ترى الصحافة الإسرائيلية ان إيهود باراك "فارس بلا شرف"، وأنه سيعمل "قاتلاً مأجوراً" عند آرييل شارون، وتنتقد تسلمه وزارة الدفاع بعد ان خسر رئاسة الوزراء لفشله في حفظ الأمن، وتخلص الى القول ان الحكومة المقبلة هي الأقل صدقية في تاريخ أي بلد ديموقراطي. الصحف الإسرائيلية قالت في باراك أقل مما يستحق. فهذا الرجل أعلن قبل 11 يوماً فقط تركه السياسة، ثم غير رأيه بعد ان أقنعه شارون بأن الصحف ستهاجمه ثلاثة أيام ثم تنسى الموضوع. الموضوع اليوم ليس باراك، بل تشكيل حكومة "وحدة وطنية" في اسرائيل، فمثل هذه الحكومات لم يشكل في تاريخ اسرائيل إلا لإعلان حرب على العرب، ومع وجود شارون رئيساً للوزراء تزيد امكانات الحرب أضعافاً. طبعاً هناك شمعون بيريز وزيراً للخارجية، وسُمعته انه من حمائم اسرائيل على رغم مجزرة قانا، غير ان وجوده وآخرين في الحكومة يعطي انطباعاً بأننا أمام "الزوجي المتناقض"، إلا ان المسرحية هذه المرة مأساة اغريقية الحجم، وليس كوميديا كما أرادها نيل سايمون، وإن كان من أمل وحيد في مثل هذا الوضع المبكي فهو ان تؤدي التناقضات داخل الحكومة الجديدة الى سقوطها، قبل ان ينفجر الوضع مع الفلسطينيين، وربما في المنطقة كلها. في غضون ذلك، هناك آرييل شارون، وهو قاتل محترف، فلا صفة أخرى له عندي، وفي حين انه يتحدث عن السلام وعن خطوات مرحلية، فإنني أصر على أنه يخطط لاغتيال قادة الفلسطينيين، بمن فيهم أبو عمار، وانه إذا "اعتدل" فسيحاول ابعاد هؤلاء القادة عن الضفة والقطاع، اعتقاداً منه ان الشعب الفلسطيني اذا ترك بلا قيادة فسينهار ويقبل الشروط الإسرائيلية. شارون اشترط يوماً لدخول حكومة ائتلافية مع باراك اغتيال محمد دحلان، رئيس الأمن الوقائي في غزة، وقد انقلب الوضع الآن فأصبح شارون رئيس الوزراء، وباراك وزيراً للدفاع تحته. وفي حين عند الأول عقدة انه لم يصبح رئيساً للأركان، فإن عند الثاني عقدة خسارته رئاسة الوزراء تحت وطأة الانتفاضة وسيحاول الاثنان معاً فك عقدهما على حساب الفلسطينيين، بل ربما حاولا حلّها على حساب الأردن، فشارون لم يتراجع يوماً عن فكرته المعروفة ان "الأردن هو فلسطين"، وان كان لم يرددها علناً منذ انتخابه رئيساً للوزراء هذا الشهر. ما يردد شارون باستمرار هو انه يقول ما يعني، ويعني ما يقول، وعلينا بالتالي ان نصدق عرضه مفاوضات على مراحل، لا ضمان لنهايتها، والمعروض فيها 42 في المئة من الضفة الغربية، مع بقاء المستوطنات كلها، ولا قدس أو عودة أو غور الأردن، أو الجولان... يعني لا سلام. وفي حين ان عدم تحقيق السلام لا يعني بالضرورة الحرب، فقد عشنا سنوات كثيرة، والوضع لا حرب ولا سلام، الا ان مثل هذا الوضع غير ممكن هذه المرة، فكل من شارون وباراك يحاول التعويض عن فشله، ومعهما جنرالات يريدون ان يثأروا من شعب هزم مدفعية الدبابات وصواريخ طائرات الهليكوبتر بالحجارة، ووراء هذا كله ائتلاف حكومي يضم اليمين واليسار، ما يعني اتفاق الطرفين علينا. مرة أخرى، وبأوضح عبارة ممكنة، فالمفاوضات مع حكومة شارون مضيعة للوقت، وهي لا يمكن أن تنتهي باتفاق يقبل به الفلسطينيون، لذلك فالأرجح ان تستغل الحكومة الاسرائيلية أي حادث أمني، من نوع حادث الباص، للتصعيد ضد الفلسطينيين، وهذا سيؤدي بدوره الى تصعيد مماثل، والى انفجار في النهاية. وأغرب ما في هذا الوضع ان الاسرائيليين اختاروا هذا الطريق، أو "انتخبوه"، وهم يظهرون في كل مرة غالبية واضحة مع السلام. وربما قالوا انهم قدموا هذه المرة الأمن على السلام من دون أن يتخلوا عن المطلب الثاني، إلا أن الحكومة الائتلافية جاءت لتسلم موضوع الأمن الى الرجل الذي فشل في تحقيقه، وخسر رئاسة الحكومة لهذا السبب قبل أي سبب آخر. شخصياً، لا أجد بارقة أمل من أي اتجاه أو مصدر، فإذا منع "الزوجي المتناقض" الحكومة الاسرائيلية من العمل، وأدى الى سقوطها خلال أشهر، فهذا قد يمنع الحرب، إلا أنه منع لن يطول، فشبح بنيامين نتانياهو يلقي ظله على الحكومة الاسرائيلية كلها، واذا سقط شارون، فلن يعود الفاشلان باراك أو بيريز، وإنما الأرجح أن يعود نتانياهو، بكل ما فيه من عقد المستوطن الوافد من بروكلن. وربما كان نتانياهو معنا فعلاً من دون أن ندرك، فشارون أرسل ممثليه الى واشنطن لعرض وجهات نظره وحشد التأييد اليهودي الاميركي لسياساته المتطرفة. وهكذا عدنا الى موشي آرنز وزالمان شوفال ودوري غولد، وكل التطرف الذي مثله هؤلاء أيام حكومة نتانياهو، وأدى الى بداية تدمير مسيرة أوسلو، وهي مهمة واصلها باراك الليكودي الميول، تحت قناع العمل، ومن شأن شارون ان يكملها.