وأخيراً، جاءت النتيجة وانقشعت "الغمامة" على عكس "غمامة" طابا التي اختلف المفاوضون الفلسطينيون حول مدى انقشاعها عن المشهد السياسي الإسرائيلي، وأصبح شارون، صاحب البرنامج السياسي الموصوف فلسطينياً بكونه "وصفة وخطة للحرب وليس للسلام"، رئيساً منتخباً للوزراء في إسرائيل. كما تبينّ، وكان متوقعاً أصلاً، باءت بالفشل الذريع جميع المحاولات الفجّة والرعناء التي قام بها رسميون فلسطينيون لمساعدة باراك في محاولته البائسة للتشبث بالمنصب الذي أحبه وأذهله على السواء. ومن يراجع التصريحات والتصرفات الفلسطينية المتعلقة بالانتخابات الإسرائيلية على مدى الأسابيع القليلة الماضية يكتشف بيسر مدى عمق الأزمة واشتداد وتيرة الورطة التي أوصل الجانب الفلسطيني نفسه إليها. فمن ناحية، بقي الجانب الفلسطيني الرسمي، بمناسبة ومن دون مناسبة، يعلن على مدى السنوات الطويلة الماضية عن التزامه الثابت والأكيد بالسلام "خياراً استراتيجياً"، والمفاوضات طريقاً وحيداً لاحلال السلام، وذلك لاسترضاء "الراعي الوحيد" للسلام والممولين لاستدرار العطف السياسي والمالي على طريق مراكمة الوقائع لإقامة "الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف". من ناحية أخرى، اكتشف هذا الجانب الفلسطيني بالممارسة الصعبة، ومن خلال المعاناة من تجارب مريرة استمرت على مدى سنوات التفاوض السابقة، عقم التفاوض مع "الشريك" تلو "الشريك" من رؤساء الوزارات الإسرائيلية، رابين وبيريز ونتانياهو. ولذلك بقيت الاتفاقات المعقودة التي كان "يُطنطِنُ" بها في حينها حبراً على ورق في مجملها، وبقي المستَلم فلسطينياً من أراضٍ لا يتجاوز نسبة ضئيلة من الموعود، وبقيت مناطق "السيادة!" الفلسطينية مجرد كانتونات مقلصة ومعزولة عن بعضها بعضاً. ولكن برغم ذلك فإن الأغراض السياسية استدعت من أوساط رسمية فلسطينية استمرار بث الأمل الزائف في نفوس "الجمهور" الشغوفة بالتحرر والاستقلال. ولردم الفجوة المتزايدة بين ضآلة المستحصل عليه فعلياً من إسرائيل عن طريق التفاوض، والمتوقع من قبل الأوساط الرسمية الفلسطينية، بدأت هذه الأوساط في تصعيد مطالبها اللفظية من إسرائيل استرضاءً لتصاعد سلبية المناخ الفلسطيني العام تجاه الأداء التفاوضي على الصعيد الخارجي، وضعف الأداء على مختلف مستويات الصعيد الداخلي. من ناحية ثالثة، اكتشف الجانب الفلسطيني الرسمي أنه على رغم من فجاجة ومراوغة باراك وعدم التزامه كسابقيه بالاتفاقات وجدول تنفيذها، فإن المفاوضات معه أفضت إلى أكثر المواقف الإسرائيلية قرباً ومقاربة مع المطالب الفلسطينية، ناهيك أنه لم يكن متوقعاً أن تصل هذه المقاربة إلى درجة التطابق الكامل مع المطالب الفلسطينية، وإلا لما كان هناك حاجة للتفاوض أصلاً. هنا وقع الجانب الفلسطيني في المعضلة. فمن جهة، كان المستحصل عليه من باراك، ابتداءً من قمة كامب ديفيد، يُنبىء بأول مؤشر فعلي وحقيقي الى إمكان التوصل إلى تسوية تفاوضية للصراع تكون أقرب ما يمكن أن تسمح به أسس العملية التفاوضية باتجاه الموقف الفلسطيني. ولكن ، من جهة ثانية، كان المستحصل عليه من باراك لا يفي بغرض ما تم تصعيده فلسطينياً من مطالب، أُجّجت لتلبية مستلزمات داخلية، وكان معلوماً بعدم إمكان أن تحتملها العملية التفاوضية. ونتيجة للتضارب بين التطورات الحاصلة على الجبهتين، الخارجية التفاوضية والداخلية المطالبية، ارتأت القيادة الفلسطينية، على رغم بروز تباينات بين شخوص فيها حول سبل التعامل مع تطورات المسيرة السياسية، أنه من الأسلم التوجه نحو تشديد الخناق على باراك لاستحصال "المقاربة الأقصى". وكانت انتفاضة الأقصى السبيل المناسب لتحقيق ذلك. وكان من بين أهم الأسباب التي دفعت بهذا الاتجاه سببان: الأول، ضعف باراك السياسي واستقالته وخوضه معركة انتخابات حاسمة لتحديد مصيره، وقد ظنها الجانب الفلسطيني مناسبة لاقتناص المزيد من التنازلات. والثاني، تصاعد حالة الاحتقان داخل المجتمع الفلسطيني ليس بسبب فشل عملية التسوية فحسب، وإنما جراء تراكم ممارسات سلبية متعددة المستويات، يبرز منها سوء إدارة وترهل وظيفي وفساد مالي. وكان توجه الغضب الفلسطيني نحو إسرائيل يضرب عصفورين بحجر واحد، إذ انه بالإضافة إلى الضغط على باراك يشكل أيضاً متنفساً مناسباً ومفيداً لتفريغ الضغط الداخلي الناجم عن حالة الاحتقان الذاتي. واندلعت الانتفاضة، لكن سرعان ما بدأت هي نفسها تعاني معضلة التعارضية ذاتها. فقد تم بواسطتها الضغط على باراك لتقديم المزيد من التنازلات التي يبدو أنه استجاب بعضها، لكنه عجز عن تلبية الأساسي منها لضعفه السياسي الذي أستُخدم أصلاً كمدخل فلسطيني لممارسة الضغط. أي أن قوة باراك وقدرته على تقديم التنازلات من خلال المفاوضات كانت لها حدود لا يستطيع تجاوزها، وكان على الجانب الفلسطيني تقديرها والتعامل معها اذا كان يرغب في التوصل إلى تسوية تفاوضية. وعلى رغم رغبته في ذلك، واعتقاد قسم من قياداته التفاوضية بأهمية ما تم الاستحصال عليه من باراك، إلا أن الجانب الفلسطيني أحجم في نهاية المطاف عن التعامل مع "المقاربة الأقصى" الذي دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقيل باتجاهها، فأفقده إمكان الفوز في الانتخابات وهو أمر ضروري لاستخلاص النتيجة من "خضّ" المفاوضات، وأفقد ذاته إمكان اقتناص المقاربة التفاوضية الأهم منذ بدء العملية التفاوضية. أما السبب في هذا الإحجام فلم يكن اقتناعاً فلسطينياً رسمياً راسخاً بعدم جدوى مقاربة باراك، والتي تم بالمناسبة التعامل إيجابياً معها في طابا، وإنما اكتشاف عدم القدرة على تسويغ هذا التعامل معها على الجبهة الداخلية الفلسطينية، بعدما شحنت هذه الجبهة بأقصى الاشتراطات، وجرى تأليبها على الجهة نفسها التي كانت تجري معها المفاوضات، أي على باراك. وقد يكون هذا هو التناقض الأهم والأقسى الذي وجد الجانب الفلسطيني نفسه فيه: كيف يمكن التوصل إلى تسوية سياسية عن طريق المفاوضات والاستحصال على قبول فلسطيني بها بعدما تم، أيضاً، رفع سقف إشتراطاتها علناً لتصبح إشتراطات "تحريرية" لا اشتراطات "تفاوضية"؟ أوقعت هذه المعضلة التعارضية الجانب الفلسطيني الرسمي في بلبلة. اذ اعتبر هذا الجانب، على الأقل على مستوى الأحاديث الخاصة والتلميحات الخجولة، باراك متقدماً تفاوضياً على جميع من تم التفاوض معهم إسرائيلياً. ولذلك، أعطيت إشارات إيجابية على ضرورة استمراره في السلطة، تمحورت حول الإعلان بصيغ مختلفة أن الاتفاق معه صار وشيكاً. في الوقت نفسه ولأسباب أخرى، تم الإعلان أن باراك نفسه مجرم حرب يجب أن يحاكم أمام محكمة دولية على ما اقترفه ضد الشعب الفلسطيني سابقاً وحالياً. وعندما عقد فلسطينيو 1948 العزم على مقاطعة الانتخابات لمعاقبة مجرم الحرب هذا، بدأت تصدر تصريحات من الجهات نفسها التي أعلنته مجرم حرب تناشدهم ضرورة المشاركة والتصويت لجهة السلام، أي لباراك. جاءت تلك المناشدة متأخرة، وبدون أي دلائل تشير إلى شرعية وصدقية التغير في الموقف، سوى التخوف من شارون "صاحب وصفة وخطة الحرب وليس السلام"، وكأن "خطر" شارون لم يكن ماثلاً للعيان عندما تم الإعلان عن "جرمية" باراك. ولكن، في كل الأحوال، كان باراك حصاناً خاسراً، ليس فقط لكونه جامحاً ومختالاً على غير انضباط في مسار السباق، وإنما أيضاً لأن فارسه فشل في أن يقوده ويوجهه عل المسار. "طارد" باراك كثيراً، وأثار الكثير من زوابع الغبار، ولكن عند انتهاء السباق وانقشاع الغبار، بزغ شارون منتصراً. وعوضاً عن الغصة المخفيّة التي قد يخلّفها ذلك لدى البعض، يجدر البدء في الاستعداد لخوض معركة "السباق الجديد" منذ الآن. أما أهم نقطة انطلاق في هذا الاستعداد فتتمثل في الاستعاضة الفلسطينية عن توظيف التكتيكات الآنية المتعارضة، التي تثير البلبلة بيننا أكثر من غيرنا، باستراتيجية واحدة، واضحة وثابتة. فالتأرجح وتبديل المسارات بدون بوصلة يؤدي إلى تخبط في تحديد السياسات. وهذا التخبط يمثل السبب الرئيس لعدم تحقيق الأهداف. أستاذ العلوم السياسية، جامعة بيرزيت.