-1- في خِصامٍ تُروِّج له الفضّة رأيتُ أقداماً تتقاسَمُ السّماء، وكان وَقْعُ خُطواتِها يَتخبّطُ في سلاسِلَ مُوّهت بِذهَب الصلاة. -2- أطفالٌ شيوخٌ يسيرون كأنّهم يَتأبّطون الأرصفة، والشّوارعُ تسيلُ بأشباحٍ تبدو الشّمس فوقها كأنّها غيمٌ أحمر. -3- إيحاءٌ من جِهة المنارَة - مقهى كراحةِ اليد، غيرَ أنّه واسِعٌ كجبهةِ الأُفق، مقهى كمثل طائرٍ يَبْني عُشّه في جَوْفِ الرّيح انزلْ بطيئاً على الدَّرج أيّها المُرهَق وَخُذْ نارجيلةً - تَذكّر فيها لُهاثَ الإلآهة الفينيقيّة، أوروبّ، فيما كان يطاردُها وَيخطفُها زوس، كبيرُ آلهة اليونان. سَتَرى أنّه لهاثٌ، يجيء من الحنينِ لا من التّعَب، وسوف تشعر أَنّك والبحرُ في سريرٍ واحدٍ، فيما يستقبلك صاحب المقهى، صامِتاً، باسِماً، شِبهَ تائهٍ، كأنّه نَوْرسٌ تُضلّلهُ الشّواطئ. نساءٌ إلى جانب الرّجال - يسافر الرّجال الى أقاصي أحلامهم، ويعودون، كمثل سُفنٍ لا مكان لهَا إلاّ في موْج اللّه. وتدخل النّساءُ في ملكوتِ المخيّلة، فيما يُقَلِّبْنَ خواصرهنَّ، وَيُوشْوشْنَ الأعمدة. -4- احملْ مناخَ هذا المقهى في رئتيكَ واخرجْ الى الشّوارع - تَانْيَا، انظري! كأنَّ الأشجارَ لا تتذكّر حتّى أسماءَها، وكلّ شيء يتنكَّر لِلتّراب الذي سوّاه. وها هو الهَباءُ يُجدّد أشكالَهُ لابِساً خِرْقَةَ الأرض. وانظري - إلى الجرس في هذه الكنيسة، كأنّه جرَّةٌ مِن الدّمع، وإلى هذه المئذنة - كيف يخرج منها الصَّوتُ كأنّه جُرحٌ يتنقّل على جسَدِ الفضاء. -5- كلاّ، لا تكفي شمعةٌ واحدة حتّى لإضاءَةِ شارعٍ ضيّقٍ، فمن أين لها، إذنْ، أن تُضيء العالم؟ تساءلت سلوى - وكانت تتحدّث عن شطآنٍ ترفضُ حتّى أمواجَها التي أَعطتْها المعنى. -6- آلاتٌ بأصواتٍ بشريّةٍ تَروي سيرةَ الوَقْت - وما يُسمّونه الحُبَّ ذراعٌ ممدودةٌ، غيرَ أَنّ له صَوتاً يبدو، حين تُصغي إليه، كأنّه لهجةٌ بائدة. يا حُبّ، ما هذه العبوديّة التي تَنْسكبُ حُرَّةً مِن أَباريقِ أبديّةٍ تحيا في عُرسٍ دائمٍ؟ -7- عُدْ الى المقهى - النّهارُ واللّيلُ نَسْران تَوْأمانِ يَلْتهِمانِ جُثّةَ المكان. ولماذا أخافُ من خطواتيَ الأُولى في بابِ إدريس؟ ولماذا، كلما نزلت الى ساحة البُرْج، أرَى أوْجاعي كمثل قطعانٍ نافرة تعرُج على سلالم تاريخها؟ وأمسِ، التفتَ العابرون إليَّ، ضاحكين، كأنّهم يَسْخرون، عندما كنت أنحني فوق هذه السّاحة، لأَلْتَقِط بعضَ أشْلائِها، واضِعاً أذنيَّ على ترابها - تُراهُ لا يَزالُ يُخْبِئُ قلوباً تنبضُ بين ذَرّاتِه؟ ولماذا أُحِسّ الآنَ أَنّ سَاحة البُرجِ تتحوّل الى جُذورٍ تَنْغرِسُ في خطواتي؟ آهِ من أَرْضٍ لا تَتّسِعُ إلاّ للآلهةِ وظِلالها! -8- لم أعد أَعرفُ كيف أمشي بهذا الحذاء الحديديّ المحشوّ بالمسامير، الحذاء الذي تشارك في صنعهِ المطاعِمُ والمتاجر. لم أعد أعرفُ كيف أَنْسى غاباتِ القَتلى، تلك التي تختفي وراء الأبواب، وأين أَخْفيتِ، إذن، جَراثيمَكِ، أيّتها الأَيْدي القاتلة؟ أتَوسَّلُ إليكِ، أيّتها الكنيسة، القائمة في هذا الشّارع الذي يُسمّونه العَصْر، أَنْ تَدُوري حول الشّمس. بالرّجاءِ نفسه، أتَوسَّلُ إليكِ أيّتها المِئذَنة. وأسمع ما تقولانه عَنّا: معارضون، غاضبون، ثُوّار - صابونٌ أحمرَ في كيسٍ ضَخْمٍ من الصّابون الأبيض. صابونٌ عائلةٌ واحدة في دُكّانٍ واحد. بعضه يَصيرُ في الأعجوبة، سجناً بعضُهُ يَصيرُ سَجّاناً. وأتوسَّلُ إليكما، أنتما كذلك، عَنّي: لستُ شاعرَ بيروت، ولا بين شعرائِها، ولستُ من أنبيائها، - في ثيابيَ شَخْصٌ يُفَضِّل، بِاسْمِها، أن يُمْضيَ وقته في صَداقةِ الأسئلة. أين تذهب، إذن، بيروتُ أيّتها الأختُ المقنَّعةُ، يا دمشق؟ -9- تُوقظني النّجومُ في ليل بيروت، لكي تَسْتَنْطِقني: هَل أنتَ مع النّهار أم مع اللّيل؟ هَلْ، حَقّاً، جَاءَتْكَ الرّيح غاضبةً لكي تسألكَ عن الشّجرة التي تَنْتَمِي إليها؟ ولماذا تقولُ: الشكّ في بيروت ترابٌ أخضَر؟ ولماذا تُصرّ على السّؤال: ماذا يفعل نَبْعٌ ليس إلا اسْتِسْلاماً - طبيعةً وطَبْعاً؟ وماذا تقدر مدينةٌ أَنْ تكتبَ، فيما يكون فعلُها تحتَ الورَقِ، واسْمُها خارجَ الحِبْر؟ ولماذا لا تحتفي هذه الأقلام التي تحتلُّ المكاتبَ والشّوارعَ، إِلاّ بالمَوْتَى أو بقارِعي الطّبول؟ ولماذا صَمَتَّ، عندما جاءت شَجَرةُ الورد، ووَضعَتْ يدَها عليكَ، وسألتكَ: مِن أين جاءكَ هذا العِطر؟ -10- أَظُنّني مَوْجةً تُسافِرُ، منذ أيّام جلجامش، نحو بيروتَ والعرب، لكنّها لم تَصِل بعد. -11- أيّها الوطنيّ، لا وطنَ لكَ. خيرٌ أن تَستَوْطِنَ لُغتكَ، فيما تُهيّئ لأحلامكَ سَقفاً تَلوذُ إليه، عندما تُجَنُّ الغيومُ وَتأخذُ بِازْدِرَادِ الفضاء. وَانْسَ، قَبل كلّ شيءٍ، أولئكَ الذين يرسمون جِسْمَ الشّعر بِحبْرِ الثّآليل. -12- عَجباً! كيف يحدثُ أَنّ صنوبرَ الكنيسة لا يَقرؤُه هواء المئذنة! كيث يحدث ان تجهلَ الكنيسة أنّ الهواءَ يهبّ، لا لشيءٍ، إِلاّ لكي يكونَ عَزاءً للِشّجر! -13- عُدْ إلى مَقْهاكَ، أيّها المُرْهَق! أَجلسْ تحت سَقْفٍ من الظلّ المَليء بالثّقوب، وأتَلعثَمُ في حديثي مع النّارجيلة - هذه الأُنْثى التي لا تتكلّم إلاّ بِجسدها كلّه. وكيف أقول لنبع صِنّين أن يُعْطِيَ لكلماتيَ صوتَ انْبجاساتِه، وفي داخلي صوتٌ يُتَمْتِم: أليست عودتُكَ رحيلاً آخر؟ وكيف أَسْتَجيبُ لرغبة اللَّيلِ في أن يضعَ رأسه على كتفيّ، ويَبْحثَ معيَ عن أَنْفِ الوردة التي تشمّ رائحةَ بيروت في أوّل الفَجْر؟ أجلسُ كمثل شَيْخٍ وُلِدَ منذ أكثرَ من ثلاثة آلاف سنة، على هذا الشّاطئ، وليس للبحر الذي يتلألأ أمامَهُ، أيّ حَظٍّ في أن يَتحوّل زوس إلى ثَوْرٍ أبيض يمخرُ في زُرْقتهِ خاطِفاً أوروبَّ! الفضاءُ مُبْتَذلٌ وَبالٍ، لا تكادُ شمسُه أن تَجدَ في ثَدْييها حليباً لِتُرضعَ طفلتَها الجائعةَ - الأرض. والقصائد تموتُ كمثل ملائكةٍ بلا أجنحة، وها أنا أكادُ أن أَرْتجفَ من البَرْدِ، ولا أَجِد ما أتغطَّى بهِ، إلاّ عبَاءةَ الكلام. بيروت - باريس، آذار 2001