الكتاب: إنها لندن يا عزيزي رواية الكاتب: حنان الشيخ الناشر: دار الآداب - بيروت 2001 عادت الينا حنان الشيخ برواية جديدة انها لندن يا عزيزي بعد غيبة دامت سنوات منذ روايتها الأخيرة "بريد بيروت". وهي تعود برواية من نوع جديد عليها، يمكن ان نسميها الرواية الكوميدية. هي رواية تريدنا الكاتبة ان نضحك من شخوصها ومن مواقفها، ولكنه ليس ضحك السخرية أو القسوة، وانما ضحك العطف، وهو العطف الذي لا يمنع صاحبه من إدراك الفكاهة الكامنة في المفارقات الناجمة عن ضعف البشر وتناقض الثقافات. مسرح الأحداث في لندن، وشخصياتها مزيج من الانكليز والعرب، وان كانت غالبيتهم من العرب الذين تتنوع فئاتهم ما بين العراقية والمغربية واللبنانية والخليجية، كما تتنوع مشاربهم وأغراضهم وخلفياتهم الاجتماعية وأسباب وجودهم في لندن وطبيعة علاقاتهم بالآخر الإنكليزي. وبسبب من هذا التنوع تلجأ حنان الشيخ الى أسلوب سرد تقليدي يعتمد تعدد الحبكات ووجهة نظر المؤلف العليم بكل شيء والذي ينتقل بنا بحرية بين حبكات الرواية المتوازية، وبين وجدانات أبطالها المختلفين، الذين يعرفون بعضهم بعضاً وقد يلتقون احياناً، الا انها معرفة غير عضوية فلكل منهم قصة لا تعتمد على ما يحدث للآخرين. والحقيقة أن الذي يجمع بينهم هو لقاء على الطائرة التي تأتي بهم جميعاً الى لندن من دبي في دولة الامارات. بعد ذلك يفترقون في مسالك لندن المتشعبة وفي مسالك حيواتهم الخاصة الأكثر تشعباً. على أن حنان الشيخ لم تجمعهم من غير هدف ولا اختارت ان تحكي لنا قصصهم اللندنية المتوازية في قالب روائي مشترك من غير طائل. انما الجامع بينهم هو المكان، والمكان هو لندن، ولندن ليست موقعاً جغرافياً على الخريطة، وانما هي قيمة، قيمة غائبة في حيواتهم الخاصة وفي مواقعهم الجغرافية العربية التي أتوا منها، قيمة اسمها الحرية. لندن تعطي كلاً منهم وعلى اختلاف المشارب الحرية في ان يفعل ما يشاء، أن يحقق ذاته، ان ينعتق من الرقيب الاجتماعي أو الديني أو السياسي أو الجنسي، الى سائر أنواع الرقابات العلنية والسرية المفروضة على المواطن العربي في بلده في كل خطوة يخطوها. لندن ترفع عنهم كل هذا فلا يحدهم الا القانون الذي يلزم الجميع. لعل الحبكة الرئيسية في الرواية هي تلك المشتملة على قصة لميس العراقية، فهي الوحيدة التي تحاول ان ترصد علاقة الذات بالآخر في شيء من الجدية، كما أنها تحظى بمساحة من السرد أكبر نسبياً من الحبكتين الأخريين قصة أميرة العاهرة المغربية واللبناني وسمير الجنسي المثلي. تنتمي لميس الى المهجر العراقي الهارب من محنة بلاده الى الغرب. وتبدأ الرواية وقد حصلت على الطلاق من زوجها العراقي الثري، الأكبر منها سناً والذي تزوجته أصلاً بضغط من أمها. كان من الضروري للميس ان تحصل على حريتها من علاقة مجدبة عاطفياً على رغم حرص زوجها عليها ومعارضة أمها ووجود ابن من الزيجة. في البدء لا تعرف لميس ماذا تفعل بحريتها الجديدة، فهي كانت تعيش في لندن في دائرة عربية مغلقة ولا تكاد تتقن الانكليزية تتمنى لو تعرف "انكليزياً واحداً، اذا ما فتح بابه لها نفدت منه الى الانكليز، الى بيوتهم وحياتهم..." ص 27. ويؤسفها أن أطباء الانكليز وحدهم هم الذين "تحتك اجسامنا بهم وتكوِّن علاقة خاصة بيننا وبينهم..." ص28. ليست لميس هنا إمرأة مطلقة تبحث عن علاقة تملأ فراغها العاطفي، وانما الواقع ان حنان الشيخ هنا تحاول ان تستأنف في هذه الرواية ما بدأته في قصتها الجميلة "أكنس الشمس عن السطوح" المنشورة ضمن مجموعة قصصية بهذا العنوان في 1994، وهو استكشاف العلاقة بني الذات العربية والآخر الغربي من طريق علاقة عاطفية بين امرأة عربية ورجل انكليزي، وهو قلب للنمط السائد في كتابات القصاصين العرب. من الذكور الذين دأبوا على الرمز للشرق بذات مذكرة وللغرب بآخر أنثوي. بعد محنة الزواج غير المتكافئ الذي فرضته عليها ثقافتها العربية، تبدو لميس كافرة بهذه الثقافة، راغبة في اعتناق ثقافة الآخر، وتضع برنامجاً عملياً لذلك، يشمل الاعتراف بلندن بلداً دائماً لها وقد صارت تحمل جواز سفر منه، وأخذ دروس لاتقان اللهجة الانكليزية الصحيحة، والتعرف الى أصدقاء انكليز بدلاً من العيش في دائرة عربية مغلقة، بل انها تقرر الامتناع عن تناول الطعام العربي، امعاناً في فصل نفسها عن جذورها الثقافية ص31. تقع لميس في حب نيكولاس خبير الانتيكات الانكليزي الذي يعمل في خدمة شركة المزادات الفنية الشهيرة "سوذبيز"، وصاحب الصلة بأثرياء العرب والذي يعيش ما بين لندن وعُمان. ولا تدخر الكاتبة وسعاً في إطلاعنا على وجدان لميس على نحو يمزج بين اللحظة الحاضرة وبين استرجاعات الماضي فنرى ان تجربتها مع الآخر تمنحها من الحرية والأمان وتحقيق الذات عاطفياً وجنسياً ما افتقدته طوال حياتها في ظل رجل شرقي: "هي مع انكليزي وكل ما حولهما أليف ومصدر طمأنينة" ص142. ومن المفارقات المقصودة أن هذا الانكليزي - هذا الآخر المحَّب المتفهم - هو الذي يعيد اليها ثقتها بذاتها العربية وبثقافتها التي كادت تنكرها من شدة قهرها لها. فحين يطلعها نيكولاس على مخطوطة عربية فنية نادرة، تدهشها قدرتها على قراءة الجمل بسهولة، وتجد نفسها فخورة بعراقة اللغة العربية التي لم تتغير من مئات السنين بحضارتها الكامنة"، وتقضم روحها ندماً لأنها فكرت ... أن كونها عربية عثرة في سير الحياة" ص182-183. وفي حالة سمير ذي الميل الجنسي المثلي فإنه يتحول من الشاذ المستهجن أو الحالة المرضية في مستشفى المجانين التي كانها في وطنه الى انسان سوي يتقبل المجتمع اختلافه ويحمي القانون حقه في الاختلاف. وحنان الشيخ هنا أىضاً تعود الى استخلاص العبر من موقف سبق ان طرحته في قصة "أكنس الشمس عن السطوح" التي قارنت فيها بين قروي عربي ينتهي الى الانتحار بسبب شائعة عن حالة تلبس بينه وبين راعي غنم، وبين موقف مشابه في لندن لا يعيره أحد التفاتاً لأنه يعد من حريات السلوك الشخصي. ومن هنا سعادة سمير باكتشافه حقيقة لندن التي جاءها بأفكار مسبقة: لندن هي الحرية ... تمارس الأحب الى قلبك ... من غير ان تشعر بالذنب أو الخجل، من غير ان تلجأ الى حياة ازدواجية تقودك في نهاية المطاف الى الكبت والجنون". ص218. أما أميرة، بائعة الهوى النازحة من حياة فقر في ريف المغرب، وبطلة القصة الثالثة، المغامرة التي لا يرضيها إلا ان تنتحل شخصية أميرة خليجية وتمضي تمارس خداعها على أثرياء العرب في أفخم فنادق لندن في سلسلة من المواقف الكوميدية الممتعة وذات البعد الاجتماعي في الآن ذاته حتى ينكشف أمرها - أميرة هذه أمرها محير. ما هي لندن بالنسبة اليها؟ أهي مرتع مفتوح للمغامرة والانتقام الطبقي بكل سبيل مشروع أو غير مشروع؟ أهي مجرد نموذج اجتماعي، أو نمط بشري من الانماط العربية التي اجتذبتها لندن تريد حنان الشيخ تصويره في بانورامتها العربية اللندنية المصغرة؟ أجد نفسي أعود مرة أخرى الى قصة "أكنس الشمس..."، فبطلتها أيضاً قروية مغربية، نازحة آوتها لندن وأعطتها فرصة العمل والكسب والاستقلال الاقتصادي والاجتماعي والحرية الشخصية، وهي كلها مزايا كانت محرومة منها كأنثى عربية فقيرة غير متعلمة في مجتمع بطريركي قاهر. إلا انها تكتسب كل هذا بالكدح المشروع في لندن التي تصورها حنان الشيخ مدينة تعطي الآخر العربي ما لاتعطيه اياه ثقافته الخاصة في وطنه الأصلي. فماذا حل بها في هذه الرواية الجديدة؟ هما طبعاً شخصيتان مختلفتان في عملين مستقلين، الا اني أقصد ان بطلة "أكنس الشمس..." تكشف عن موقف فكري واضح للكاتبة من قضيتي الذات والآخر، يتسق مع مجمل ما يستخلص من أعمالها، وهي بذلك تبدو لي وكأنها كانت أحرى بالتجاور في هذه الرواية مع قصة لميس العراقية، أما أميرة فتبقى نموذجاً بشرياً مُشْغِفاً في حد ذاته، إلا ان وضعه والهدف منه في مجمل العمل غير واضح وغير مستقر. هذه رواية حافلة بالتأمل في علاقة الذات بالآخر، خصوصاً في قصة لميس ونيكولاس، وهي تتعامل مع هذا الموضوع ذي التقليد العريق في الرواية العربية تعاملاً مباشراً من على أرض الواقع، تعاملاً أشخاصه حقيقيون من لحم ودم، ويمكن ان نصادفهم بلا عناء بين أبناء الجالية العربية المتنامية في لندن، وليس عن طريق بناء حكايات كنائية ترمز فيها الشخصيات الى قيم الحضارات التي تمثلها، كما فعل مؤسسو هذا التقليد في الاجيال السابقة من كتاب الرواية العربية. كما ان حنان الشيخ أول من يحاول في رواية عربية من هذا النوع رسم شخصية أوروبية من الداخل، رسماً يحاول أن يرى الانسان الآخر، ليس آخر وانما بصفته مثلاً وشبيهاً في نهاية الأمر. حنان الشيخ تبحث عن نقاط التلاقي لا التصادم بين الثقافات، وهي في هذا تنتمي الى عصرها كما انتمى سابقوها الى عصرهم. هم كتبوا في عصر الكولونيالية والصراع من أجل التحرر، أما هي فتكتب في عصر فشل المجتمعات العربية والأنظمة الحاكمة في توفير الحرية والكرامة لمواطنيها بعد الاستقلال، هي تكتب في عصر النزوح العربي الفردي والجماعي، بحثاً عن الفرصة أو هرباً من الابادة أو لمجرد استنشاق مناخ الحرية. هي تكتب في عصر صارت فيه أوروبا ملجأ وحامياً، لا مستعمراً أو مضطهداً، ولذلك فإنه من الطبيعي ان نجد عندها هذه النغمة التصالحية، بل ان نجد عندها الجرأة المحمودة أن تُعلي عند الحاجة من قيم ثقافة الآخر على حساب ثقافة الذات، وأن تطرق باب حساسيات سياسية واجتماعية وجنسية لا تجرّ إلا المتاعب على طارقيها.