ماذا جرى خلال المؤتمر العام الذي عقده الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب في بغداد؟ ماذا دار في الندوات وفي الكواليس؟ وكيف التقى أدباء العراق زملاءهم العرب الذين أقلتهم طائرة انطلقت من دمشق؟ هيمنت القضية الفلسطينية على أجواء المؤتمر العام الحادي والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب الذي عُقد في العاصمة العراقيةبغداد، ليس لجهة الاحتفاء "الإنشائي" بانتفاضة الأقصى فحسب بل لما ساد الأجواء من أحاديث ومفاوضات و"كولسات" حول موضوع البحث في تجميد عضوية فلسطين في الاتحاد العام، وشرعية استمرار هذا التجميد في ظل سيادة مناخ الانتفاضة وما ينبغي أن تتمخض عنه على صعيد عربي. ورأى البعض أن لا بد من أن يفرز هذا المناخ حالاً جديدة في التعاطي مع اتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين. وفي هذا الصدد بقي الكتّاب الفلسطينيون الذين حضروا المؤتمر العام على انقسامهم وتشرذمهم حيال القرار المفترض اتخاذه لتحديد مصير اتحادهم المجمّد العضوية والمنقسم بين رام اللهودمشق وعواصم عربية اخرى... وظلت المواقف السياسية، لا الثقافية والإبداعية، هي الحائل دون لقاء القادمين من رام الله وغزة مع القادمين من دمشق على اختلاف التوجهات بين هؤلاء أنفسهم. ولعله الأمر الذي جعل تكليف الكاتب يحيى يخلف وكيل وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية التحضير للانتخابات. وكان محل استهجان من البعض، واستنكار ورفض من آخرين، وقبول على مضض لدى قلة من المعنيين بالأمر. وأجمعت الوفود العربية على هذا التكليف، وكأنه جاء بعد ترتيبات طويلة سبقت انعقاد المؤتمر، ولم يتحفظ على هذا القرار سوى رئيس رابطة الكتاب الأردنيين فخري قعوار الذي اشترط أن يربط رفع التجميد بإجراء الانتخابات لكل فروع اتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين في شكل ديموقراطي وبإشراف الاتحاد العام العربي الذي يترأسه لدورة ثانية علي عقلة عرسان. كانت خطوة مؤتمر الاتحاد العربي المتمثلة بتكليف يحيى يخلف تشكيل اللجنة المكلفة الإعداد للانتخابات العتيدة، مفاجئة من جهة، ونتاج ضغوط عربية، سورية وعراقية في الأساس، من أعلى المستويات السياسية، من جهة ثانية. وهذا ما جعل الأمر يمرّ بلا ضجيج يذكر سوى ما جاء في بيان، وقف وراء إصداره وجمع التواقيع عليه الشاعر خالد أبو خالد. والبيان يستنكر أن يكلف شخص ذو منصب رسمي في "سلطة أوسلو" بهذا الدور "التوحيدي"، حتى ولو كان كاتباً وروائياً! بل حتى لو كان قادماً من أرض الانتفاضة! إذ كان ينبغي تكليف كاتب مستقل ومحايد وذي قامة ثقافية تليق بالمهمة الكبيرة التي ستعيد لاتحاد الكتّاب الفلسطينيين وحدته بعد تشرذم دام أكثر من خمسة عشر عاماً، بل بعد تجميد استمر أكثر من خمس سنوات! وقد بقيت عضوية فلسطين مجمدة! الاهتمام الآخر حظيت به انتفاضة الأقصى على غير مستوى. فعلى مستوى أول احتلت الانتفاضة مكانها في أبحاث الندوة الثقافية، وهنا تناولت محاور التطبيع ومقاومته، والحصار ومواجهته. نالت الانتفاضة نصيباً من البحوث المتسرعة ذات النبرة الخطابية والإنشائية، واللغة السياسية الأقرب الى لغة السياسة اليومية منها إلى لغة السياسة المثقفة التي تنظر في عمق الأشياء والظواهر ولا تكتفي بسطحها ويومياتها. أما المستوى الثاني فجاء في البيان الختامي الذي - مثله مثل كل بيانات القمم العربية - خص القضية الفلسطينية بفقرات مستقلة، وقدم لانتفاضة الأقصى "دعماً عربياً وإسلامياً مطلقاً" ودعا الى "احتضانها شعبياً ورسمياً، وإذكاء شعلتها بالدعم والمساندة لتصعيد أشكال الكفاح الشعبي والمسلح بما يعزز الصحوة العربية....". لكن هذا الدعم والاحتضان لم يأتيا من دون مناقشات مهمة تركزت حول ما إذا كان المطلوب هو "دعم" أم "تأييد" أم "تلاحم"، وحول ما إذا كان ضرورياً "فتح باب التطوع" لمن يريد من العرب. ثم كان لا بد من "تعزيز النهج التحريري في الانتفاضة حتى لا تكون مجرد وسيلة لتحسين شروط التفاوض وتحريك المسارات التفاوضية، وجعل الانتفاضة طليعة عمل من أجل التحرير". ولذا كان لا بد أيضاً من الدعوة الى "فضح ممارسات العدو العنصرية - النازية، والتركيز على أهمية القدس ومكانتها وموقعها القومي والديني بوصفها رمزاً لقضية فلسطين كلها، ورمزاً عربياً وإسلامياً شاملاً". وعلى غرار الانتفاضة، نال الحصار ومواجهته نصيباً من البيان الختامي مما نعرف من عبارات الشجب والتنديد. المقاومة والمواجهة في الندوة الثقافية، كانت العناوين على درجة من السخونة والأهمية، في القدر الذي ينسجم مع شعار المؤتمر "لا للعدوان الأميركي الصهيوني، لا للحصار، لا للتطبيع والاستسلام". فقدم كاتب "قراءة في آثار العدوان والحصار الإبداعية ما بين انتفاضتين"، وقدم باحث اقتصادي بحثاً في "الحصار الاقتصادي في الحروب الباردة: مدلوله، أبعاده، نتائجه، انعكاساته الفكرية والاجتماعية والسياسة"، وربط باحث "أثر الصهيونية والقطبية الأحادية في استمرار الحصار على العراق" وتحدث باحث عن "العقلية اليهودية وفلسفة الحصار". وبحث باحث عن "جدلية العلاقة بين استمرار الحصار على العراق والتطبيع مع العدو الصهيوني"، وكتب آخر بحثاً عنوانه "الحصار والمثقفون ومقاومة التطبيع". وتناول شاعر "شعر الحصار في الأندلس بين الشهادة والإبداع: بلنسية نموذجاً"، واختار باحث أن يقرأ كتاب رشاد أبو شاور عن حصار بيروت "آه يا بيروت" ، وكان أقصر البحوث ما قدمه الدكتور سيد بحراوي عن "المثقف العربي في مواجهة أساليب الحصار". ولا يحتاج قارئ هذه العناوين الى من يدلّه على مضمون البحوث المقدّمة، وما ينطوي عليه معظمها من خلط ومن إقامة علاقات عشوائية بين القضايا والظواهر والمصطلحات...الخ. وفي باب ثقافة الطفل، نجد مجموعة من البحوث أبرزها "ثقافة الطفل العربي بين السمعيات والبصريات" و"الغزو الثقافي ومخاطره على الهوية القومية في أدب الأطفال"، و"أدب الطفل: رحلة في المخيلة". و"الطفل واللغة"، و"مصادر ثقافة الطفل العربي". ولا أجدني مضطراً للتفريق بين ما يعنيه كون هذه البحوث هي الأبرز، وبين خلوّ معظمها من الجدية والعمق والجدة. فنحن هنا وهناك أمام بحوث جرى "توليفها" على عجل لتقدم في ندوات بلا مستمعين في معظم الأحيان، أو بمستمعين من نمط كتاب الأبحاث الراغبين في الثرثرة والمماحكات. ولأسباب عدة، لم أستطع "الصمود" داخل المؤتمر لحضور والمشاركة في مهرجان الشعر الثاني والعشرين الذي بدأ في اليومين الأخيرين، وهكذا فأنا لا أستطيع تقويم مهرجان لم أحضر منه إلا ندواته، ولكني قرأت الأسماء المشاركة في برنامج افتتاحه، ولم يكن بينها سوى اسم شاعر عربي ضيف واحد له ثقله وتجربته، وشاعر عراقي واحد أيضاً. أما الشعراء الثمانية الآخرون المشاركون في امسية الافتتاح فهم ممن لم يقدموا شيئاً يذكر للشعر العربي. وما ينطبق على هذه الأمسية، يندرج تحته الشعراء القادمون من أقطار العربية ممن تعرفنا إليهم خلال الأيام الخمسة التي قضيناها في ليالي بغداد وفي نهارات فندق بابل. واستمعنا في سهراتنا الى عدد من الشعراء العرب الضيوف والعراقيين، وقرأنا بعض ما جاء به شعراء آخرون ليمدحوا الانتفاضة و مقاومة الحصار. أما انتظار مهرجان الشعر فكان امراً شديد العسر، وفضلنا أن نسافر براً، على أن ننتظر يومين كي نركب الطائرة العائدة الى دمشق وللحديث بقية.