حرصُ الأديب على التجريب والابتكار وإبداع جديد لم يُسبق إليه أمرٌ رائع وحق من أبسط حقوقه، لكن عملية الابتكار عملية بالغة الصعوبة وتحتاج، إضافة لامتلاك الموهبة القوية، لثقافة واسعة تمكّن المبدع من الإلمام بتجارب من سبقوه لكي يستطيع الاستفادة منها وتجاوزها بكتابة نصوص إبداعية رائدة وخارجة عن إطار المألوف. في حوارات الشعراء الشعبيين نجد ادعاءات عديدة يزعم أصحابها السبق والريادة بالتوصل إلى صور شعرية جديدة أو ابتكار بحور لم يعرفها السابقون ولم ينظموا عليها، وهي ادعاءات يتبيّن غالباً أنها مخالفة للواقع ولا أساس لها من الصحة، فبعض الشعراء يدّعي الريادة في أمر من الأمور بدافع الحماس والثقة المفرطة في إنتاجه ومن دون أن يشغل نفسه بالتأكد من صحة ما يدّعيه، وبعضهم يتحدّث عن الريادة رغبةً في تضخيم الذات ولفت الأنظار، وقد أشرت في المقال السابق لنمط من أنماط تلك الادعاءات التي لا تقوم على أي أساس وتُردد دائماً وكأنها حقائق مُتفق عليها. هناك نقطة مهمّة ترتبط بادعاء الريادة أشار إليها العميدي (ت 433ه) في سياق ردّه على من سمّاهم: «حاملي عرش» المتنبي، ويعني المتعصبين الذين يُسرفون في الحديث عن سبق المتنبي إلى المعاني ويبالغون في وصف الإعجاز الذي تنطوي عليه أشعاره، فالعميدي يرى بأنه لا يمكن القطع بسبق المتنبي إلى المعاني التي طرقها ما لم يكن هذا الحكم مبنياً علم واسع و»إحاطة» بدواوين الشعراء السابقين له، ويوضح رأيه قائلاً: «وإني لأعجب والله من جماعة يغلون في ذكر المتنبي وأمره، ويدّعون الإعجاز في شعره، ويزعمون أن الأبيات المعروفة له هو مبتدعها ومخترعها وُمحدثها ومفترعها، لم يسبق إلى معناها شاعر، ولم ينطق بأمثالها باد ولا حاضر ... وكيف يستجيزون لنفوسهم، ويستحسنون في عقولهم أن يشهدوا شهادة قاطعة، ويحكموا جزماً بأنها له غير مأخوذة ولا مسروقة، وأن طرائقها هو من ابتدأ بتوطئتها غير مسلوكة لغيره ولا مطروقة؟ فليت شعري هل أحاطوا علماً بنصف دواوين الشعراء للجاهلية والمخضرمين والمتقدمين والمحدثين فضلاً عن جميعها؟ أم هل فيهم من يميز بين مستعملها وبديعها حتى يطلقوا القول غير محتشمين بأن المتنبي من بين أولئك الشعراء أبدع معاني لم يفطن لها سواه، ولم يعثر بها أحد غيره ممن يجري مجراه». رغم تحامل العميدي الواضح على المتنبي في مواضع عديدة من كتابه إلا أن كلامه هذا كلام منطقي يستحق التأمل، فما ذكره عن «حاملي عرش المتنبي» ينطبق على كثير من النقاد والمتلقين ممن يجزمون بريادة شاعر معين وسبقه إلى المعاني من دون تكليف أنفسهم عناء الرجوع لدواوين الشعراء الآخرين والبحث فيها، مع أن الحديث عن سبق الشاعر وريادته، والجزم بذلك، يظل ادعاءً لا قيمة له في حالة إهمال القيام بهذا الإجراء. أخيراً يقول متعب التركي: غرامك مثل نارٍ حطبها الغلا، والنار تموت، وغلاك اللي بقلبي يولّعها يقولون ما ودّعك؟ قلت الفراق وصار والإنسان روحه تنسلب ما يودعها