بعد دراسة مطولة أجراها روبرت دال Robert Dahl عن عن المعايير الأساسية للديموقراطية في المجتمع، توصل الى مفهومين لا غنى عنهما، هما: "المشاركة الفاعلة" Effective Participation و "الفهم المنور"Enlighted Understanding، فالأول معني بمشاركة الجماهير في شكل متساو والمفهوم الآخر يتطلب أن تكون آليات القرار الديموقراطي من الأهمية بمكان في المجتمع، حيث يطلب المواطن معرفة معاني النتائج المترتبة على اتخاذ أي قرار من السلطة الحاكمة وصناع القرار. لكن الاشكالية أن توافر هذين الشرطين في المجتمعات الغربية بات أمراً مشكوكاً فيه - فضلاً عن دول العالم الثالث التي تحكم معظمها سلطات عسكرية لا تعرف للديموقراطية معنىً - لأن هناك سيطرة مخيفة للشركات الإعلامية العملاقة على كل ما يتعلق بالإعلام من مطبوعات ومنشورات وقنوات منقولة عبر الكايبل Cable وكذلك الإعلام المسموع والمقروء، ولعل هذا ما أثار حفيظة المحكمة الدستورية العليا في فلوريدا عندما أكدت على أن حقوق عامة الشعب لمعرفة جميع الآراء حول مواضيع مثيرة للجدل لتنوير المجتمع أمر بات معرضاً للخطر، وذلك بسبب تركز ملكية الشركات الإعلامية بأيدي حفنة قليلة من الشركات الاعلامية العملاقة. يكفي لمعرفة حجم التركز الذي تعانيه صناعة الإعلام أن هناك على سبيل المثال تسع شركات اعلامية متحكمة في الإعلام الأميركي مهمتها تشكيل الرأي والذوق العالميين. هذه الشركات التسع التي تبلغ أرباحها السنوية ما بين ثمانية الى ثلاثين بليون دولار هي: ديزني أي بي سي، وأميركا أون لاين - تايمز ورنير سي إن إن، وروبرت مردوك فوكس تي في، وفاياكوم سي بي إس، وجنرال الكتريك إن بي سي، وسوني سابقاً سي بي - س ريكو ردس وكولومبيا بيكتشر، وسيغرام ينيفيرسال فلم وتلفيشن استديو، وآي تي آند تي كايبل وميديا ون سابقاً، وبيتلسمان شركة ألمانية تسيطر على واحد في المائة من مطبوعات كتب البالغين في العالم. وأثار بين باكديكيان في كتابه "احتكار الإعلام" ضجة كبيرة في الرأي العام الأميركي عندما استطاع أن يحصي حوالى 1700 صحيفة يومية، و11000 مجلة، و9000 اذاعة و1100 محطة تلفزيونية، و2500 دار نشر و7 استوديوهات سينمائية، وقال انه لو ان كل مؤسسة من التي ذكرت كانت ملكاً لشخص واحد لكان لدينا 25000 صوت اعلامي مختلف عن الآخر، ولكن، للأسف، هناك فقط 50 شركة هي التي تتحكم في كل الإعلام الأميركي. إن الشركات العملاقة القليلة التي تحتكر الإعلام تعبر عن رغبات أثرياء العالم، وعلى صلة وثيقة بكبريات الشركات المالية والصناعية، حيث تضمن لها غطاء إعلامياً وتساعدها على تذكية روح الاستهلاك في العالم وكذلك تغيير انماط الاستهلاك، فعلى سبيل المثال صحيفة "النيويورك تايمز" The New York Times على صلة اقتصادية وثيقة بالشركات التالية: Merck, Morgan Guaranty Trust, Bristol Myeres, Charte Oil, Johns Manville, American Express, Bethlehm Steel, IBM, Scott Paper, Sun Oil, and First Boston Corporation. لا ينكر على الإعلام دوره على تفعيل الديموقراطية في الدولة من خلال تبادل المعلومات وتلاقح الآراء والاستماع الى جميع وجهات النظر الحكومية وغير الحكومية، ولكن، تكمن اشكالية تركز الإعلام في ايدي فئة قليلة من أصحاب النفوذ المالي أنه يوقع الأمة في مطب الإعلام الاشتراكي والمركزي، أي احتكار الرأي ومصادرته ليخدم جهة واحدة هي الجهة الممولة، سواء أكانت الحكومة في الأنظمة الشمولية أم الرأسمالي في الأنظمة الرأسمالية، وهذا يقلل فرص بقية الأطراف في التعبير عن رأيها، والأمثلة كثيرة على التحيز لطرف دون آخر في الإعلام العالمي والأميركي في شكل خاص، وربما مثال أحداث الشرق الأوسط في الإعلام الأميركي يوضح مدى التحيز الى إسرائيل وأصحاب النفوذ في اللوبي الصهيوني على حساب الطرف العربي دائماً، وكذلك تسويق فكرة الإرهاب والتطرف وتصويرها على أنها تهمة تلصق بالعرب لو حاولوا الدفاع عن حريتهم واستقلالهم على أرضهم أو دعوا للتحرر من نير الغطرسة الإسرائيلية والغربية، ويحاول الإعلام إظهار القيم الغربية والأميركية خصوصاً على أنها النموذج الأمثل الذي يجب على العالم اتباعه، أو حتى اظهار محاسن أحد المرشحين الأميركيين للرئاسة على حساب الآخر، أو عدم تبني مظالم الأقليات في الإعلام الأميركي سواء السود أو العرب أو غيرهم، وحتى على الصعيد الأميركي الداخلي تذكر الكثير من الأحداث الدالة على سلبية هذا التركز في صناعة الإعلام، فقد طرد في العام 1998 أحد منتجي الوثائق المتلفزة في وكالة ال"سي إن إن" لأنه أراد انتاج فيلم وثائقي حول غاز الأعصاب واستخدام أميركا له في العمليات خلال حرب فيتنام، ولم تسمح شركة ديزني التي اشترت محطة آي بي سي من عرض برنامج عن مشكلات وممارسات شركة ديزني في ما يخص مسألة التوظيف. وهناك ما فعلته محطة ال"سي بي إس" من إلغاء مقابلة مع أحد المدراء السابقين لشركات التدخين "جيفري وايند" لما لها من مصالح مع بعض شركات التدخين، وأمثلة أخرى كثيرة تدل الى التناسب الطردي بين تركز صناعة الإعلام وندرتها مع الزمن بسبب الاندماجات وضيق الهامش الديموقراطي في المجتمع. المشكلة الأكبر التي تهدد الرأي العام بالخطر أن الشركات لم تكتف بأنها قليلة وتعبر عن شريحة بسيطة من المجتمع، لكنها بدأت تفكر في الاندماج حتى تصغر هذه الشريحة لكي تصبح الشركات المسيطرة على الرأي العام بعدد أصابع اليد، ما يخلف تأثيراً سلبياً على سير العمل الديموقراطي ويضع العصي في عجلة الديموقراطية. من المفيد في الحديث عن الاندماجات الاعلامية الضخمة ذكر المبالغ الطائلة التي تضمنتها تلك الاندماجات، حتى تظهر صعوبة المنافسة مع الشركات ذات الامكانيات الهائلة التي اكتسبت بعد الاندماج. فمثلاً، أولى الاندماجات التي تمت في أوائل التسعينات كانت بقيمة 1014 بليون دولار بين شركتي Time وWarner، وأعقبها في 1991 اندماج بقيمة 906 بلايين دولار بين شركتي Matsushita وMCA، أما الشركة العملاقة Viacom فأشترت عام 1994 شركة Paramount بمبلغ 609 بلايين دولار وعادت لتشتري الشركة العملاقة CBS عام 1999 بمبلغ 5.34 بليون دولار. واستمرت الاندماجات والتي كان أحد أهمها عام 1996 عندما قامت شركة Murdoch بشراء أكثر من عشر محطات تلفزة بمبلغ 42.5 بلايين دولار، وكان آخرها في القرن العشرين اندماج شركتي AOL وشركة Warner.Times. وكانت المبيعات السنوية لشركة "تايمز وورنر" تشكل قبل اندماجها مع شركة "أميركا أون لاين" أكثر بخمسين مرة من أكبر خمسين شركة إعلام عالمية، ويقدر حجمها بعد الاندماج ب350 بليون دولار. ويكفي لمعرفة الحجم الهائل للاندماج الأخير أن نعلم أن AOL لديها أكثر من 20 مليون مشترك و19 خدمة على الانترنت ولديها 12 الف موظف، بينما تملك شركة Times Warner 27 شركة نشر كتب و37 محطة تلفزيونية أرضية Cable و15 مؤسسة انتاج وتوزيع تلفزيوني و49 مجلة و23 شركة ترفيه و59 شركة موسيقية و5 شركات على الانترنت للطبع والتوزيع و3 شركات لشراء السلع وبيعها ويعمل لديها 70 الف موظف. الأحجام العملاقة للمؤسسات الاعلامية لا تدع مجالاً للشك في ان حرية الكلمة باتت مهددة بسبب ضيق مساحات الحرية التي يسيطر عليها قلة من أثرياء العالم، فلو أرادت شركة CBS أن تسوق فكرة، فإنها يمكن ان توظف محطاتها التلفزيونية ال15 في 15 ولاية وشركاتها الست على الكيبل وشركاتها السبع الموجودة على الانترنت، وتوظف كذلك محطاتها الاذاعية ال147 في 34 ولاية و3 شركات للانتاج السينمائي، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الشركات العملاقة التي ينقص عددها مع الزمن بسبب الاندماجات المتزايدة. ونحن العرب والمسلمين علينا ان نعي أننا مع ظاهرة العولمة أمام تحد اعلامي خطير لا يمكن لمحطاتنا أو اذاعتنا المتواضعة أن تصمد امامه ولا حتى محطات التلفزة الفضائية التي تتيح هامشاً ديموقراطياً لا يستهان به في تشكيل الرأي العام العربي على الأقل. والملاحظ إن الإمكانات الخرافية التي يتمتع بها الإعلام العالمي الأميركي في شكل خاص لن تدع لرأي آخر ان تقوم له قائمة ما لم ينصع لرغبات عمالقة الثراء ويوافقهم على تعديل قوانين العالم بما ينسجم ومصالحهم فيجمل قبيحها ويشوه حسنها بما تهوى أنفس صناع استراتيجيته الاعلامية. وأعتقد أن علينا الالتفاف حول الجادين في محطاتنا الاعلامية الفقيرة على رغم ما يشاع عن غناها الوهمي لدعم احد أثرياء العرب لها - وعلينا ان نرعاها وأن نعلم أنهم متنفسنا الذي يحسن بنا تقويمه بدل تخوينه ان وجدنا اعوجاجاً فيه. والواقع يدل الى ان الديموقراطية التي تمثلها صناعة الاعلام خصوصاً بالأقوياء فلا تهمها عدالة أو احقاق الحقوق، لذا فلن تفتح لنا المحطات الأميركية ولا حتى العالمية للتعبير عن همومنا وأفراحنا وأتراحنا وقضايانا، ولعلنا نجد في أكثر القنوات الغربية انفتاحاً من يذكر خبراً يتيماً حول قضايا الشرق الأوسط ضمن تصورات صانع أصحاب النفوذ. لعل الفضائيات العربية تبث في المستقبل برامج حوارية على الهواء باللغات العالمية حتى تعيد تشكيل الفكر العالمي بانصاف وموضوعية وبطريقة واعية من دون تحيز، وتسحب البساط من أيدي محترفي الاعلام الغربي. * كاتب سوري مقيم في الولاياتالمتحدة الأميركية.