مع نهاية شهر آذار مارس الحالي تتضح الصورة اكثر بالنسبة الى المسألة العراقية، خصوصاً ما يتعلق منها بمستقبل العقوبات المفروضة عليه منذ عشر سنوات، فالمشاورات لا تزال مستمرة بين الادارة الاميركية وكل من روسيا وفرنسا والصين، ودول المنطقة المعنية حول الكيفية التي ينبغي اتباعها في تحديد مستقبل العقوبات، وقد لا تتطلب نتيجة هذه المشاورات إستصدار قرار جديد من مجلس الامن يحدد نظام العقوبات الجديد، لأن الموضوع يتعلق بتغيير الاجراءات وليس في الطبيعة القانونية للنظام ذاته، ثم هناك مؤتمر القمة العربي الذي سيعقد في نهاية الشهر، وهو المؤتمر الذي ينتظر منه ان يحدد الموقف العربي من الاقتراحات المتداوله للتغيير المطلوب في نظام العقوبات بما يخفف من وطأته الاقتصادية والاجتماعية على الشعب العراقي. وقد جاءت جولة وزير الخارجية الاميركية كولن باول في المنطقة الاسبوع قبل الماضي ، بالاضافة الى مواضيع اخرى، لتسويق طروحات إدارته حول الموضوع نفسه لدى الدول العربية المعنية مباشرة وتحديدا سوريا ومصر والسعودية . يبدو من المعطيات المتوفرة حتى الآن في اعقاب زيارة وزير الخارجية الاميركية ان السياسة التي ستتبناها الادارة الاميركية الجديدة للرئىس جورج بوش الابن إزاء المسألة العراقية غير واضحة، فمن ناحية نجد ان ما قاله باول اثناء زيارته يشير الى توجه الادارة الجديدة نحو تعديل نظام العقوبات بما يسمح بتشديد الرقابة على التسلح، وتخفيفها على السلع المدنية. لكن من ناحية اخرى تتردد اخبار هذه الايام في واشنطن تؤكد ان هناك معارضة داخل الادارة لمثل هذا التوجه، خصوصاً من جانب وزارة الدفاع ومجلس الامن القومي، بالاضافة الى نائب الرئيس ديك تشيني. المعارضون يرون ان ليس هناك ما يدعو الى تخفيف العقوبات، وان هدف الادارة يجب ان يتمثل في إسقاط النظام، بل إن هناك من يقول ان باول ذهب بعيداً اكثر مما ينبغي في ما قاله عن اهمية تغيير نظام العقوبات وتخفيفه على الجانب الاقتصادي. وما يزيد من عدم الوضوح هنا ان الرئيس بوش، بغضّ النظر عما قاله أثناء حملته الانتخابية، لم يحسم خيار إدارته حيال العراق، ولم يعلن بوضوح الخطوط العريضة للسياسة التي ستتبناها، وقد يكون مثل هذا الاعلان مؤجلاً الى حين إنتهاء اعمال القمة العربية. الاختلاف داخل الادارة الجديدة ليس جديداً، ومن الامور التقليدية والمتعارف عليها في النظام السياسي الاميركي عدم التجانس بين اعضاء اي إدارة تدخل البيت الابيض، وذلك لتوفير مصادر متعددة للرأي والمعلومة امام الرئيس، الذي تقع عليه مسؤولية إتخاذ القرار الاخير. والاختلافات في هذه الحال لا تمس غالباً الاهداف الاستراتيجية، وإنما الوسائل والآليات السياسية والاجرائىة التي ينبغي الاعتماد عليها لتحقيق تلك الاهداف. من هنا فإن مايبدو انه عدم وضوح في سياسة الادارة لا يتجاوز في الاخير الامور التفصيلية. وعليه ليس رجماً بالغيب القول ان المسألة العراقية بدأت تدخل مرحلة جديدة بعد مرحلة الحرب، ومرحلة العقوبات الشاملة، وان ابرز معالم المرحلة الجديدة يتمثل في ثلاثة: ما يسمى ب "العقوبات الذكية"، ودعم وتفعيل المعارضة العراقية في الداخل، وإعادة بناء التحالف على اساس جديد قابل للاجماع بين اهم الاطراف الاقليمية والدولية، فالعقوبات "الذكية" تركز آثارها واهدافها على النظام من دون ان يمتد ذلك الى الشعب، ويعتقد ان هذا سيؤدي الى تحييد الاعتراضات الاخلاقية على العقوبات، ويوفر الدعم الدولي لها، الى جانب ان هذا النظام الجديد سيحرر الشعب من قبضة النظام، وبالتالي سيساعد في إضعاف النظام وليس في تقويته كما حصل حتى الآن. في الاتجاه نفسه تسعى الادارة الاميركية الجديدة الى إعادة بناء التحالف على اساس جديد ومختلف عن الاساس الذي كان عليه عام 1990 1991م. كان الهدف آنذاك محصوراً في تحرير الكويت. اما الآن فيبدو ان هناك هدفاً إستراتيجياً مختلفاً، وهو العمل على تهيئة الظروف داخل العراق، وعلى المستويين الاقليمي والدولي، بما يساعد على إسقاط النظام الحاكم في بغداد. والجديد في الامر هنا ان الادارة الجديدة قد تكون حسمت امرها وقررت تبني إسقاط النظام العراقي كهدف اساسي، وذلك على عكس الادارة السابقة التي كانت مترددة حول هذا الموضوع، طبعاً لن يتم تحقيق الهدف بتدخل مباشر، او بضربة واحدة، وإنما سيتم بشكل تدريجي وغير مباشر، كي يتحقق إسقاط النظام على يد قوى محلية. وتقوم المراهنة هنا، كما يبدو، على ان تشديد الحظر العسكري سيؤدي الى إضعاف النظام وجعله يبدو في نظر المؤسسة العسكرية غير قادر على الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه. ومن ناحية اخرى فإن تخفيف العقوبات الاقتصادية سوف يوجد مسافة كافية بين النظام وبين الشعب، تسمح للاخير بدرجة من الاستقلال الاقتصادي والسياسي عن النظام، وهذا يعتبر، في نظر اصحاب الخطة، عامل إضعاف إضافي للنظام. من هنا يأتي، كما يبدو، احياء دور المعارضة العراقية. فالهدف من التركيز على تفعيل هذا الدور في الداخل هو مساعدتها على تحقيق شيء من الإرباك والتشتت في سياسات النظام وانشطته، الامر الذي يزيد من إضعاف قدرته على التحكم بالوضع الداخلي. لكن نقطة الضعف الكبيرة في الاستراتيجية الجديدة هي المعارضة العراقية نفسها، وهذا واضح من مؤشرات عدة، ابرزها إنشقاق هذه المعارضة الى قوى وتيارات واحزاب وجماعات متناحرة، وإفتقادها الى قاعدة ملموسة داخل العراق، لكن اهم مؤشر الى هامشية دور المعارضة العراقية في إطار الحديث هنا هو ان المبادرة الى التعامل مع المسألة العراقية ولمواجهة النظام في بغداد ليست في يدها، وإنما في يد واشنطن ولندن، وهذا يجعل من المعارضة مجرد ملحق في الاستراتيجية، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها لتكون البديل المؤهل لحكم العراق. كيف سيتم التغيير إذاً، إذا كان هناك شيئ من ذلك؟ هنا لا يبدو ان الادارة الجديدة تختلف عن سابقتها، في انها تنتظر ان ياتي التغيير من داخل المؤسسة العسكرية لأنها الجهة المؤهلة لتحقيق ذلك داخل العراق. ومن هنا تأتي أهمية مناطق الحظر الجوي وحيويتها، فهذه المناطق هي الآلية الوحيدة التي تسمح لاميركا بحرية الحركة خارج قيود قرارات الاممالمتحدة، وبالتالي لن تتخلى عنها من دون تحقيق هدفها، او على الاقل من دون مقابل موازٍ ومقنع. من ناحية اخرى تشير المعطيات المتوفرة الى ان الدول العربية، والرئيسية منها خصوصاً، تتفق مع الخطة الاميركية المقترحة لتعديل نظام العقوبات بما يؤدي الى تشديد الحظر العسكري على النظام العراقي، كان هذا واضحاً في إلتزام الرئىس السوري بشارالاسد إخضاع انبوب النفط السوري - العراقي لرقابة الاممالمتحدة. كما كان واضحاً في إعلان وزير الخارجية المصري عمرو موسى ان الدول العربية مع رفع الحظر عن الشعب العراقي، وتلتزم في الوقت نفسه قرارات الاممالمتحدة. هذا الموقف العربي، إذا ما تمت المصادقة عليه في مؤتمر القمة المقبل في عمان، سيبقي على عزلة النظام العراقي، ما يزيد في إضعافه داخلياً أيضاً. في الاطار نفسه، يبدو ان الرحلات الى بغداد بدأت تفقد بريقها، والحديث عن تآكل العقوبات بدأ هو الاخر يتراجع ويخفت عما كان عليه. لماذا؟ هذا التغيير، كما لاحظ اكثر من مراقب، جاء في أعقاب الضربة العسكرية للدفاعات العراقية في ال 16 من الشهر الماضي، ما يجعله يبدو كأنه إستجابة لتلك الضربات التي جاءت لإبلاغ المعنيين ان هناك إدارة جديدة، وان هناك سياسة جديدة، ومن ثم كان لا بد من التوقف والانتظار، والمنطقة كلها تنتظر ايضاً. وليس مهماً توقع ما ستكون عليه نتائج الانتظار، فإذا كانت الولاياتالمتحدة تدفع بالاحداث والتطورات في إتجاه مصالحها في المنطقة، فإن النظام العراقي هو الآخر يحارب من اجل مصلحته، المتمثلة في بقائه وليس من اجل مصلحة الشعب العراقي. وفي النهاية سيسقط النظام بشكل او بآخر، طال الزمن او قصر. وليس مهماً كذلك إستخدام مسار الاحداث والتطورات في المسألة العراقية للحديث عن المخططات الاميركية لترسيخ هيمنة الدولة العظمى على مقدرات المنطقة خدمة لمصالحها وضد مصالح شعوبها، فهذا الحديث اصبح مكروراً بشكل ممل لأنه حديث في البديهيات التي اكل عليها زمن المنطقة وشرب لعقود طويلة، الى جانب ان هذا الحديث يعمل على المزج والتداخل بين الشعب العراقي وبين النظام السياسي وكأنهما في خندق واحد، وهذا إفتراء على حقيقة الوضع، وليس أدلّ على ذلك من ان كل محاولات النظام للخروج من مأزقه السياسي ليست موجهة الى الشعب، او من اجل مصلحة الشعب، وإنما هي موجهة الى الخارج تحديداً، فهو من ناحية يحاول توظيف الانتفاضة للتماهي مع مشروعية الصراع الفلسطيني من اجل التحرر والاستقلال في وجه الاحتلال الاسرائيلي المدعوم اميركياً، لكنه من ناحية اخرى يحاول ان يكسب الرأي العام الاميركي بدفعه مئة مليون يورو اوروبي الى فقراء الولاياتالمتحدة الاميركية. هذا عدا ان جهود النظام تتركز بشكل اساسي على أمنه وقدراته العسكرية، وليس على مساعدة الشعب إقتصادياً وإجتماعياً. واللافت في هذا الصدد انه بعد كل المآسي التي حدثت منذ الحرب العراقية - الايرانية حتى الآن لم تبد اي إشارة من النظام الى انه ينوي تحقيق شيء من الانفتاح السياسي والديموقراطية ولو على سبيل التقدير للشعب الذي دفع بمفرده ورغماً عنه فاتورة مغامرات النظام في العقدين الاخيرين. وهذا يفرض الالتفات الى ما تقوله تطورات المسألة العراقية عن دور النظام العراقي في صياغتها وفي توجيهها الوجهة التي إتخذتها حتى الان، والأهم انه وسط كل ذلك يبدو مأزق الشعب العراقي الذي يجد نفسه، ويجد محنته قد تحولت الى مجرد ورقة للإبتزاز من قبل أطراف عدة معنية بالمسألة العراقية، ويتبدى المأزق في اكثر صوره قسوة ان النظام العراقي نفسه من اكثر الاطراف إستخداماً لورقة "محنة شعبه" في صراعه من اجل البقاء في سدة الحكم، وإستخدام النظام العراقي لهذه الورقة لايتم في إتجاه التخفيف من معاناة الشعب تحت وطأة الحصار، بل يبدو وكأن النظام يريد مضاعفة المعاناة حتى ترتفع ارقام الفقر ومعها اعداد المرضى والموتى ليتسنى له مضاعفة التأثير على مشاعر الرأي العام لتحقيق مكاسب سياسية تساعده على البقاء في وجه الهيمنة الاميركية. للسنة العاشرة الآن لانزال جميعا نردد السؤال ذاته عن مستقبل العقوبات، ومستقبل النظام الحاكم ومعه الشعب العراقي، وعن مستقبل المنطقة ككل، والمفارقة ان الرئيس الاميركي السابق، جورج بوش الاب قال مخاطباً الرئىس العراقي صدام حسين، في يناير عام 1991م مانصه "ماهو مطروح هنا ليس مستقبل الكويت، وإنما مستقبل العراق، وتقرير هذا المستقبل يعتمد عليك انت". * اكاديمي وكاتب سعودي.