ليس ثابتاً أن أميركا ستحافظ في ظل إدارة الرئيس بوش على الزعامة الدولية التي كرستها طوال ولايتي الرئيس كلينتون، فبوادر تشقق الهيبة تتزايد، يوماً بعد يوم، وهي لا تطاول الحلفاء المترددين مثل أوروبا واليابان وحسب وانما تشمل الحلفاء الثابتين وفي مقدمهم بريطانيا التي باتت مرتبطة أكثر فأكثر بأوروبا، ما يؤكد توقعات خبراء بريطانيين بأن العلاقات مع الولاياتالمتحدة ستشهد "أوقاتاً صعبة" استناداً الى زوال الظروف الدولية التي أدت الى إنشاء الحلف الأطلسي. ربما ينبغي التوقف في هذا المجال عند الرسالة الأخيرة التي بعث بها المستشار الألماني غيرهارد شرودر الى الرئيس الأميركي والتي لفتت شدتها المراقبين، فهو دافع بلغة واضحة عن دور أوروبي أكبر في الأمن العالمي وضرورة الحد من التسلح في وقت تضع الادارة الأميركية اللمسات الأخيرة على نظام الصواريخ المضادة للصواريخ، متحدية جميع حلفائها. المهم في كلام شرودر هو التركيز على ايجاد هوية أمنية خاصة بأوروبا لتكون لديها القدرة على مواجهة الأزمات بشكل مستقل، وهذا رفض صريح للزعامة الأميركية وإن كان المستشار الألماني لم يلغ إمكان التفاهم وحتى التحالف بين أنداد فتكون "أوروبا القوية شريكاً للولايات المتحدة في مواجهة التحديات العالمية". طبعاً كل تمرد على الزعامة يبدأ بكلام مطمئن من نوع هذه العبارات. لكن أساس التباعد الأميركي - الأوروبي هو اندفاع إدارة الرئيس بوش الى إحياء برامج التسلح والإصرار على نشر نظام الدفاع الصاروخي على نحو بدأ يثير أجواء احتكاك مع روسيا، وهي أجواء تزعج الأوروبيين الباحثين عن مناخ مناسب للتمدد شرقاً، الى حد أن أصواتاً أوروبية ذات وزن ارتفعت أخيراً دفاعاً عن روسيا التي قيل عنها انها "تقوم بدور حيوي من أجل السلام والأمن الدائمين في أوروبا". ولعل ما يزعج الألمان أكثر هو أن الخطة الأميركية الجديدة ستربك مساعيهم لربط موسكو بشكل وثيق ببقية القارة. ربما من المبالغة توقع حصول شرخ بين واشنطن والعواصم الأوروبية في المرحلة المقبلة، لكن الثابت أن هناك تباعداً بدأ يتكرس من خلال الكلام للمرة الأولى عن "تباين مصالح" مع واشنطن. وعلى رغم أن وزير الخارجية البريطاني روبن كوك معروف بتأييده انضمام بريطانيا للعملة الأوروبية، فإن تعبيره عن القلق من خطة إدارة بوش لنشر الصواريخ المضادة للصواريخ عكس الى حد كبير موقف الحكومة البريطانية بدليل أن توني بلير قرر المشاركة في قوة التدخل السريع الأوروبية ب12500 جندي ما اعتبرته الأوساط المحافظة المعارضة "خيانة للحليف الأميركي". امتد اهتزاز الهيبة الى اليابان، فحادثة إغراق الغواصة النووية الأميركية سفينة صيد يابانية شكلت القشة التي قصمت ظهر الصمت الياباني وأثارت موجة واسعة من العداء لأميركا ما ألهب المطالبات السابقة بإقفال القواعد الأميركية في جزر أوكيناوا أو في الأقل خفض أعداد القوات المرابطة فيها. كانت هذه الأصوات هامشية في التسعينات إذ لم تتجاوز دوائر الشيوعيين، لكن مع تصاعد الاحتكاكات بين الأهالي والجنود الأميركيين بات هذا الموضوع إحدى المسائل المهمة التي سيبحث فيها رئيس الوزراء الياباني مع الرئيس الأميركي خلال اجتماعهما المرتقب مطلع الشهر المقبل. قصارى القول إن الزعامة الأميركية لا تزال لا تتعرض لاهتزاز يهدد مركزها في الأمد المنظور، إلا أن الاصرار على فرض خيارات وخطط تضر بمصالح الحلفاء سيبدأ بإنشاء دوائر فراغ حولها.