بعد نحو اسبوعين من توقيع اتفاق بين حزب المؤتمر الوطني الشعبي السوداني المعارض بزعامة الدكتور حسن الترابي و"الحركة الشعبية لتحرير السودان" برئاسة جون قرنق في جنيف، هدأت العاصفة السياسية والاعلامية التي اثارها الاتفاق المثير للجدل الذي حاول ان يخاطب الازمة السياسية في البلاد عبر مشكلة الجنوب التي ظلت معضلة استعصت على الحكومات الوطنية المتعاقبة منذ فجر استقلال السودان عام 1956. وكما برز الترابي سياسياً قبل 27 عاماً، لدى مخاطبته ندوة في جامعة الخرطوم عن مشكلة الجنوب وقال انه لا يمكن معالجتها الا في ظل نظام ديموقراطي، مما اثار عليه حكومة الرئيس ابراهيم عبود العسكرية التي اودعته السجن عاد الى واجهة الاحداث هذه المرة ايضاً عبر قضية الجنوب، واعتقل بسببها، كما قضى اكثر من سبع سنوات متفرقة في المعتقل ابان حكم الرئيس السابق جعفر نميري، واعترف اخيراً بأنه وضع نفسه في المعتقل في حزيران يونيو عام 1989 ستة اشهر عندما قال لحليفه آنذاك الفريق عمر البشير: "اذهب الى القصر رئيساً وسأبقى في السجن حبيساً" ولكن ذلك كان بغرض التمويه لئلا يكشف أمر تدبيره لانقلاب "الانقاذ". اعتبر حزب المؤتمر الشعبي اتفاقه مع خصمه التقليدي الحركة الشعبية، التي قاد الترابي وانصاره حملة وحشدوا مجندين لمبارزتها في ميادين القتال اكثر من عشر سنوات، مسعى للسلام واستكمالاً لحوار بين الطرفين بدأ منذ عام 1986 واستند الى "ميثاق السودان" الذي وضع أسساً لحل قضية الجنوب. لكن الحكومة رأت في الاتفاق تحالفاً بين نقيضين لاسقاطها بالقوة وتراجعاً من الترابي عن مبادئه وخيانة دينية ووطنية واستسلاماً لشروط جون قرنق، فردّت بعنف على الاتفاق باعتقال رموز الحزب وتعطيل نشاطه وفرض حراسة مشددة على مقاره، وتعاملت مع المسألة امنياً، ويبدو انها لم تقدر وقع ذلك خارجياً ولم تكن تتوقع ان تطالبها واشنطن بتوفير الحقوق المدنية والقانونية للترابي، وهو ليس صديقاً لها بل تتهمه بدعم الارهاب في فترة انشائه "المؤتمر الشعبي الإسلامي" الذي كان يحتضن اسلاميين تعتبر انهم يهددون مصالحها، بينما كانت الخرطوم تنتظر ارتياحاً غربياً وعربياً. وتتجه قضية الترابي وحزبه الى المسرح القانوني حيث شكلت وزارة العدل لجنة من خمسة مستشارين للتحقيق مع خمسة من رموز الحزب تحت طائلة القانون الجنائي بتهم تقويض الدستور واثارة الحرب ضد الدولة، وتراوح عقوبتها في حال ثبوتها بين الاعدام والسجن المؤبد. لكن خبراء قانونيين يرون ان جذور القضية سياسية وان سعي الحكومة الى جعلها قانونية يراد به مخاطبة العالم بأن السودان دولة مؤسسات تقوم على القانون والعدل، فاذا برّأ القضاء ساحة المتهمين فلن تخسر الحكومة شيئاً بل تكسب سياسياً واعلامياً. وفي المقابل يعتقد مهتمون بالشأن السوداني ان هذه القضية لن تنتهي فصولها بالقانون باعتبارها محطة متقدمة في صراع بين الاسلاميين السودانيين بلغ ذروته "وعندما يصل الصراع الذروة لا يبقى من سبيل امامه الا الحل السلمي او الانفجار المدمر". الوجه الآخر لاتفاق الترابي - قرنق انه فتح الباب امام تحالفات جديدة ربما كانت "الحركة الشعبية" محورها، فبعده جاء اتفاق زعيم حزب الامة الصادق المهدي ورئيس الحزب الاتحادي الديموقراطي محمد عثمان الميرغني في القاهرة الخميس الماضي. ويتجه حزب الامة الى ابرام اتفاق مع قرنق قريباً بعد خروج الاول من "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض. ويرتبط الاتحادي مع الحركة بعلاقة وثيقة يمكن وصفها في مقام التحالف، اذ ان "ثورة الانقاذ" التي أعدّ لها الترابي صيف 1989 اطاحت اتفاقاً ابرمه الميرغني وقرنق في اديس ابابا. ونشطت الخرطوم اخيراً في طلب وساطة افريقية لعقد لقاء مع قرنق لاختصار جولات التفاوض المتعثرة معه منذ 11 عاماً، ولقطع الطريق امام القوى السياسية التي تسعى الى "زواج منفعة" مع حركة ترفع السلاح منذ 18 عاماً ضد انظمة عسكرية وانتقالية وحزبية، وعرفت كيف تستفيد من التناقضات المحلية والظروف الاقليمية والتقلبات العالمية.