أعتقد ان العرب من أكثر شعوب الأرض تلذذاً بالاستيلاء على مفاتيح المستقبل، والهيمنة على "طرق حرير" الخلود، واحتكار ألقاب المجد!... فعبر تاريخ شعري يمتد على أكثر من عشرين قرناً، سمح قضاة الثقافة العربية، ولمرة واحدة، بإطلاق لقب "الريادة" على نفر محدود من الشعراء كانت أسبقيتهم الفنية الوحيدة هي "تحطيم القوالب العروضية" في بناء القصيدة، متغافلين عن حصيلة لانهائية من الانجازات الاستثنائية التي حققها شعراء بارزون في تاريخ كتابتنا الشعرية منذ امرئ القيس والنابغة والمتنبي وأبي نواس والمعري... وصولاً الى جبران وأبي شبكة ومحمود درويش والماغوط وسواهم... وإذاً، فلمرة واحدة، وعلى أثر مغامرة شكلية فرضتها شروط العمل الابداعي نفسها وكانت اوروبا قد سبقتنا اليها منذ عقود طويلة يتم استحداث مصطلح الريادة وتوزيع أوسمته... ومن ثم اقفال الباب في وجه أي طموح فني جديد يمكن أن يشكل اضافة الى أساليب الكتابة العربية!... هذا الميل الغامض لتأبيد المصطلحات والأوسمة والألقاب هو نفسه ما جعل نقاد السينما والموسيقى والغناء، قبل نصف قرن من الآن، يخترعون ذلك الكمّ السخي من الألقاب "الأبدية" التي أطلقوها على مبدعي أزمنتهم في هذا المجال الابداعي أو ذاك، حيث غدا من المستحيل تجريد أي من هؤلاء من "أوسكار" خلوده، أو حتى مجرد التفكير في منح سواه من مبدعي الأجيال اللاحقة ما يشبه ذلك الأوسكار اليتيم والمؤبد. غرام مدهش بالألقاب يجعل من تاريخ الابداع احتكاراً مقفلاً على بضعة أسماء ورموز... كلُّ محاولة للاضافة اليها تعتبر ضرباً من الكفر الصريح بالمواثيق "الإيمانية" التي تمّ تكريسها خلال حقبة معينة من الزمن، فتحولت الى مواثيق أبدية يستحيل المساس بها... أياً كانت انجازات مبدعي الماضي وأياً ستكون اسهامات "وعود" المستقبل. فلمرة واحدة في تاريخ شعرنا العربي يتوّج شاعر باعتباره أميراً للشعراء... ثم يقفل باب الخلود! ولمرة واحدة يتوج موسيقي باعتباره "موسيقاراً للجيل" ثم يرحل الموسيقار وينقرض الجيل... ويقفل الباب... ويبقى الوسام خالداً وأبدياً! وهكذا تتوالى الأوسمة والألقاب: سيدة الشاشة، أمير البيان، ملك العود، سلطان الطرب، والقائمة لا تنتهي. لكن... الأمل ينتهي. ان ولعنا الخرافي ب"تأبيد" انجازات فنانينا وشعرائنا وحمائنا الأولين يعكس في العمق العميق لطبيعة الشخصية العربية ولعاً شبيهاً به في ما نطلقه من ألقاب أبدية على رجال السياسة وقادة العشائر وأئمة المذاهب والملل والتيارات، وبالتالي يعكس هشاشة البنية وفقراً مخيفاً في ثقة الانسان بمكانته على خريطة الحياة. ولع "دياني" هو خليط من التأليه والتكفير في آن، وهو نفسه ما يجعل حاجتنا الى بطل شعري مؤبد شبيهة بحاجتنا الى بطل سياسي مؤبد: حاجة الفقير الى صنم. هذه الشهية المفتوحة لإطلاق أحكام الاستيلاء على المجد الأبدي، إنما تخفي وراءها عدداً لا يحصى من أحكام الحرمان والنفي والإلغاء والإعدام المعنوي. وهكذا، فالمؤسسة النقدية العربية المخولة توزيع الألقاب والأوسكارات، وعوضاً عن أن تكون حاملة وعود ومفاتيح، تتحول الى حارسة للأصنام... ومؤتمنة أبدية على أقفال الحياة. كرم "بلاغي" اقطاعي المنشأ، مهمته الوحيدة احتكار مطلق لكامل مساحة التاريخ، وإقفال الممرات في وجه أي وافد جديد يحلم بدخول فردوس الرواد وأصحاب الإنجازات التحديثية التي هي العلامة الأكثر نصاعة في الدلالة على مكانة الابداع الأدبي أو الفني أو السياسي... الخ. في محاولة للاطلال على تاريخ الابداع الانساني أسوق الأمثلة الآتية: في الرياضيات، وعلى مدى أكثر من ثلاثين قرناً، كانت مسلمات إقليدس وأبرزها مسلمته الخامسة تعتبر واحدة من أعظم الإلهامات الهندسية. على أن هذه المسلمات، على رغم أهميتها الاستثنائية في سياق الانجاز الرياضي، وبسبب بقائها قروناً عدة من دون أن تجد من يثبت صحتها، إنما كانت تشهد - بحسب تعبير أحد العلماء المعاصرين - على ضيق أفق علماء الرياضيات العجيب الى درجة الفكاهة، بل ان الخوض في مثل هذه المسائل - بالمقاييس العلمية لعصرنا، ومقارنة مع النظرية النسبية على سبيل المثال - ليس أكثر من لعب أطفال. مع ذلك لا أحد الآن من دارسي الرياضيات وعلمائها ينكر فضل الحدس الإلهامي لإقليدس. لكن... لا أحد أيضاً ينكر الجهود العقلية الفذة التي قام بها رياضيون لاحقون مثل جاوس وعمر الخيام ولوباتشيفسكي، وصولاً الى أينشتين الذي اعتماداً على صحة هذه المسلمة وسواها تمكن من الوصول الى نظرية النسبية بتطبيقاتها التي قلبت الموازين العلمية لعصرنا... وربما لعصور لاحقة. لكن، على رغم ذلك، لا أحد تسمح له كرامته العقلية بتجريد إقليدس من وسامه الريادي ليخلعه على لوباتشيفسكي أو أينشتين أو سواهما: الإبداع كان محصلة جهود بشرية لا حصر لها، وليس من حق أحد أياً كان احتكار هذه الجهود والزعم أنه صاحب الحق المطلق باللقب والموقع والوسام. مثال آخر: في الفنون كلها الرسم والنحت والموسيقى... الخ تتجلى بوضوح قدرة الانسان على ان يكون رائداً في زمنه، لكن من دون أن يتجرأ على الزعم باحتكار ألقاب الريادة وحجبها عمّن سبقه أو من يمكن أن يأتي بعده، ذلك ان الريادة فعل انساني يومي، بل لعلها هي وحدها ما يجعل من أي عمل فني عملاً قابلاً للحياة. وهكذا تغدو المقارنات والموازنات وأفعال التفضيل كلها باطلة ومجحفة. وإلا فمن الذي يملك الجرأة - بمقاييسنا الفنية المعاصرة - على الزعم أن وسام الريادة هو حق حصري لمايكل أنجلو ودافنتشي وباخ وموزارت على سبيل المثال، في حين يحفل تاريخ صناعة الجمال بأسماء لا حصر لها من المبدعين: تيتسيان، الغريكو، رودان، رمبرانت، بروغل، بيتهوفن، غويا، وصولاً الى رودان وفان غوخ وسيزان وهنري مور وتشايكوفسكي وكارل أورف... الخ، وقائمة الابداع والمبدعين لا تنتهي ولا يمكن اقفالها. وإذاً فمن الذي يستطيع - في شعرنا العربي - أن يقرر من هم الرواد "الحصريون": المتنبي أم أبو نواس؟ الياس أبو شبكة أم نازك الملائكة؟ جبران خليل جبران أم... الخ... الخ. ما نعرفه ان الريادة فاعلية مستمرة في الزمن، وان الحداثة هي مشاركة دائمة في تحريك سطح الحياة وتجديد هوائها الابداعي في الفلسفة والفنون والعقائد وأساليب العيش...، هي التوق الدائم والمشروع لإغناء المفاهيم والمذاهب ومقولات السياسة وعلم الاجتماع، الخ. وبهذا المعنى ما من ريادة "مؤبدة". كل ريادة هي "نهل" من ريادة سلفت، وباب مفتوح على ريادات أخرى لا يمكن التنبؤ بها. الريادة هي: ساعي البريد الشجاع والمنصف بين الماضي والمستقبل... مهما اختلفت أساليب صوغ الرسائل وأدوات توصيلها. كل ريادة - إضافة الى كونها شهوة لاقتحام المستقبل - هي أيضاً تعمّق في العودة الى ميراث الماضي، حيث يمكننا اذا عدنا الى بدايات بيكاسو ودالي أن نعثر على آثار دافنتشي وروبنز وآخرين. وبالاصغاء الحر الى أشعار الرواد نعثر على رائحة المتنبي وأبي العلاء والياس أبي شبكة، من غير ان ننكر أن بعد هذه الموجة "المغلقة" من أسماء الرواد ستأتي أسماء رواد آخرين يساهمون في إكمال المشهد وإغناء الفضاء الابداعي. وإلا فإذا كان التصنيف الريادي قد أقفل على انجازات شعراء الخمسينات الذين "حطموا شكل العمود الشعري التقليدي"... فأين يمكننا في هذه الحال أن نضع أسماء محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف ومحمد الماغوط وأنسي الحاج... وسواهم ممن جاؤوا لاحقاً؟! إننا - بالاصغاء العادل الى صوت الحاجات الجمالية للبشر... وأذواق عصورهم - قادرون دائماً على اكتشاف الريادة في جميع الأزمنة والكثير من الانجازات. وسيمكننا حينئذ الاعتراف بريادة المتنبي تماماً كما نعترف بريادة محمود درويش، وبالقيمة المكرسة لأحمد شوقي تماماً كقيمة أمل دنقل، وبالمكانة الخالدة لدانتي وشكسبير اضافة الى مكانة وولت ويتمان وجاك بريفير... الخ. الريادة إذاً ليست فقط في تحطيم الأشكال الأشكال جميعها عرضة للتحطم بفعل حيوية الزمان... وإلا فسوف نكون مضطرين لإسباغ هذه "النعمة" على شعراء كثيرين من معاصرينا الذين لا يستحقونها، أو حجبها عن كثيرين من شعراء رحلوا أو سيأتون ممن كانوا أو سيكونون جديرين بها. وإذاً، فالريادة ليست احتكاراً، لأن في مثل هذا الاحتكار حكماً غاشماً وغير قابل للطعن على حيوية الحياة وغناها وقدرتها الهائلة على الانجاب. وإلا فسوف نكون مضطرين للحكم على تاريخنا الابداعي كله بأنه تاريخ عاقر. مرة أخرى: الريادة ليست احتكاراً. وكل عمل فني، شعراً كان أو موسيقى أو رسماً، انما هو عمل شاركت في صناعته أجيال ومدارس وعقول واجتهادات، وبالتالي فهو يحمل - اضافة الى بصمات صاحبه - آلاف بصمات الرواد الأسلاف، ودائماً ستظل هنالك هوامش اضافية مفتوحة للمزيد من بصمات رواد المستقبل. ما من حداثة أبدية وخالدة. ما من ريادة خالدة. ما من نظام سياسي أو تشريع مذهبي أو طريقة حياة...، وبهذا المعنى فكل ريادة هي - من جانب ما - حكم على نفسها بالتحول الى موروث... لا يلبث ان يتحول الى "تقليد". ولعلنا، بهذا التعبّد المطلق لإنجازات طائفة حصرية من الرواد، لا نفعل غير أن نحكم على تاريخنا الابداعي كله بالضمور والموت. ... لنتذكر تاريخ الثقافة الاغريقية: حتى آلهة الأولمب عجزت عن أن تكون وحدها المحتكر الأبدي لملكية السماوات.