من يطلع على نص مذكرة التفاهم الموقعة في جنيف بعد سلسلة اجتماعات من الفترة 17 الى 19 شباط فبراير 2001 بين المؤتمر الوطني الشعبي الترابي والحركة الشعبية لتحرير السودان قرنق ويراجع بنودها التي تؤكد على رفض الرؤية الآحادية بند 1 وبناء ديموقراطية حقيقية لصون الحريات والحقوق الأساسية بند 2 والتراضي على عقد اجتماعي جديد بند 3 وادانة النهج الانقلابي بند 5 والارتكاز الى التعاون الاقليمي وحسن الجوار والتعاون الدولي وعدم التدخل في شؤون الآخرين واحترام خياراتهم والحرص على الاستقرار الاقليمي والدولي بند 8 والغاء القوانين المقيدة للحريات واتاحة الحرية للنشاط السياسي بند 9. من يطلع على هذه البنود يتأكد له تماماً ان خطاب الترابي الراهن لم يعد كما كان في السابق خطاباً لمواجهة النظام من داخله، وانما لمحاصرة النظام من خارجه. وبمنطق من هم خارج النظام، ففقد الترابي بذلك أي علاقة بنهجه السابق الذي أسس عليه قيادته للحركة الإسلامية. مآلات الترابي الراهنة لا شك في ان الترابي الذي لم يعد شيخاً ضمن منهجه الجديد تخيّر تكتيكاته بين أمرين، ومن دون استخارة، إما ان يحشد من حوله كافة قوى المعارضة السودانية ليسقط بها النظام شرط ان يكون هو الوارث له أو الوارث لنصيب الأسد بما يوهم به الآخرين من قوة، أو يتخذ من "عليّ وعلى أعدائي يا رب" شعاراً له. فهو في وضع من بنى مسكناً واستولى عليه غيره حين اكتمال تشييده. لهذا فإن مآلات الترابي الراهنة هي اسقاط النظام من خلال أجندة الآخرين قرنق والمهدي والميرغني والشارع السوداني وليس من خلال أجندته هو، وهذا واضح جداً في بنود مذكرة التفاهم فليس فيها شيء من الترابي ومما كان عليه قبل متغيرات رمضان 12/12/1999 وما كان عليه طوال أربعين عاماً في الحركة الإسلامية. نقمة النظام على الترابي ليس في بنود مذكرة التفاهم التي وقعها مندوبا الترابي المحبوب عبدالسلام وعمر الترابي ومندوبا قرنق ياسر عرمان والقائد آموم باغان جديداً يخرج عن اطار ما يطرحه السيد الصادق المهدي نفسه على النظام في اتفاق جيبوتي 26/11/1999، أو ما طرحته مقررات طرابلس كأساس للحوار مع النظام والإعلان الذي أصدروه بتاريخ 1 آب أغسطس 1999، أو ما يطرح في مباحثات الايغاد في نيروبي بين النظام والحركة الشعبية، أو ما تضمنته اتفاقات السلام مع الفصائل الجنوبية في 21 نيسان ابريل 1998 أو حتى اعلان دمشق الذي وقعته مع الأمين العام للاتحادي الديموقراطي الشريف زين العابدين الهندي في دمشق بتاريخ 17 أيار مايو 1997 وعدنا بعد ذلك للسودان. فما هو مثار نقمة النظام على الترابي؟ مثار النقمة انه قد فاجأهم بنقل المعركة ضدهم الى خارجهم واستيقنوا انهم قد حسموها داخلهم. وخطورة هذه النقلة انها تجبر النظام على اتخاذ أحد خيارين، أحلاهما مر بالنسبة له، الأول وهو ان يتعامل بموضوعية وصدقية مع أجندة الغير والقوى الأخرى التي التحق بها الترابي، وهي تقتضي الانفراج السياسي والوفاق الوطني وما يتبع ذلك وهو خيار يتبناه الرئيس البشير نفسه. والخيار الثاني تكريس الآحادية والشمولية والقبضة الأمنية، وهو خيار يتبناه نائب الرئيس علي عثمان محمد طه. فالترابي لم يفعل في جنيف أكثر من تسخين المواجهات القائمة أصلاً بين النظام ومعارضيه ليتخذ النظام أحد الخيارين. فإن اتخذ النظام خيار الوفاق ربح الترابي وان اتخذ خيار الآحادية يكون قد بدأ أولى مراحل السقوط، وهذا ما يريده الترابي أيضاً، ولكن الترابي يحبذ الخيار الأول إذ يمنحه مزيداً من القدرة على المساومة والحركة. يستثمر الترابي الآن، أجندة القوى المناهضة للنظام، وهي أيضاً تستثمر مواقفه ولكن من دون تحالف استراتيجي معه. في هذا الاطار ادارت صحيفة الخليج حواراً معي نشرته في مطلع كانون الثاني ديسمبر 2000 تعلق سؤال فيه عن التحالف المقترح بين قرنق والترابي وقد كنت قد توقعت مثل هذا التفاهم بينهما، أي قرنق والترابي، خصوصاً وان بعد متغيرات رمضان 12/12/1999 قايضت النظام السوداني على تعزيز موقفه أمنياً وسياسياً وعلى المستوى العربي بإلغاء اتفاق تقرير المصير مع الجنوبيين وابعاد الترابي. وهذا ما عمد اليه النظام فعلاً، فأدرك قرنق انه مستهدف بعد متغيرات رمضان كما ان الترابي مستهدف أيضاً، وهو الأمر الذي عجّل بانسلاخ الدكتور رياك مشار في شباط 2000 عن النظام، لهذا قلت لصحيفة الخليج "لا... لا يمكن ان يكون هناك تحالف بين قرنق والترابي، كل القضية ان قرنق ومجمل القوى الأخرى يستثمرون صراعات الترابي ضد السلطة، والترابي ذكي جداً يريد حشد كل القوى المعارضة لهز السلطة ولكن بشرط ان يكون هو البديل وأولئك متنبهون له جيداً". فتكتيكات الترابي مدروسة لديه، وتتسق مع شخصيته المتعددة والمتنوعة الأبعاد، ويتحسب لنتائجها ولهذا كان أعد حقيبته بعد التوقيع على مذكرة التفاهم، وانتظرهم في منزله حتى جاؤوا اليه فوجدوه جاهزاً. ان قفاز التحدي الذي ألقاه الترابي الآن بوجه النظام سيدفع الخرطوم للأخذ بأحد الخيارين، اما وفاقية البشير ومع الجميع بمن فيهم الترابي، وإما آحادية نائبه الأول علي عثمان محمد طه بوجه الجميع بمن فيهم الترابي. فعلي عثمان وريث الآحادية عن الترابي الذي تخلى عنها الآن، وبعد ان أنشأه في ظلالها. معركة الشيخ ضد النظام لم يتحسب الشق المتبقي من الانقاذ لبراغماتية الشيخ اللامتناهية، وابعاد التنوع والبعد في تركيبته السياسية والفكرية، فاختصروا جهودهم على تصفية مواقفه داخل النظام بوصف ان معارك الشيخ ضدهم هي من داخل النظام، ومن خلال قواعد النظام وقياداته، غير ان الشيخ فاجأهم بنقل معركته ضدهم الى خارج النظام. فالترابي لديه من الذكاء ما يجعله يدرك تماماً ان خوضه المعركة داخلف النظام محسومة النتائج لصالح من يقبض على السلطة وأدواتها التنفيذية ومصادر التوظيف والتسهيلات المالية فيها، وكذلك أجهزة الأمن. فمنطق الاستقطاب قائم دوماً في هذه الحالات على الترغيب والترهيب. لذلك حين عقد الشق المتبقي من الانقاذ - بعد ابعاد الترابي - المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني من الفترة ما بين 28 جمادى الآخر والى 2 رجب 1421ه الموافق 27 والى 30 أيلول سبتمبر 2000 وحضره عشرة آلاف من عضوية المؤتمر وقالوا انهم يشكلون نسبة 97 في المئة من العضوية، صدقهم. فمنطق الترغيب والترهيب هو الأصل في استقطاب تلك العضوية. وبما ان الترغيب والترهيب يعني السلطة التي أُبعد عنها الترابي فلم يتبق له من الواقع سوى 3 في المئة من العشرة آلاف، ولكنه يملك استقطابات أخرى، شبابية وطلابية على مستوى القواعد التحتية التي تضعف لديها مؤثرات الترغيب، مالاً وسلطة، أو الترهيب، تهديداً واعتقالاً، لمست قوة هذه القواعد التحتية، الشبابية والطلابية حين دعاني الاتحاد العام للطلاب السودانيين وأعضاء لجنته السياسية للاشتراك في ندوة مع الشيخ حسن الترابي والدكتور حسن مكي حول "مستقبل الإسلام في السودان" وذلك بتاريخ الأربعاء 24 ربيع الثاني 1421ه الموافق 2 آب أغسطس 2001 في الميدان الشرقي في جامعة الخرطوم. حين وصلت مساء كان الجمع حاشداً من الشباب والطلاب، ولم يملك النظام القدرة على منع الندوة، فعمد لإغراق الميدان الشرقي بالمياه، ثم عمد لقطع الكهرباء. ثم اشتبك الموالون للترابي من الطلاب مع الموالين للبشير وكوّن بعضهم دائرة من دروع بشرية لحمايتي. إذاًَ، تحولت معركة الترابي مع النظام الى خارج النظام وليس داخله. وهنا تتغير المعادلات والتكتيك والأسلوب. فطبيعة المعركة داخل النظام ترتبط بالخطاب الإسلامي والخلاف حول مضمون البيعة لمن؟ للبشير رأساً للنظام أو للترابي شيخاً للحركة؟ وتتفرع لما ورد في مذكرة العشرة التي تقتصر على هم تنظيمي بحت. أما المعركة ضد النظام من خارج النظام والتنظيم، فإنها ترتبط بما في الساحة السودانية من قوى ومعادلات وتوجهات، فالخطاب هنا يتجه للشارع السوداني، وللسيد الصادق المهدي حزب الأمة وللسيد محمد عثمان الميرغني الاتحادي الديموقراطي وللجنوبيين بداية بالعقيد الدكتور جون قرنق حركة تحرير شعب السودان والدكتور رياك مشار مساعد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس تنسيق الجنوب الذي انسلخ من النظام ولجأ الى الغابة بعد ان لوّح باستقالته في 15 آب 1999 ثم قدمها في مطلع كانون الثاني يناير 2000. ثم أعلن خروجه على النظام في شباط 2000 مُصدراً بذلك شهادة وفاة لاتفاقات النظام مع ستة من الفصائل الجنوبية بتاريخ 21 نيسان ابريل 1997، ولم يتبق من الجنوبيين القياديين الا الدكتور لام أكول الذي وقع اتفاق فاشودة للسلام مع النظام في 20 أيلول 1997. فالترابي وقد انتقل بمعركته ضد النظام الى خارج النظام لا بد له ان يتعامل مع أجندة كل القوى خارج النظام وبالذات المناهضة له، وان يتعامل مع الشارع السوداني، وان يلجأ الى خطاب مختلف. فبدأ منذ اعلان معاركه من خارج النظام يتحدث عن الديموقراطية وليس الشورى كما كان في السابق وعن حاكمية الشعب وليس الحاكمية الإلهية وعن عقد اجتماعي جديد وليس التوالي السياسي الذي ابتدعه الترابي منذ نهاية عهد نميري كبديل عن الاتحاد الاشتراكي في مشروع تعديل الدستور في حزيران يونيو 1984، ثم ضمنه دستور الانقاذ في نيسان 1998، ويتحدث عن الحريات وحقوق الإنسان وهو الذي رفض أي تغيير في الأجهزة الأمنية التي اتهمت بممارسات بيوت الأشباح ومحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا صيف 1995 وذلك في حديثه لمجلة المجلة بتاريخ أول آذار مارس 1997 - العدد 889. ويتحدث عن ادانة الانقلابات وهو الذي أعلن انه هو الذي دبر انقلاب 1989 واعتقالي صدر مني - الوسط 21/2/100 - عدد 421. ويتحدث عن ادانة المشاريع الآحادثة الرؤية للحكم في مقابل المشروع الوطني المجمع عليه وهو الذي طرح أمام الانقاذ المشروع الإسلامي الحضاري العالمي وأسس له المؤتمر الشعبي العربي. ويتحدث عن علاقات حسن الجوار والتعاون الاقليمي والدولي وهو الذي فجر الأزمات مع هذا الحوار حتى حين كان البعض داخل الانقاذ يحاول تشويه الأمور وبالذات مع مصر، ويكفي في هذا قوله ان كل مصائب السودان تأتينا من الشمال، أي مصر. مجلة الوسط - 27 شباط 2000 - العدد 421، حتى ان علماء مصر يغيرون من علمه الواسع كما قال في احدى المقابلات الشخصية. فهذا المسار المتعرج أوصل الترابي الى عقد تحالف سياسي مع قرنق في خطوة تهدف الى نقل الصراع من الداخل الى الخارج. * كاتب وسياسي سوداني.