريف 1995، عنوة، ثم تعمد "حزب الله" جرَّ القوات الاسرائيلية الى مطاردته وهو المتخذ من الأهالي ترساً وخندقاً ورهينة نجم عنهما هرب الاستثمارات من السوق اللبنانية، وعودة شطر من المهاجرين الى مهاجرهم، واستئناف الهجرة النشطة. فاضطر السيد رفيق الحريري، ومعه مصرف لبنان، الى رفع فوائد سندات الخزينة الى 36 في المئة، اي عشرة اضعاف متوسط مثيلها في المصارف الاميركية والأوروبية يومها. فقفزت خدمة الدين العام الى قممها المستمرة عليها الى اليوم. بينما تولت المالية العامة، في الأثناء، استباق تذمر الأهالي، الشيعة خصوصاً، وانفضاضهم عن "مقاومة" يشتد عودها على قدر ما يضعف قيام اللبنانيين بسياستهم ويرضون تحول بلادهم الى وقود سياسة وحرب مقنّعتين ومخاتلتين. واستباق تذمر الأهالي اتخذ حلة توزيع الترضيات، ونصب المناصب، واستدراج التعويضات، والتصدق بالاعفاءات، وغض النظر عن الانتهاكات. فنشأ اقتصاد ريع وعالة كان غذاؤه من صلب المجتمع اللبناني ومادته الحية. وفَشَتْ سياسة تكييف وتسويق جعلت من القوى السياسية، ومن الصحافة والرأي العام، وكالات دعاوة وتحريض عمياء وصماء. وانحط القضاء الى جهاز تنفيذي طيع، تندد به تقارير منظمات المحامين وحقوق الانسان سنة بعد سنة وآخرها تقرير وزارة الخارجية الاميركية الذي خص لبنان ب32 صفحة، "وهو حجم مقلق" على قول مراسل صحيفة "النهار" اللبنانية في واشنطن، في 27 شباط/ فبراير. وسُلِّط أهل الريع والعالة، وهم جيش لجب من المنتفعين من كل الرتب، على دعاة قيام لبنان بتبعات سياسية اقتصادية واجتماعية مبناها على التزام قواعد الانتاج والتبادل والتوزيع المجزية والحقيقية. ولا يتفق القيام بالتبعات هذه، والتزام القواعد، مع شراء الولاء السياسي والتضامن المذهبي بواسطة دين عام باهظ، وخدمة دين متعاظمة، وبواسطة إضعاف الأبنية السياسية الوطنية. وهذا ما اضطر السيد رفيق الحريري الى الجهر به، مكرهاً. فهو حُمل على تسمية الأعمال العسكرية الحزب اللهية في خراج بلدة شبعا "استفزازات"، حملاً. وتجرأ على هذه التسمية، وهو على دراية بمن يحرضون عليها، على أمل الخروج من إطباق سياسة الإحراج التي يساس بها اللبنانيون منذ ربع قرن: فإما ان يرتضوا ترك بلادهم أرض "سيبة" قومية وإما ان يحتربوا ويقتتلوا أهاليَ ومذاهب وجماعات. والسيد الحريري ليس استقلالياً وليس سيادياً ولا "انعزالياً". فهو أشبه بالموظفين الشيوعيين من القوميات "السوفياتية" البائدة. وهؤلاء كانوا، في أرمينيا وأوزبكستان وتركمانستان، نواة الخروج على القيادة المركزية والتمرد عليها. ودعاهم الى الخروج حمقُ السياسة المركزية، وتبديدها الموارد المحلية تبديداً ذريعاً، وتحميلها مواليها المحليين المسؤولية عن الحمق والتبديد هذين. فنسبت الى "المافيا الاوزبكية" ما كانت تفعل اضعافه. ومثل هذا جرى للسيد الحريري. وهو دعي الى العودة الى الحكم، بعد تشهير به لم ينسه ولا نسيه اصحابه، تداركاً لانهيار يخسر معه الأوصياء الاقليميون ومواليهم المحليون ركن سياستهم الاقليمية وربما استقرار نظامهم الداخلي. وهذا ما يسعى في تجنبه الأعداء والأصدقاء على حدٍ واحد. ولكن ميزان العلاقات السياسية الداخلي لم يتغير ولا تغير مبناه. ففي خلوة السيدين الحريري ونصرالله، زعيم "حزب الله" المحلي، بعد تنديد الأول بانفراد الثاني بعمل عسكري طعن في صدق السيد الحريري وفي قوته على التزام اضعف السياسة، في الخلوة هذه تناولت المفاوضة والمقايضة مشروع "إليسار" لإسكان اهل بعض الضواحي الجنوبية من الشيعة أنصار السيدين نصرالله وبري، تعويضاً لهم عن بيوت وأراضٍ شغلوها اضطراراً وعنوة. فتعليق الأعمال العسكرية مؤقتاً واضطراراً ثمنه توسط المنظمة الأمنية والعسكرية الخمينية في تعويض بعض ناخبيها وأنصارها، من المال العام، مساكن ومصالح وموارد ريعية ترتب عودةُ الحياة إلى مجراها العادي على الناخبين والأنصار خسارتَها. وهذا ما تسميه "ورقة" رئيس الحكومة نظاماً سياسياً أوروبياً، ونظاماً قضائياً أوروبياً... والنظام العروبي على ما هو عليه، ولو متآكلاً ومتصدعاً. فالإدلال بالغاء خمسمئة وظيفة، قياساً على نيف ومئة ألف استحدث معظمها منّة وهبة وشراء، وذلك حين لا يقوم بأعباء الوعود السياسية السخية التي تقطعها "الورقة" الا حل المجلس النيابي والدعوة الى انتخابات يراقبها مراقبون غير حكوميين. هذا الادلال قرينة على دوام سياسة ضيعت موازينَ الأمور ومعاييرها. فهي تعالج القضايا الجسيمة بطبابة الرُّقى وكتابة التعاويذ. * كاتب لبناني