قد ينسب الى الحياة السياسية اللبنانية، وإلى وجهها الانتخابي على الخصوص، ابتكار نمط من الاحتيال والتهريب يعصى معظم آلات المراقبة والتحقق، إن لم يعصها كلها. فعلى حين تلجأ أنماط التزوير والاحتيال والتهريب المعروفة والشائعة الى إصدار الترشيح الى الانتخابات عن مصدر واحد، حزب أو جهاز أو جبهة حاكمة، أو إلى حشو صناديق الاقتراع بأوراق المقترعين وسوق هؤلاء جماعات صاغرة ومجمعة ومتحمسة، وإهمال لوائح شطب الناخبين، واستبعاد مقارنتها بعدد الأوراق وإحصائها، يمزج النمط المبتكر، منذ انتخابات 1992 وهي الأولى التي أشرفت عليها السياسة "السورية - اللبنانية" إشرافاً تاماً وغير مقسوم تقريباً بين أصحاب نفوذ كثر، أنماطاً كثيرة. والنمط الذي ابتكرته العروبة السياسية للبنان وانتخاباته يمزج انماطاً متفرقة بعضها ببعض، القاسم المشترك بينها هو وقوعها أو قيامها جهة المنبع الانتخابي الخفي أو المستتر عن العيون الفاحصة والمراقبة، وليس جهة المصب المرئي والمنظور. فالتدخل القوي والحاسم إنما يتناول تكوين الإرادة الانتخابية، أو "العزائم" الاقتراعية - على قول الفقهاء، لو هم عالجوا مثل هذه المسألة-، ولا ينتظر التعبير العلني عن العزائم والنيات. والتدخل في مثل هذا الموقع اقتصاد كبير في الجهد. فلا يضطر المتدخلون الى بعثرة جهودهم وإراداتهم، ولا حتى الى إظهارها على الملأ. فيكفيهم "نصيحة" عدد قليل من المرشحين بالتحالف واحدهم مع الآخر، وباستبعاد ثالث ونبذه. فإذا علم الناس، من طرق كثيرة ومضمونة، بحظوة هذا الفريق من الحلفاء، علموا، في الآن نفسه، إما بضعف حظوة الخصوم أو بنفيهم نفياً تاماً عن الرضا والقرب. ويمهد أصحاب النفوذ في "الدولة"، أي في الإدارات العامة والظاهرة مثل المهرجانات المنظمة والزيارات المصورة والمتلفزة ومثل الدعوات الى المسامرات "السياسية" المتلفزة، يمهد أصحاب النفوذ الطريق لأهل الحظوة وأنصارهم، ويدلون عليهم وإليهم على نحو لا يُبقي شبهة على موضع الحظوة والاختيار، ولا يترك المقترع حائراً يوم الاقتراع. فتذهب منافع "الدولة" على أنواعها، من العمل والتوظيف والمنح والاعتمادات والتعويضات الى التراخيص والإعفاءات والمصالحات والإجازات. وعلى هذا نشأ "قطاع عام" من المعتالين والمتعيشين على الأموال العامة، على مراتب مختلفة من العالة والتعيش، بلغ عددهم نحو مئتي ألف "عامل"، و"يعمل" زهاء ثلثهم في مرافق القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي. ويرتب هؤلاء على الخزينة العامة أعباء الدين العام، وتكلفة سندات الخزينة وفوائدها المرتفعة. فالسياسة "السورية - اللبنانية" اشترت وتشتري، بواسطة القطاع العام الباهظ هذا، أي بواسطة الدَّين المتعاظم على الخزينة، ولاء الإرادة الشعبية العامة لها، أي ولاء الناخبين والمقترعين للطاقم السياسي والنيابي، والإداري، الجديد الذي تصرِّف هذه السياسة بواسطته ومن طريقه، مصائر اللبنانيين و"دولتهم" ومجتمعهم. وينبغي لهذا التصريف أن ينتهي الى تسليم اللبنانيين، طوعاً وانتخاباً وتظاهراً، بالغايات السياسية السورية، بعد أن حسمت الحروب الملبننة، في ظروف عسكرية وسياسية اقليمية انصرم معظمها وانقضى، غلبة الحزب "السوري" على خليط من الأحزاب وغير الأحزاب وُصمت كلها، على تنافرها، بالحزب "الإسرائيلي" وهذا يفترض عدم الحد الثالث وهو لبنان. وتسعى السياسة "السورية - اللبنانية"، بعد مرحلة أولى توسلت بالتعيين الاسمي والفردي الى أغراضها، في الاستقرار على نهج وطريقة يعملان من تلقائهما، ومن غير حاجة ماسة الى التدخل في كل شاردة وواردة. وينبغي أن يفضي النهج والطريقة هذان، من تلقائهما، الى تغليب الحزب السوري على النزعات الوطنية والاستقلالية والسيادية، السياسية والاجتماعية والإعلامية، وما يخالط هذه النزعات من ميول غربية، أميركية وأوروبية، لا مناص منها في مجتمع مشرَّع الأبواب على عالم صنع الغرب الأوروبي والأميركي معظمه. وتدل المعركة الانتخابية اللبنانية الجارية، والنحو الذي تجري عليه أوالأنحاء التي تجري عليها، على قوة السعي السوري في بلورة نظام انتخابي وتمثيلي تلقائي يخدم الغلبة السورية، ويقرها على غلبتها، ويقصر تدخلها على إنشاء اللوائح من كبار الناخبين المنقادين والمأمونين، من وجه أول، وتدل المعركة الانتخابية الجارية، من وجه آخر، على إخفاق هذا السعي إخفاقاً ذريعاً في إقرار الانتخابات، والسياسة العامة اللبنانية تالياً، على تلقائية واستقلال جزئيين ومشتبهين. فالحق أن إنشاء اللوائح والكتل الانتخابية لم يحظَ من قبل بقوة الترجيح التي يحظى بها اليوم، ولم تسبق إليها إلا انتخابات البلديات في 1998 ربما. وعلى هذا يكاد يقتصر صوغ الحياة السياسية الداخلية على التحكيم في إنشاء أقل من عشر لوائح "كبيرة". ويتصدر اللائحة الواحدة منها "كبير" من الكبراء، يحظى نصفهم تقريباً ببعض الكلمة، وبعض اليد، في تسمية مرشحين على لوائح غير اللائحة الأساس التي تطلق يد "الكبير" فيها وهذا القول ينبغي تقييده بقيود كثيرة هي من صلب السياسة "السورية - اللبنانية": فاللائحة الأساس لا يد مطلقة فيها، على أي معاني الإطلاق، والمرشحون لا ينبتون من يباب ولا من موات بل هم زرع سبق تعهُّده ترشيحَه، بأعوام وعقود، في مراتب حزبية وفي مهمات إدارية ورقابية متفرقة.... و"الشرق المعقد" - الذي ألمح إليه الرئيس الفرنسي ديغول، قبل ستة عقود، وأراد به الخليط الشرقي من الطوائف والجماعات والمذاهب والأعراق والعصبيات - هذا "الشرق" اختصرته الحروب الداخلية في لبنان، على نحو ما اختصرته في سورية والعراق، في أثناء العقود الأربعة الماضية، الى أجسام و"رؤوس" رؤساء قليلة العدد تنزع بدورها الى التبلور في أجهزة متماسكة تنقاد انقياداً منضبطاً الى آمريها. و"السلاسة"، على ما قيل، التي جرت عليها خلافة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، إنما هي قرينة على اختصار "الشرق المعقد" الى شرق بالغ الإيجاز والبساطة، من غير التخلي عن التراث "الشرقي". والاختصار اللبناني قريب من هذا المثال، وإن لم يبلغ بعد اختصار الأجهزة، وما زالت به متعلقات من مادة اجتماعية وأهلية هجينة قياساً على صراحة الجهاز السياسي والأمني. فإذا أحصي السادة رفيق الحريري ونبيه بري وحسن نصرالله وميشال المر وسليمان فرنجية وعصام فارس والياس سكاف ووليد جنبلاط- وكلهم على رأس قوة مختلطة تمزج على مقادير مختلفة العصبية بالنفوذ الإداري، وتجمع إنفاذ الجهاز والتأطير الى استمالة المال والخدمة - إذا أحصوا لم يبق من القوى السياسية والانتخابية إلا منظمات حزبية مثل الحزب "القومي - الاجتماعي" "السوري" و"الجماعات" الإسلامية المتفرقة في المدن وشبه الأرياف السنية و"القيادة" الأرمنية. ويتجاوز نفوذ رفيق الحريري وحسن نصرالله ونبيه بري، وعلى قدر أقل بكثير سليمان فرنجية، حدود الدائرة الانتخابية الأساس أو الأم، وحدود العصبية الأهلية الأم، الى دوائر أخرى، في معظم أنحاء لبنان فيما يعود الى السيد الحريري، وإلى عصبيات أهلية أخرى بعيدة، فيما يعود الى السيدين بري ونصرالله. وقصر "المراجع - الأجهزة" على العدد القليل هذا، ورسم الدوائر الانتخابية على مقاسها أو مقاس معظمها، وتقييد المنافسة بعلاقاتها فيما بينها وبعلاقاتها بفتات خصومها المحليين، وترك بعض الدوائر في جبل لبنان الماروني من غير ترجيح صدارة يحسم التخبط والتجاذب - هذه كلها تؤدي لا محالة الى ضبط السياسة الانتخابية المحلية كلها على "الكبراء" المرضيين والمأمونين هؤلاء، وعلى كسب ودهم والحظوة عندهم. أما من وجه ثان، فهي تصور الحياة السياسية والانتخابية في صورة منافسة بين أقطاب داخليين، عميقي الجذور في العصبيات الأهلية وفي التراث السياسي اللبناني. وتتيح هذه المعايير فرصاً قليلة، ولكنها قائمة، لفوز بعض "المستقلين" عن الأقطاب والأجهزة الحزبية والأمنية والمالية "الاجتماعية". ويتفق النازع الى الاختصار الجهازي، على اختلاف معاييره، مع طور اجتماعي واقتصادي وثقافي يتعلق بالإعلام والاتصالات يغلب على المجتمع اللبناني منذ عقد تقريباً، ويقدِّم الكتل الواسعة على الجماعات الضيقة من غير أن يخرج الكتل من جلدات هوياتها السابقة السياسة أو هوياتها الأهلية والعصبية. ويتضافر النازع والطور هذان مع انتصار السياسة "القومية" العسكرية على الدواعي الوطنية والاجتماعية اللبنانية، ومع غلبة الإعالة و"القطاع العام" على الحياة الاقتصادية وعلى دواعي الإنتاج والاستثمار. ويتوج تواطؤُ الكبراء والمراجع والنخب السياسية "العاملة"، على خلاف النخب السياسية المعطلة والمنفية والساكتة، مع "العوام" والجماهير وكتل الناخبين الأهليين، على ربط السياسة الانتخابية والعصبية بالميول الأهلية والمصالح المباشرة "الإعالة" - يتوج هذا التواطؤ السعي العروبي الإقليمي في إنشاء نظام سياسي محلي ينتج الولاء والاستتباع من تلقاء نفسه وإوالياته. وتتم العروبةُ السياسية بعروبة اقتصادية واجتماعية يعتال أصحابها، وهم الجماهير والعوام الناخبة ويسميهم اليساريون التقدميون "الشعب" ويتسمى السيد نجاح واكيم، المستقيل من الترشيح، والسيد حبيب صادق والسيد نسيب لحود باسمه، على الهبات الحكومية والإدارية من رواتب وتعويضات وأعمال إنشائية وإعفاءات وغض نظر عن تحصيل فواتير الكهرباء من ثلاثمائة ألف "معلِّق". ويحجم الخصوم المتنافسون والمتقاتلون، من السيد رفيق الحريري الى السيد سليم الحص ومن السيد حسن نصرالله الى السيد نبيه بري، ومعهم كلهم السيد إميل لحود، عن اقتراح سياسة تقلل من نفقات التوظيف والإعتيال الباهظة، أو تقييدها تقييداً فاعلاً. ويحجم الخصوم عن انتهاج سياسة ضريبية تميز بين النفقات الاستهلاكية والنفقات الإنتاجية: فالدخول العالية تسدد ضريبة واحدة، مفترضة، صُرفت الى تجديد مرآب السيارات العائلي السنوي أم الى استبدال مرفق إنتاج هالك بآخر جديد. فلا يجد وزير المال مناصاً، في آخر ولايته العقيمة والخائبة، من التلويح بتدخل المؤسسات المالية الدولية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في السياسة الاقتصادية اللبنانية. فتواطؤ أصحاب سياسة الإعالة، من المال العام ومن القروض ومن "عطائهم" وبيت مالهم، وعوام العالة وجماهيرها، هو لب الجمع بين العروبة السياسية، وطاقمها المعيَّن، وبين العروبة الاقتصادية التي يدعو نجاح واكيم وأمثاله الى تعميمها ونشرها وتنبيتها. والتواطؤ هو السبب في كون تدخل المؤسسات المالية الدولية لا يخيف أصحاب السياسة "القومية" ودعاتها وطاقمها. فمثل هذا التدخل "رافعة" جبهة مرجوة مناهضة للإمبريالية والصهيونية والعولمة والتطبيع، من وجه، وهو لحمةٌ تجمع في شعبوية ساحقة الحكام والمحكومين، المنتفعين والمحرومين، القوميين والإسلاميين، التقليديين والتقدميين، من وجه آخر. ويذيب هذا السياسةَ، ومنازعاتها وخلافاتها وإجماعها العسير وقيودها، في محلول "المقاومة"، ولو على بوابة فاطمة، وقادتها الملهمين وصفوفها المرصوصة ومصالحها العليا وهويتها التي لا تفل. ويصل هذا بين "المواطن"، الفرد والأعزل والضعيف، وبين "الأمة" ومهابتها وقوتها وكبرائها، من غير حاجز ولا عائق، ومن غير أن يغادر المواطن المزعوم أهله أو حارته وجماعته. وتدور مثل هذه السياسة على دَين المواطن المفترض، الضاوي الى أهله، لأهل المرتبة الأعلى المقتدرين بأسباب عيشه وعوامل "تجديده" بما هو قوة سياسية وقوة معاش. وهي سياسة قوامها التقليد والمحافظة والإتباع والولاء... ولا ريب في أن حرية الرأي، وحرية الاجتماع، وحرية المعارضة والخلاف، في هذا المعرض، نوافل. والنافلة الأولى هي ضبط المواقف والآراء والالتزامات السياسية على المنازعات على الاحتياجات والرغبات والمصالح الاجتماعية والفردية، وتحكيم الاجتماع والقوى الاجتماعية في السياسة والتمثيل السياسي. فالضبط والتحكيم هذان، إذا أطلق لهما العنان، قد يؤديان الى انتخابات وحياة سياسية عاصفة، ويسفران عن مفاجآت كثيرة. وهذا ما يتهدد بالخطر خاصرة رخوة من هناك، وظهراً مكشوفاً من هناك. وليس أعجب من زعم من يزعمون أنه ليس من "مصلحة سورية والأمة العربية" أن يتحول لبنان "الى سلطة إدارية للحكم الذاتي"، ولا أن "يتم توزيع النفوذ فيه جوائز ترضية..." السيد نجاح واكيم، صاحب "حركة الشعب" إلا زعمهم أن "عروبة لبنان"، على الوجه الذي أُثبتت عليه وأوجبت بواسطة المنظمات العروبية وسلاحها وحروبها، "هي خيار حر لشعب لبنان"، وزعمهم أن تنحيهم عن خوض الانتخابات قد "يوقظ صوت الضمير لدى من يديرون هذه اللعبة الخبيثة ويشرفون على تدبير كوارثها" السيد واكيم نفسه. فهؤلاء يحسبون أن "موت" لبنان، أو قتله، هفوة تترتب على سياسة قومية سليمة، ويسأل عنها وزير دولة أو مدير عام من سوَّدهما؟، ولا يسأل عنها منطق سياسي تبلور طوال ثلاثة عقود من السنين، على أضعف تقدير، وكانوا هم، وما زالوا الى يوم عزوفهم أو ترشيحهم، وجهاً ملازماً له. ومثل هذه "الأفكار"، وتُجمع عليها بقايا "الوطنيين والتقدميين"، هي من مخلفات لبنان "الطائفي" وليبراليته على الرغم منه، وهي من مخلفات حمل هذه الليبرالية السياسةَ على منطق ومصالح ومنازعات معقولة. وأما والسياسة تحررت من أثقالها الطائفية والاقتصادية والوطنية، وحلقت في الفضاء القومي الأوسع، فلم تبق حاجة الى بعض المتخلفين عن حقبة طواها تحرير السياسة من "تركيبة" المجتمعات والدول ومن "تعقيدها".