ربما لا يكون صحيحاً اطلاق القول انه لا جدوى من التفاوض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد ارييل شارون. فإذا كان المقصود أن المفاوضات مع حكومته في شأن الوضع النهائي لن تصل الى شيء، فهذا ليس جديداً. فقد فشلت مفاوضات مكثفة مع الحكومة السابقة على مدى سبعة شهور، من كامب ديفيد الى قاعدة بولينغ الى طابا وإيلات. ولكن هذا لا يعني ان تمتنع القيادة الفلسطينية عن التفاوض لأن الوصول الى اتفاق ليس هو الغرض الوحيد ولا الأول لأي محادثات سلام في الفترة المقبلة. فالهدف الأساسي الذي ينبغي ان يسعى اليه المفاوض الفلسطيني هو تأكيد عدم جدوى التفاوض من أجل الوصول الى حل وسط داخل الاراضي المحتلة في العام 1967. وهذا ما ينبغي ان يعمل من أجله المفاوض الفلسطيني الآن بغض النظر عن اتجاهات الحكومة الإسرائيلية وشخص رئيسها ومدى تشدده. وليس هناك سبيل لتحقيق هذا الهدف الا مواصلة المفاوضات. بل يجوز القول انه صار في إمكان القيادة الفلسطينية، بعد فوز شارون، إثبات فساد المنهج التفاوضي الذي اتبعه باراك وكلينتون وإعادة تأكيد رفضه عندما يتبعه شارون وبوش الثاني اعتماداً على عروض أقل مما سبق طرحه وعلى قمع اكثر للشعب الفلسطيني. فالمنهج التفاوضي هو المنبع الحقيقي لأزمة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، لأنه يهدف الى فرض حل وسط في داخل منطقة تمثل استعادة الفلسطينيين لها كاملة التسوية الوحيدة التي يمكنهم قبولها. فحدود 1967 تعتبر حلاً وسطاً تنازل الفلسطينيون بمقتضاه عن الجزء الأكبر من وطنهم الذي تم احتلاله في العام 1948. وهذا الحل الوسط، الذي تنص عليه الشرعية الدولية، ليس عادلاً من المنظور الحقوقي، فإذا أريد تجاوزه الى حل وسط يعطي الإسرائيلي المزيد من الارض والسيادة، تصبح التسوية المطروحة شديدة الظلم عميقة الجور. فالصراع المراد تسويته لم يبدأ في العام 1967، وإنما انفجر في العام 1948 بعدما كان ظهر في نهاية القرن التاسع عشر. ولذلك لا يوجد "حل وسط" أبعد من انسحاب إسرائيل من الاراضي التي احتلتها في العام 1967، أي كامل الضفة الغربية بما فيها القدسالشرقية وقطاع غزة. وما لم يكن هذا هو اساس التفاوض، يصير الفرق بين نسبة 42 في المئة من الضفة التي يطرحها شارون ونسبة 95 في المئة المشروطة التي عرضها باراك اختلافاً كمياً وليس نوعياً. وقل مثل ذلك عن احتفاظ شارون بالقدسالشرقية واستعداد باراك لاقتسام السيادة عليها، أو إصرار رئيس الوزراء الجديد على عدم إخلاء أي مستوطنة ورغبة سابقة في الحفاظ على الكتل الاستيطانية الرئيسية وإعطاء الأولوية في رسم الخرائط للتواصل الجغرافي بينها. فالموقفان يقومان على الأساس نفسه، ولهذا كان طبيعياً ألا يعترض باراك على زيارة شارون المسلحة الى الحرم القدسي الشريف في 28 ايلول سبتمبر الماضي. كما كان منطقياً، عندما أعد مكتب رئيس الوزراء السابق خطة الطوارئ التي تسرّبت الى صحف إسرائيلية، أن يكون محورها فصلاً ديموغرافياً أحادي الجانب يضع المستوطنات جميعها، اساسية وهامشية ومنطقة غور الاردن، تحت السيطرة الإسرائيلية. فلم يختلف باراك عن شارون في النظر الى الصراع باعتباره محصوراً في حدود 1967. ولذلك وجد الرئيس عرفات ان العرض الذي تصوره باراك "شديد الكرم" لا يصلح لتقديمه الى الشعب الفلسطيني. فالخلاف يتركز، إذن، في الأساس الذي تقوم عليه المفاوضات وليس في التفاصيل التي يتضمنها هذا العرض او ذاك. وما حدث منذ كامب ديفيد الثانية لم يكن أكثر من مواجهة الحقيقة التي جرى تأجيل الاصطدام بها عبر تقسيم المفاوضات الى مرحلتين انتقالية ونهائية، وهي وجود خلاف مبدئي على الاساس الذي تقوم عليه المفاوضات. هذا خلاف ينبغي حله قبل كل شيء عبر الاجابة عن سؤال محوري هو: هل تهدف المفاوضات الى ايجاد الترتيبات اللازمة لضمان أمن إسرائيل عند سحب قواتها من الاراضي المحتلة في العام 1967؟ أم إلى تجاوز هذا الحل الوسط الى آخر في داخل تلك الاراضي؟ فهذان منهجان تفاوضيان مختلفان من الاساس، والمفاوضات - وفقاً للمنهج الأول - يجب أن تركز على الحدود والترتيبات الأمنية وتبادل الاراضي ومستقبل العلاقات بين دولتين، مع إعادة صوغ قضية القدس من هذا المنظور على نحو ينزع منها أصعب ما فيها، وهو موضوع البلدة القديمة والحرم القدسي، باعتبار ان لا تفاوض على السيادة الفلسطينية عليهما. وبذلك تبقى قضية اللاجئين هي الشائكة. ولكن الاجواء الايجابية التي قد تترتب على هذا المنهج التفاوضي يمكن أن تتيح الوصول الى حل وسط من نوع التدرج في حلها على مدى فترة طويلة ولكن في اطار الشرعية الدولية. أما المفاوضات وفقاً للمنهج الثاني، فهي تصل بالضرورة الى طريق مسدود كما اتضح على مدى الشهور السبعة الاخيرة. وعلى المفاوض الفلسطيني أن يؤكد ذلك مجدداً خلال الشهور المقبلة كي يصبح واضحاً أن هذا المنهج غير منتج بغض النظر عن نوع واتجاه رئيس الوزراء الذي ينتخبه الشعب الإسرائيلي، وأياً تكن سياسته، سواء ارتدى قفازاً من حديد أو من حرير. هذا هدف كبير ينبغي تحقيقه، الأمر الذي يجعل المفاوضات المقبلة مجدية بخلاف ما يردده الداعون الى عدم خوضها بدعوى عدم جدواها، وخصوصاً المطالبون بانتظار أن تفعل التفاعلات الإسرائيلية الداخلية فعلها وتُسقط شارون! فعندما تصدر مثل هذه الدعوة عن أعضاء حزب العمل الإسرائيلي يمكن فهمها، الا إذا كان هذا الحزب يضم الآن أعضاء في بعض البلاد العربية. ولا يتعارض التفاوض، سعياً إلى هدف اسقاط منهج تفاوضي عقيم، مع تصعيد المقاومة ما أمكن، بل على العكس يتكامل معه. فالسعي الى اسقاط المنهج الذي جرت على أساسه المفاوضات حتى الآن يقتضي تأكيد بديله الذي يقوم على أن حدود 1967 هي الحل الوسط والتشبث به على طاولة المفاوضات. ومن شأن التمسك بهذا المنهج أن تدرك قطاعات متزايدة من الرأي العام الإسرائيلي عدم جدوى التفاوض الا على أساسه. ويصعب الدفع في اتجاه هذا التحول من دون ضغوط قوامها مقاومة تجمع اشكالاً مختلفة من الانتفاضة الشعبية ودعم عربي رسمي وغير رسمي. وربما تكون ممارسة مثل هذه الضغوط أجدى في ظل شارون لأن قسوته وغلظته يمكن أن تخلقا تعاطفاً دولياً مع الشعب الفلسطيني، وتُبرز درس الصراع الذي استخلصه وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر في مقالة بالغة الاهمية نشرها في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، فقد استنتج من مسار هذا الصراع ان إسرائيل أقوى عسكرياً من الفلسطينيين، ولكنهم أقوى سياسياً من أن يهزمهم الإسرائيليون. ويبقى أن يعم الإقناع بهذا الدرس عالمنا العربي، وأن تتحرك دوله الرئيسية دولياً لإبطال الذريعة التي تستخدمها إسرائيل في رفض العودة الى حدود 1967، وهي أن هذه الحدود لا يمكن الدفاع عنها لأنها تجعل مدنها الرئيسية مرتبطة بممر لا يزيد عرضه على تسعة أميال، الأمر الذي لا يوفر منطقة عازلة كافية. فهذه الذريعة، التي تلقى آذاناً صاغية في الغرب، تتجاهل حقيقتين مهمتين: أولاهما ترتبط بالتراجع المستمر في أهمية الأرض في الصراعات العسكرية نتيجة التطور الهائل والسريع في نظم الصواريخ والحرب الجوية. وثانيتهما تتعلق بالترتيبات الأمنية التي يمكن التفاهم عليها. فليكن العمل من أجل استبدال المنهج التفاوضي هو الهدف الفلسطيني الأول في المفاوضات مع حكومة شارون، والمحور الذي يدور حوله التحرك العربي المواكب لهذه المفاوضات. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".