من الأشياء البارزة الشديدة الأهمية في مجال تطور الكتابة النقدية العربية في الوقت الراهن ظهور الوعي النسبي بالحقيقة، وبالأشياء والعالم. فلم تعد هناك حقيقة واحدة أو تحليل واحد أو معنى مطلق للنص يقدمه الناقد أو النقاد الذين يقومون بقراءة النص والتعليق عليه. ولت هذه النظرة الاطلاقية التي كانت مهيمنة على الثقافة والنقد العربيين في سنوات الخمسينات والستينات في زمن صعود النظرية الماركسية بنسختها الستالينية، وحل محل هذه النظرة تصور نسبي للحقيقة والعالم. ونحن لا نجد في زماننا ناقداً أدبياً، أو باحثاً في الأفكار أو حتى مؤرخاً له حضوره المعرفي، يستطيع أن يقول لنا إن ما كتبه عن نص ما أو كاتب، أو ظاهرة أدبية، هو الحقيقة، بل إنه يعرف أن ما كتبه هو قراءة من قراءات كثيرة تحتمل الصحة أو تقدم وجهاً من وجوه التحليل. أصبحنا نسمع الآن خطاباً أقل وثوقية ودوغمائية مما كان له أطيب الأثر في تطور الإبداع والفكر والنقد وازدياد الاهتمام باللغة الأدبية وتأمل العالم والأشياء والنظر الى ما حولنا بعيون وذاكرات تتمتع بصفاء أكثر. وبناء على ما سبق مزق الوعي النسبي "بالون" المفاهيم الاطلاقية وادعاءات امتلاك الحقيقة والصحة، ومهد الطريق لكتابة نقدية عربية توافرت على وعي عميق بمفهوم النقد والقراءة. أرسيت في النقد العربي المعاصر مشاريع لافتة مبثوثة في ما كتبه عدد من النقاد العرب البارزين، وتراكمت في الوقت نفسه أعداد كبيرة من الدراسات حول الشعر والرواية والقصة القصيرة قدمت مسحاً نقدياً للأنواع الأدبية العربية في القديم والحديث. كل ذلك تحقق خلال الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية في نوع من الفوران النقدي الذي أنجز خلال سنوات قليلة ما كان ينجز خلال قرون. لكن المشكلة الفعلية التي تواجه النقد الجديد في العالم العربي تتمثل في الانبهار بالنظرية، والوقوع في أسر ما ينجزه النقاد في الغرب، على رغم أن ما يصدر عن نقاد الغرب من تصورات نظرية هو جزء من التطور الفكري والثقافي والفلسفي لبيئات ثقافية قطعت أشواطاً طويلة من مراجعة الذات والثورة عليها مما يولد في أحيان كثيرة تصورات متطرفة حول النص والقراءة والمعنى، وهي تصورات تبدو في السياق العربي غير ذات جدوى ومجرد ترديد ببغاوي لما يقوله النقاد والمفكرون في أوروبا وأميركا. ومع انني لا أقف ضد الاستفادة من التطور المدهش في حقل النظرية الأدبية وعلوم التأويل وأشكال القراءة بل إنني على العكس من ذلك أحد دعاة الاستفادة من الغرب والحوار معه لأن الغرب أصبح جزءاً منا وليس بالإمكان الهروب منه بعيداً والسكن في جزيرة معرفية معزولة، إلا أن ما آخذه على تيار معين في النقد العربي المعاصر هو النزوع الى النقل والتقميش والقص واللصق والترداد الببغاوي للأفكار والتصورات الغامضة بنوع من النشوة الغريبة في اللعب بالكلام. وهو ما يتسبب في مراكمة نصوص نقدية تفتقر الى الابداع والانجاز المتفرد وتصرف النقاد العرب عن قراءة النصوص والظواهر المتفردة في الأدب والحياة العربيين المعاصرين. اننا بحاجة، بعد ربع قرن من الاتصال بالفكر النقدي الغربي المعاصر، الى إعادة نظر في علاقتنا بهذا الفكر وتحديد موقفنا من النظرية والتقنيات والأشكال الاجرائية لكي نكون قادرين على تقديم قراءات مبدعة للنصوص والظواهر التي تتولد بين ظهرانينا.