} بعد سنوات قليلة من تأسيس دولة اسرائيل بدأت القيادات السياسية الإسرائيلية بالتفكير جدياً في الطريقة الأنجع لتثبيت الدولة العبرية في المنطقة واعطائها الشرعية الدائمة لدى الرأي العام العالمي. وكانت هذه القيادات تعلم ان استعمال "المحرقة" لجذب العطف الأميركي والأوروبي سيستهلك في النهاية ولذلك لا بد لإسرائيل من ان تجد وسيلة أخرى طويلة المدى تعطيها الشرعية اللازمة لاستدامتها. فإسرائيل هي دولة فريدة من نوعها في العالم فهي دولة يهودية يحق لأي يهودي في العالم ان يأتي للعيش فيها والحصول على جنسيتها وهي بذلك تختلف عن باقي الدول حتى تلك التي يحدد دستورها دين الدولة. بعد سنوات قليلة من تأسيس دولة اسرائيل بدأت القيادات السياسية الإسرائيلية بالتفكير جدياً في الطريقة الأنجع لتثبيت الدولة العبرية في المنطقة واعطائها الشرعية الدائمة لدى الرأي العام العالمي. وكانت هذه القيادات تعلم ان استعمال "المحرقة" لجذب العطف الأميركي والأوروبي سيستهلك في النهاية ولذلك لا بد لإسرائيل من ان تجد وسيلة أخرى طويلة المدى تعطيها الشرعية اللازمة لاستدامتها. فإسرائيل هي دولة فريدة من نوعها في العالم فهي دولة يهودية يحق لأي يهودي في العالم ان يأتي للعيش فيها والحصول على جنسيتها وهي بذلك تختلف عن باقي الدول حتى تلك التي يحدد دستورها دين الدولة. فدين الدولة في الباكستان مثلاً هو الإسلام ولكن لا يحق للمسلم من دولة أخرى الحصول على الجنسية الباكستانية لمجرد انه مسلم. أما الصهيونية فقد اعتبرت ان الدين اليهودي هو قومية وأقنعت الرأي العام العالمي بذلك والرأي العام العربي أيضاً. فبينما كان هناك "يهود عرب" منذ قدم التاريخ كما كان هناك مسيحيون ومسلمون عرب أصبحنا اليوم نتكلم عن العرب واليهود وكأنهما قوميتان تنفي الواحدة الأخرى. واعتبرت اسرائيل بالتالي ان أي يهودي في العالم ينتمي الى قوميتها ولو انه "موقتاً" موجود في بلاد الشتات مما خلق ازدواجية في الانتماء القومي لدى غالبية اليهود في بلدان العالم. تثبيت اسرائيل وفي العام 1954، أي بعد 6 سنوات فقط من تأسيس الدولة العبرية، عقد اجتماع في بيت ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الأول لإسرائيل - الذي "اعتزل" الحياة السياسية بحسب قوله - ضم رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك موشي شاريت وقيادات اسرائيلية أخرى كلافون والياهو ساسون وغيرهما للبحث في قضايا مصيرية تصدرتها قضية تثبيت اسرائيل واعطائها الشرعية الدولية في المدى البعيد. وتبع ذلك الاجتماع تبادل رسائل توضيحية بين بن غوريون وشاريت وساسون نشرت في ملحق مذكرات ساسون بالعبرية. كان موقف بن غوريون يقول انه يجب خلق "دولة مسيحية" في لبنان على غرار اسرائيل بذريعة ان الأديان لا تستطيع ان تتعايش في الشرق الأوسط فيكون لليهود دولتهم وللمسيحيين دولتهم وللمسلمين دول العالم العربي وجواره الآسيوي مما سيبرر وجود اسرائيل كدولة يهودية في الأمد البعيد. أما شاريت فخالفه الرأي ليس من حيث المبدأ بل من حيث التوقيت إذ اعتبر ان اسرائيل لا تستطيع تأسيس حركة "انفصالية مسيحية" في لبنان ولكنه في حال حصلت مثل هذه الحركة فعليها تقديم المساعدة الفعالة لها. أما الياهو ساسون فاعتبر ان خلق مثل هذه الحركة ممكنة مبدئياً إلا ان امكانات اسرائيل الاستخبارية داخل لبنان والبلدان العربية ضعيفة والأموال المطلوبة غير متوافرة اضافة الى ان القيمين على الأمور في اسرائيل غير مؤهلين لمثل هذه المهمة المعقدة. هذا الحلم الإسرائيلي بكيفية تثبيت اسرائيل في المنطقة ووافق عليه، مبدئياً على الأقل، المحاورون الكبار الثلاثة على رغم اختلافهم على التوقيت وتوافر الامكانات، بقي ركيزة للتفكير السياسي الإسرائيلي بغالبيته لغاية أواخر السبعينات عندما بدأت بعض الحركات داخل اسرائيل بالتفكير بطريقة أخرى لتثبيت اسرائيل واعطائها الشرعية المستدامة أي من خلال سلام بينها وبين جيرانها العرب. وهكذا بدأ الانقسام المبدئي بين الفريقين داخل اسرائيل وأصبح الحلم الإسرائيلي الأصلي تدريجياً حلم اليمين الذي طوره الى خلق دويلات دينية واثنية في المنطقة. وكانت محاولة اليمين الأخيرة في هذا المجال الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982. إلا ان فشل هذه المحاولة أضعف اليمين الإسرائيلي وقوى اليسار أي أضعف فكرة التثبيت من خلال دويلات دينية واثنية وقوى فكرة التثبيت من خلال السلام. ولعل الأهم من ذلك هو ان فكرة تثبيت اسرائيل من خلال السلام بدأت تطغى على تفكير اليهود الأميركيين لما لهم من تأثير على السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط. حرب الخليج كانت حرب الخليج المناسبة لوضع هذه الفكرة موضع التنفيذ. وأقنع الأميركيون اليمين الإسرائيلي بالانضمام الى اجتماع مدريد سنة 1991 الذي شكل البداية الرسمية لعلمية السلام وكانت حجتهم ان حلم الدويلات قد فشل وان الوقت مواتٍ جداً لإسرائيل لتثبيت نفسها في المنطقة والحصول على الشرعية المستدامة من خلال السلام مع العرب لأن اسرائيل في أوج قوتها بينما العرب مشرذمون. وسارت القصة كما أرادها الراوي وأضعف العرب أكثر خلال المفاوضات بفصل المسار الفلسطيني من خلال اتفاق أوسلو 1993 وفصل المسار الأردني من خلال اتفاق وادي عربة 1994 ولم يبق سوى المسارين اللبناني والسوري متلاحمين على رغم محاولات لفصلهما. ولكن القصة ما برحت ان تجاوزت الراوي فانسحبت اسرائيل مهزومة من لبنان سنة 2000 أمام ضربات المقاومة مما زعزع ثقة الإسرائيليين بجيشهم وقضى على أسطورة الجيش الذي لا يقهر في تفكير الشارع العربي وخصوصاً الفلسطيني. وجاءت "انتفاضة الأقصى" لتعيد ترتيب ميزان القوى بين اسرائيل والفلسطينيين بشكل جذري ولتعيد النظر بالاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. فهذه الاستراتيجية تركزت منذ تأسست الدولة العبرية على الأسلحة المتطورة تجابه اسرائيل بها الجيوش العربية وأصبحت السياسة الأميركية المعلنة في هذا المجال تهدف الى جعل القوة العسكرية الإسرائيلية أقوى من القوى العسكرية العربية مجتمعة، والسماح لإسرائيل بتطوير واقتناء القنابل الذرية، اضافة الى ان أميركا أبدت استعدادها لمساعدة اسرائيل من خلال مدها بالأسلحة بسرعة في حال هجوم عربي مفاجئ لا تستطيع مجابهته كما فعلت سنة 1973 عندما مدت الولاياتالمتحدة في عهد كسينجر جسراً جوياً نقلت من خلاله الأسلحة والأعتدة اللازمة بعد ان كادت مصر وسورية ان تسحقا الجيش الإسرائيلي. انتفاضة الأقصى جاءت الانتفاضة لتلغي معظم هذه الأسلحة. وبدأ التخوف الإسرائيلي الأميركي من استدامة الانتفاضة وفقدان السيطرة عليها أي ما سماه بعض المعلقين الإسرائيليين والأميركيين ب"لبننة الانتفاضة" أي تحولها الى حرب أهلية طويلة المدى لا تنتهي إلا بما يشبه اتفاق طائف جديد تكون فيه القوى المتنازعة شبه متعادلة مما سيهدد وجود الكيان الإسرائيلي ذاته. وعاد الانقسام في الرأي بين اليمين واليسار في اسرائيل حول طريقة تثبيتها في المنطقة الى الظهور بوضوح، فاليسار أراد التعجيل في عملية السلام قبل ان تتفاقم الانتفاضة فبعد ان أعلن ايهود باراك في البداية انه لن يكمل المفاوضات مع الفلسطينيين إلا إذا توقفت الانتفاضة عاد وقبل باستئناف المفاوضات بوجودها ولكنه لم يكن قادراً أو راغباً في تقديم التنازلات الضرورية التي يقبلها الفلسطينيون ولا ترفضها غالبية الشعب الإسرائيلي. أما اليمين الذي تخلى موقتاً عن فكرة الدويلات حتى اعادة ترتيب أوضاعه على الأقل، أراد وقف عملية السلام واستبدالها بعملية "الفصل"، أي فصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين بوضع حدود جديدة تحتوي على وادي الأردن والجبال المحيطة به وتضم كل المستعمرات وتسيطر على الطرقات التي تصل الجزر السكانية الفلسطينية ببعضها في الضفة والقطاع. وهذا ما أعلن آرييل شارون في حملته الانتخابية. بمعنى آخر، يريد اليمين الإسرايلي، ومعه غالبية كبيرة من الإسرائيليين، العودة الى فكرة "الحصن الإسرائيلي" الذي يسمح بالرجوع الى استراتجيتها العسكرية واستعمال ترسانتها المتطورة لصد أي هجوم عليها من الخارج. وبما ان الرأي العام العالمي، والدول الفاعلة، وخصوصاً الولاياتالمتحدة تحت ادارتها الجديدة، ستتأثر سلباً إذا أعلن شارون بوضوح وقف علمية السلام، لذلك فإنه يتكلم كأنه رجل سلام وفي الوقت نفسه يضع شروطاً تعجيزية يعلم انه من غير الممكن للفلسطينيين القبول بها ويحضر في الآن لعملية الفصل والعودة الى "الحصن الإسرائيلي". الموقف الأميركي ما هو الموقف الأميركي من توقف عملية السلام التي استثمرت فيها الولاياتالمتحدة كثيراً خلال السنوات العشر الماضية ووضعت جهداً كبيراً لانجاحها خصوصاً وان الإدارة الأميركية، وغالبية الجالية اليهودية الأميركية، ما زالوا مقتنعين بفكرة "تثبيت اسرائيل" في المنطقة من خلال السلام مع العرب؟ لم تقم الإدارة الأميركية بالتدخل في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة كما فعلت في المرتين السابقتين عندما لم تنجح في اسقاط بنيامين نتانياهو في المرة الأولى ونجحت في ايصال ايهود باراك الى رئاسة الوزراء الإسرائيلية في المرة الثانية. والسبب ان قناعة تولدت لدى الإدارة الأميركية الجديدة بأن اليمين الإسرائيلي أصبح ذات شعبية من الصعب الوقوف بوجهها. فحتى شمعون بيريز لم يكن ليستطيع ايقاف شارون من الوصول الى رئاسة الحكومة. فالسيناريو الأميركي يقول ان شارون لن يعمر طويلاً في هذا المنصب وان نتانياهو قد يخلفه في انتخابات مبكرة بعد أشهر ولكنه هو الآخر لن يستمر في منصبه. بعد هذه التجربة، يأمل الأميركيون بأن اليمين الإسرائيلي سيضعف مجدداً وان فكرة "تثبيت اسرائيل" من خلال عملية السلام ستعود بقوة بين أفراد الشعب وقياداته تحت وطأة الانتفاضة ما سيسمح آنذاك باستئناف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والوصول الى نتيجة ايجابية. أما خلال هذه المدة التي قد تتجاوز السنة، ستركز السياسة الأميركية بشكل أساسي على احتواء المشكلة وابقاء الأمور تحت السيطرة قدر الإمكان من خلال ستة بنود رئيسية: أولاً: ستواصل الإدارة بالطبع اهتمامها بعملية السلام ولكن من دون حماس مفرط أو أمل كبير في نجاحها خلال حكم اليمين في اسرائيل وستحاول ادخال الروس والأوروبيين في هذه العملية أكثر من الماضي ليس فقط كأدوات ضغط اضافية باتجاه السلام بل بالدرجة الأولى لإبقاء المنطقة هادئة خلال هذه المدة والتأثير على كل الفرقاء في هذا الاتجاه. ثانياً: تنوي الإدارة دعوة شارون لزيارة البيت الأبيض ليجلس مع الرئيس جورج بوش الابن برفقة نائبه ريتشارد تشيني ومستشارته للأمن القومي كوندليسا رايس ووزير الخارجية كولن باول ووزير الدفاع دونالد رمسفلد وكل هؤلاء المعاونين هم من الشخصيات القوية ذات الوزن السياسي الكبير أميركياً ودولياً، وذلك لإفهامه بأن هناك خطوطاً حمراً لن تقبل الولاياتالمتحدة بأن يتجاوزها. وتعتبر الإدارة الأميركية الجديدة انها قادرة على القيام بضغوط كبيرة على شارون لأنها، عكس الإدارة السابقة، لم يصل رئيسها لمنصبه بفضل أصوات اليهود الأميركيين ومساندتهم بل وصلت على رغم محاربة اليهود لها ولأنها، إذا اقتضى الأمر، لن تحتاج الى مساندة اليهود الأميركيين في الانتخابات المقبلة بعد أن تم استقطاب فئات أخرى كانت معارضة لها في الانتخابات الماضية، خصوصاً السود من خلال تعيين رايس وكولن باول، والنساء من خلال تعيينات مماثلة. ثالثاً: ستعمل الولاياتالمتحدة على اقناع العماليين واليساريين للانضمام الى حكومة ائتلافية للجم شارن واليمين الإسرائيلي المتطرف حتى لو نتج عنها برنامج حكومي مليء بالمفارقات لا يؤدي الى نتيجة ايجابية بالنسبة لعملية السلام بشرط ان يستلم العماليون حقائب حساسة كتلك العائدة لوزارتي الخارجية والدفاع. وإذا لم يقبل شارون بائتلاف من هذا الشكل فسيترك ليؤلف حكومة لها غالبية ضئيلة جداً في الكنيست من السهل اسقاطها لاحقاً. رابعاً: ستحاول الإدارة الضغط بكل قواها على لبنان وسورية لإبقاء الحدود اللبنانية - الإسرائيلية تحت سقف من الهدوء وألا تفلت زمام الأمور فيها حتى لا تتسبب بعمليات عسكرية اسرائيلية واسعة تؤثر سلباً على السيناريو الأميركي للمنطقة. وتعتبر الإدارة الأميركية ان اسرائيل لن تقوم بفتح جبهة لبنان وسورية إلا اذا وجدت ان هذا سيساعد على احتواء الانتفاضة. أي إذا اقتنعت ان هناك مساعدات مباشرة من سلاح أو تدريب أو معلومات لوجستيه تصل للانتفاضة من خلال هاتين الدولتين. وفي غياب ذلك تبقى ردود الفعل الإسرائيلية ضمن السقف الحالي لذلك ستسعى الإدارة الأميركية لكي لا يكون هناك مثل هذه المساعدات المباشرة من خلال الضغط على الفرقاء المعنيين. خامساً: ستحاول الإدارة جهدها لابقاء العراق وليبيا خارج المعادلة الاقليمية، وعلى رغم التفكك التدريجي للحصار الاقتصادي على العراق فإن الولاياتالمتحدة ستبقى مصرة على العمل لإبقاء الضغط العسكري عليه من خلال الحظر الجوي وتشجيع المعارضة العراقية واللجوء، بين حين وآخر، الى ضربات جوية كتلك التي قامت بها أخيراً بالاشتراك مع بريطانيا لتبقيه في حال عدم توازن من دون أن تثير الرأي العام العربي بأكثر مما هو ضروري. أما بالنسبة لليبيا فقضية لوكربي ستبقى تتفاعل ما دامت الولاياتالمتحدة تعتبر ان تحييد ليبيا يبقى ضرورياً لانجاز السيناريو الأميركي. سادساً: ستسعى الإدارة لوضع سقف للانتفاضة ولكن من دون اخمادها كلياً في المرحلة الحاضرة لأن اخمادها سيجعل من شارون بطلاً بالنسبة للرأي العام الإسرائيلي ويعطيه شعبية واسعة مما سيطيل كثيراً في مدة حكمه وهذا ما لا يريده الأميركيون في الوقت الحاضر. يبقى سؤالان على الأقل مطروحان في هذا السياق: هل سيكتب للسيناريو الأميركي النجاح وهل ستستطيع الإدارة الأميركية احتواء المنطقة في المدة الصعبة التي ستمر بها خلال حكم اليمين الإسرائيلي؟ وفي حال نجاح السيناريو الأميركي، ماذا سيفعل اليمين الإسرائيلي إذا ما بدأ يشعر بخسارة شعبيته وهل سيقوم بمغامرات عسكرية، لاستعادتها، لم تدخل ضمن الحسابات الأميركية ويعود، بعد تجميع قواه، الى فكرة "تثبيت اسرائيل" من خلال تأسيس دويلات شبيهة بها؟ في كل الأحوال فإن الحقبة المقبلة ستكون صعبة تتطلب تضامناً عربياً حقيقياً يعيد كل الدول العربية، بما في ذلك العراق وليبيا، الى خط المواجهة مع اسرائيل. * سفير لبنان السابق في واشنطن، ورئيس مركز الدراسات والمشاريع الانمائية مدما في بيروت.