طوال عقد ونصف العقد من السنين تداول اللبنانيون، قراء صحف ومهتمين بالشأن العام وسياسيين، الرقم الذي يقيس نسبة الودائع المصرفية من الدخل الوطني. وكانت هذه النسبة بلغت، بحسب أحد الاقتصاديين اللامعين يومها، محمد عطاالله، نحو 130 في المئة أو أقل بقليل. واختصر الرقم، على جاري عادة مثل هذه القرائن المفحمة، الحال الاقتصادية اللبنانية. فكان داعياً ملحاً الى الخروج من غرابتها، وداعياً لا يقل إلحاحاً الى الإعجاب الشديد بالنفس، والى الاسترسال مع رذائل تلد الفضائل أفواجاً وزرافات من حيث لا يدري أحد ولا يريد أحد أن يدري. ومنذ نحو العقد، أو أقل بقليل، يتداول اللبنانيون رقماً آخر هو نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي ولكل قرن من الناس لغة ومصطلح، ولكل عصر علامات. وعلى خلاف النسبة السابقة، والمستقرة بعض الاستقرار، تقفز النسبة المتداولة اليوم سنة بعد سنة، وتيمم صوب المئتين في المئة 22 بليون دولار من 12 بليوناً على وجه التقريب على جناح السرعة الداهمة. وإذا فُهمت النسبة الأولى قرينة على ثراء أخرق وأهوج، وعرضاً من أعراض بورجوازية ترتع في عوائد ريوعها وتستنكف عن تثميرها في مصالح الوطن ومنافعه العامة، لم تفهم نسبة اليوم، على رغم دلالتها الواضحة، عَرَضاً على تخبط جهاز دولة مفروضة بالقوة على مجتمعها المتداعي في سياسات متضاربة معظمها ناجم عن فرض جهاز الدولة، وسياساته، قسراً. فنسبة الودائع المصرفية من الدخل الوطني، على زعم أهل الرأي "الوطني" واليساري، نسبة سياسية، وينبغي حملها على معناها السياسي ونتائجه المتوقعة والمرغوبة الجبهة الوطنية والتقدمية المتراصة، الثورة الاجتماعية على النظام الوسيط، الثورة الوطنية فالقومية على النظام العميل، الكفاح المسلح... من غير وسائط أو معان اقتصادية واجتماعية وإدارية ظرفية أو مديدة. أما نسبة دين الخزينة من الناتج الإجمالي المحلي فيقتصر معناها، على زعم أهل الرأي أنفسهم ونفسه وهم اليوم أهل الحل والعقد والقوة والكلام المأذون والمرئي، على الاقتصاد وحده، ولا يتعداه الى السياسة والاجتماع والإدارة، ولا الى الظروف المستقرة على أبدها والمتطاولة سنين وعقوداً. والتنبيه على المعاني السياسية والاجتماعية والإدارية و"الثقافية" التي تنطوي عليها نسبة دين الخزينة المتعاظم من الناتج المحلي الضامر، ليس التنبيه رداً على تعسف تأويل النسبة الأولى، ولا دعوة الى ترسم خطى هذا التعسف السياسية و"الكفاحية". فما استعجل أهل الرأي يومها وكان فيهم صاحب هذه العجالة التخفف منه، وهو الوسائط على اختلاف أنواعها و"مستوياتها"، إنما كان السبب في استعجاله اللهفة الى الاستيلاء على السلطة والمجتمع، ودمجهما في شيء واحد لا يتميز ولا يختلف - على مثال الاستيلاء على فانوس علاء الدين أو خاتم لبيك أو طاقية الإخفاء. ونسبة المئتين في المئة، على خلاف المئة وثلاثين من قبل، لا توحي بالتعويل عليها في سبيل اجتراح سحر أو إتيان معجزة. فهي لا تَعِدُ إلا بسنوات آتية عجاف، ولا تلوّح إلا بالكفاف والتقتير على النفس، ولا تدعو إلا الى حسابها حساباً عسيراً وشديداً. فجهاز "الدولة"، وهذه ليست إلا اسم من يتولون الحكم، راكم الدين على المجتمع من طرق معروفة. فمنذ إخفاق العودة بلبنان الى حاله السياسية التي كان عليها عشية انفجار حروبه الملبننة - ومحاولة العودة هذه جرت في 1982 - 1984 بين الحملة الإسرائيلية على القوات الفلسطينية وبين مرحلتي الانسحاب الإسرائيلي من الجبل في صيف 1983، ومن الجنوب في شتاء 1985 - بدا أن مصير لبنان السياسي والاجتماعي رهن بقرارات السياسة السورية في المرتبة الأولى. فالقوى الأهلية، الطائفية والمحلية، التي خرجت على الحكم المركزي، وبعض هذه القوى من "مِلل" أهل الحكم المركزي "وملة" رأسه، انحازت الى سياسات اقليمية متحاربة، وأخرجت معها بعض أركان الحكم، من قوات عسكرية، وقوى أمن، ومرافق اقتصادية، وإدارات. وعلى قدر ضعف الحكم وتداعيه قويت السياسات الإقليمية. وتصدرت السياسة السورية السياسات الإقليمية المتنازعة، وقادت "حل" المسألة اللبنانية على نحو يعود عليها بترسيخ سلطتها ومصالحها، ويستميل إليها من تستطيع بواسطتهم، ومن طريق ولائهم، إلحاق لبنان ولو ممزقاً وشلواً بها وبأغراضها. وترتب على هذا خروج الجماعات والمناطق والمرافق والموارد من دائرة الدولة والحكم الى دوائر مستقلة ومتناحرة، من غير تخفيف النفقات أو رفعها عن كاهل المالية العامة. فكان الموظفون والعاملون في الإدارات العسكرية والأمنية والتعليمية، وفي وزارات الخدمات، مَعين المنظمات الأهلية والعسكرية، ومصدر مقاتليها وإدارييها ودعاتها، وكان بعضهم شركاء هذه المنظمات في اقتسام الموارد العامة. فنجم عن خروج الجماعات والمناطق من دائرة الدولة، واعتياشها من السطو على الموارد العامة ومن انتهاك الالتزامات الدولية التهريب، تصنيع بعض المخدرات، تجارة السلاح...، نجم عن الأمرين انهيار النقد الوطني وتراكم الدين على الخزينة. وكانت هاجرت الى أسواق العمل، وإلى المجتمعات المستقرة، وتوطنت في هذه وتلك صفوة الفئات المؤهلة والمنتجة. ومنذ هجرتها وتوطنها، وتوطن أولادها في مهاجر أهلهم، اقتصر إسهامها في حياة بلدها الأول وأنشطته على إعالة المقيمين من الأهل، وبعضهم ينتظر فرصة السفر بدوره. فحال هذا دون تداعي لبنان على مثال افريقي، سابق ولاحق، وحفظ بعض الصلة بالموازين الاقتصادية "الواقعية". ولكنه ألحق المقيمين إلحاقاً لا فكاك منه بموارد المهاجرين المتناقصة مع انضمام المقيمين المنتجين إليهم. فلما آذن اتفاق مدينة الطائف، في أواخر صيف 1989، بجمع الكسور اللبنانية في كيان سياسي مؤتلف، لم يجمعها في دولة قوامها من نفسها، ومن الجماعات المؤتلفة طوعاً بعد أن اختبرت الاقتتال وجربته. فأوكل الاتفاق العتيد سلطة التأليف الى السياسة السورية نفسها. فعمدت هذه الى أداء ديون الجماعات التي والتها عليها من مادة الدولة، السياسية والاقتصادية. فحمَّلت الدولة، وهي على ما هي عليه من الهزال والضعف والفقر، تكلفة ضم جماعات جديدة من الموظفين والمعتاشين وإعالتهم، بذريعة "تأهيل" المنظمات المسلحة وتسريحها. وجرى التسريح والضم والتأهيل والإعالة على نهج "سياسي" خالص، نجمت عنه نتائج اقتصادية واجتماعية فادحة. فمن "أهلوا" في المرتبة الأولى هم مقاتلو المنظمات الميليشيات الشيعية والدرزية، وبعض الكتل المسيحية التي التحقت بالسياسة العروبية في سني الحرب الأخيرة. ولم يقتصر التأهيل المزعوم على المراتب الدنيا من الأنصار والناشطين - وهم العدد والشطر الأعظم الذي ملأ القوات المسلحة، وقوى الأمن والشرطة البلدية وشرطة السير، والجباة والسعاة، والمياومين في وزارات الخدمات القديمة والمستحدثة - بل تعدى هذه المراتب الى قمم الإدارات وذراها، وهي التي تصور الحرمان منها في صورة الحط من الكرامة الإنسانية نفسها والنفي من المواطنية. وهذا "حق": فالذين قاتلوا في سبيل تعريب لبنان "وعروبته هي سوريته" على قول بعض أهل الهداية والفقه، ورفع الحرمان عن بعض طوائفه و"طبقاته" ومناطقه، وإصلاح خلل سلطاته - والذين قاتلوا في هذا السبيل جمعوا الوجوه الثلاثة، على اختلافها، في واحد هو الحرب الأهلية والوطنية والاجتماعية -، هؤلاء انتصروا، أو أوهموا النصر، وينبغي أن يُجزوا نظير نصرهم ثمناً هو تحقيق برنامج حربهم. والثمن هو تولي "الدولة"، التي فاؤوا إليها أخيراً، رعايتهم وصون كراماتهم وتحصين "مقاومتهم" "الإسلامية"، حيث استمروا على القتال. وهذا يضمن للسياسة الراعية ولاء الأجهزة الإدارية على اختلاف مراتبها. فتولت الدولة اللبنانية، وهي على حالها من ضعف الحيلة وشح الموارد ونزيف الهجرة وتردي العملة، توظيف بضع عشرة ألفاً من الشبان في مرافقها، وملأت ب"كوادر" أجهزة الأمن والمشورة السياسية في المنظمات الأهلية المديريات العامة ورئاسات المصالح الشاغرة في الوزارات الجديدة. وبين عشية وضحاها كثر المثقفون وحملة الشهادات الجامعية، وطلبوا ملحين أداء دور وطني يليق بهم، وبانتظارهم المزمن. وُحملت الدولة، ولم تتغير حالها في الأثنا، على تصحيح الأجور والرواتب، ووضع الملاكات الجديدة، وصرف من يريد بشروط هي أقرب الى الاستدراج. واضطلعت بإخلاء المهجّرين من بيوتهم ودورهم، ومعظمهم داوى تهجيره باحتلال بيوت ودور لم يفرج عنها إلا لقاء "بدل" ساوم فيه، وتوسطت الدولة والمنظمات المنتصرة في المساومة فبلغ بدل بعض الأنصار رأس مال متَّن روابط أهل الحكم بعضهم ببعض وكلهم بالسياسة التي تكلأهم برعايتها. ولم تغفل الدولة عن دعم صمود "أهل" الجنوب، في ضواحي بيروت الجنوبية وفي الجنوب، ولاسيما محازبي بعض العصبيات "الثابتة". وفي الأثناء وقف أمين قطري في أحد الأحزاب القومية خطيباً بفندق "البستان" الفخم ببيت مري الى الشرق من بيروت، وجمهوره من أهل الجوار البلدي والإقليمي، وطمأن الجمهور، غير القلق أصلاً، الى موارد الإنفاق العظيم الذي تتولاه دولة النصر الوطني والقومي، فقال: إن ودائع اللبنانيين غير المقيمين في المصارف تبلغ 22 بليون دولار أميركي، فيكفي أن يستثمر المهاجرون ستة بلايين دولار في وطنهم حتى تملأ الصناعات والمكاتب لبنان عملاً وازدهاراً. والحق إن الاستثمارات لم يوظف منها في لبنان إلا شطر ضئيل. فالإعالة والجزاء السياسيان والطائفيان ألغيا كل منطق اقتصادي، من وجه، ورسخا منطقاً سياسياً قام على تقريب أصحاب الولاء العروبي، وهم من "الضعفاء" اجتماعياً، وتبعيد المتحفظين والمنتظرين والمنكرين، وهم من "الأقوياء"، من وجه آخر. وحال الاقتتال والاستعداء السياسيان والاجتماعيان، وهما مناط الوصاية الإقليمية، دون تمويل أقل مبادرة بواسطة التضامن والتكافل الوطنيين والعامّين. وحال فساد الإدارة والإداريين والسياسيين كذلك دون التوسل بالتضامن والتكافل الى النهوض ببعض أعباء البناء والإعمار. وتعللت الهيئات الاقتصادية الإقليمية والدولية بإحجام اللبنانيين عن الاستثمار في لبنان لتسويغ إحجامها. وكانت حجتها المفحمة، وما زالت، هي أن اللبنانيين لا يفتقدون الأموال والاستثمارات ولكنهم يفتقدون البواعث، السياسية والعملية و"النفسية"، على الاستثمار. ولعل الباعث الأول، والمفقود، هو التعويل على استقلال الدولة اللبنانية، إن عن إملاءات اقليمية غليظة قد لا تتردد في زج لبنان في أتون حرب مدمرة في سبيل "الضغط على العدو الإسرائيلي" أو عن إملاءات محلية تقسم موارد الدولة على الجماعات الموالية شراءً لولائها وتثبيتاً لها في ولائها المحلي والإقليمي. وهذا الضرب من الملاحة تغلب سياستُه العصبية والفاسدة على اقتصاده، وتحول هذه الغلبة دون استقلال الاقتصاد بديناميته وتعويض التكلفة التي ترتبها الاعتبارات الأهلية و العصبية، والاعتبارات الاجتماعية، على السياسة الاقتصادية. فتعاظمت أعباء السياسة السورية الإقليمية على لبنان بوجهيها: وجه الضم والضوي والاستتباع، ووجه التحفظ والإحجام والنفور. فضمت هذه السياسة من لا يعود ضمهم على السياسة الاقتصادية العامة إلا بالتكلفة الباهظة، والإنفاق العقيم، من دون إسهام في التعبئة والإنتاج والعائد، وبعثت على التحفظ والإحجام والنفور أصحاب الرساميل والمؤهلات والعلاقات المجزية. ولعل ضعف هذا التدبير الاقتصادي الأول والأبرز هو حاجته الى ألا تتماسك سياسة اقتصادية داخلية من غير طريقه وفي ضوء اعتبارات مستقلة عن غاياته السياسية المباشرة. فتماسك سياسة اقتصادية داخلية في ضوء اعتبارات ومعايير وموازين قوى داخلية تظهر قدرة المجتمع اللبناني وقواه السياسية على القيام بنفسها، على ما فعلت طوال ثلث قرن رائع من تاريخ المجتمع وتاريخ قواه السياسية. وينهض هذا دليلاً على تهافت الذرائع التي سوغت، وتسوغ الوصاية الخانقة على لبنان واللبنانيين، حين يتبين أن هذه الذرائع تُعقل حقيقة بحملها على أحوال السياسات السورية وأطوارها وعواملها. ويستحيل أن تتماسك مثل هذه السياسة الاقتصادية إذا لم تأمن قوى الاستثمار والإنتاج على نفسها ومصالحها من تعسف سياسة لا سائق لها من هذه أو من تلك، على ما برهنت على نحو حاد حوادث تموز يوليو 1993 ونيسان ابريل 1996، وفي أثنائهما جرت العمليتان الإسرائيليتان الجويتان، ثم قصف حزيران يونيو 1999 وشباط فبراير 2000 محطات التوزيع الكهربائية، وعلى ما برهن تجنيس عام 1993 وتمديد ولاية السيد الياس الهراوي في خريف 1995، وانتخاب السيد إميل لحود الى الرئاسة، ومعالجة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلةاللبنانية، وتسويف انتشار القوات الدولية، والتلويح بانبعاث "السلاح" الفلسطيني، الخ. فهذه كلها قرائن على خواء السيادة الوطنية اللبنانية، وعلى ضعف مقومات السياسة اللبنانية الداخلية والإجماع عليها. وفي كل المرات هذه كان الجواب الاقتصادي وهو اقتصاد سياسي طبعاً هرب المكتتبين في سندات الخزينة إما من السوق اللبنانية، أو من سندات السنوات الثلاث الى سندات الآجال القصيرة. والعلاج الوحيد للتملص من الاكتتاب هو رفع قيمة الفائدة الى نحو الثلاثين في المئة، وتعظيم الدين العام وتفاقم عجز الميزانية تحت أعباء خدمة الدين وأثقالها. وهذا كذلك ضرب من شراء الولاء النقدي، على حين كانت تنخفض الفوائد على الودائع وعلى سندات الخزينة، بالعملات الكبيرة، الى معدلات "تاريخية" نحو 5،3 في المئة. وأفضى هذا، في السنتين الأخيرتين من ولاية السيد رفيق الحريري رئاسة الحكومة، الى "انسحاب" اقتصادي عام، وإلى هجرة مستشرية، زعمت السياسة المالية الجديدة، منذ أواخر 1998، التصدي لهما بواسطة محاسبة وإجراءات محاسبية "شفافة"، على قول وزير المالية الجديد والشجاع. فالخروج من سياسة الإعالة نظير الاستتباع والولاء يقتضي سياسة عامة جديدة تعود الكلمة الفصل فيها الى القوى الداخلية المتنازعة، وإلى ميزانها السياسي والاجتماعي. ولا تؤذن بمثل هذه السياسة لا أيام التعطيل المتمادية، ولا المبايعات المستميتة، ولا اللوائح الانتخابية المرصوصة، ولا الألسن المعقولة، ولا الإجماع "الثابت". فهذه كلها علامات لا تخطئ على جفاف الرغبة، على أنواعها، في العروق ونضوبها في الأنفس والإرادات.