إذا استثنينا تأثير الإشراف القضائي على انتظام عملية الاقتراع في الانتخابات المصرية الأخيرة، فإننا من الصعب ان نجد ظاهرة واحدة منظمة عرفتها هذه الانتخابات. فلقد مثلت المعركة الانتخابية الأخيرة امتداداً لمجموعة من الظواهر الاجتماعية التي يعرفها المصريون في حياتهم العامة واليومية. فالفوضى اليومية في الشارع المصري هي نفسها التي شاهدناها في معركة الانتخابات التشريعية، وغياب أي تقاليد مؤسسية في قطاعات العمل المهني وفي هياكل الدولة المصرية هو نفسه الذي شاهدناه في انتخابات نهاية العقد. وإذا أتيح لأحد ان يزور القاهرة - ولا نقول الأقاليم والقرى - ويتجول في شوارعها في السنوات العشر الأخيرة، فسيكتشف على الفور تلك المساحة الهائلة من الفوضى العبثية التي لم تعرفها مصر في تاريخها المعاصر. فكل بناية في القاهرة وكل قائد سيارة له قانونه الخاص الذي ليس له أدنى علاقة بالقانون العام الذي يفترض ان ينظم أوضاع الوطن والمواطن. وتحول شكل العمارة في القاهرة الى عشوائيات متنافرة وأصبحنا أمام "موزاييك" نادر يلف شوارعها ومبانيها وأرصفتها، وصار لكل فرد الحق في ان يمتلك ما يريد حتى لو كان ملكية عامة ويفعل ما يشاء حتى لو كان مخالفاً للقوانين. وأصبحت وسائل النقل العامة في مصر مسرحاً لتطورات جديدة لم تعرفها من قبل، فقد كانت الشكوى في السبعينات من أن بعض باصات هيئة النقل العام لا تقف في بعض المحطات، والآن أصبح من الطبيعي ان نجد كثير من سائقي هذه الباصات يضع مسارات خاصة به لا علاقة لها بالمسارات التي تحددها الهيئة وتبعاً لمزاجه الشخصي، وتقديراته لحالة المرور في شوارع القاهرة، وذلك من دون رقيب أو حسيب. أما سيارات الأجرة فقد صار استخدام عداداتها من مخلفات "العصر الشمولي" وهي الدلالة المادية على وجود معيار قانوني يحكم العلاقة بين الراكب والسائق التي أصبحت تحكمها المقايضة والبركة والعشوائية التي لا تخلو أحياناً من مشاحنات ولولا سماحة الشعب المصري لتحولت تلك المقايضات الى معارك دموية. ولم يختلف حال "السياسة" عن حال المجتمع ولم يختلف حال الأحزاب عن حال "مؤسسات" المجتمع، وجاءت الانتخابات الأخيرة في صورة غير بعيدة عمّا نراه في الشارع المصري من عجائب وغرائب لا مثيل لها. ولعل الغياب شبه الكامل للسياسة وليس فقط الأحزاب السياسية قد عبّر عن غياب مواز "لقيمة المؤسسية" من الحياة العامة في مصر. فغياب أي إطار سياسي يوجه حركة الغالبية الساحقة من المرشحين سواء كان هذا الإطار يتمثل في الولاء التنظيمي لحزب أو لتصور أو لفكرة كان هو السائد وذلك لصالح نموذج اللامنتمي الذي عبّر عنه المستقلون. ولعل تمحور المعركة الانتخابية حول المستقلين والتراجع الكبير الذي شهدته أحزاب المعارضة والحزب الحاكم معاً قد جعل من الصعب تجاهل ظاهرة المستقلين في الحياة السياسية المصرية. ويمكن في الحقيقة اعتبار ان سطوة المستقلين في المعركة الانتخابية الأخيرة كانت هي الوجه الآخر لغياب أو تغييب السياسة والأحزاب السياسية، والعمل الجماعي المؤسسي من الحياة العامة في مصر. وحصل المستقلون في هذه الانتخابات - قبل انضمامهم الى الحزب الحاكم - على 224 مقعداًَ، وجاء الحزب الوطني في المركز الثالث إذ حصل على 178 مقعداً، وجاء التيار الإسلامي في المركز الثالث وحصل على 19 مقعداً ينتمي 17 منهم الى حركة الاخوان المسلمين، وجاء التيار الناصري في المركز الرابع فحصل المستقلون والحزب على سبعة مقاعد، وحصد حزب الوفد الليبرالي سبعة أيضاً بينهم نائبان أقرب الى التيار الإسلامي وآخر ينتمي الى التيار الناصري، وأخيراً جاء حزب التجمع وحصل على ستة مقاعد. وانضم 213 مستقلاً الى الحزب الوطني بعد فوزهم ليرتفع بذلك عدد نواب الحزب الى 338 من أصل 444 مقعداً من دون حساب المقاعد العشرة التي يعين نوابها رئيس الجمهورية كما ينص الدستور المصري. فالمستقلون، حقيقة هم التعبير "السياسي" عن حال الفوضى الشاملة التي تعيشها مصر اجتماعياً، فهم نواب الخدمات والمحسوبيات ولم يمتلكوا مهارات الكادر السياسي. ومن الصعب ان نجد نظير هذا العدد من المرشحين المستقلين في أي مكان آخر في العالم حتى في بلدان التعددية المقيدة، إذ عبّر عن معاني الفوضى ورفض الانتماء الى مؤسسة حزبية كما حدث في الانتخابات التشريعية. وجاء هذا التصاعد الهائل في دور نواب "الخدمات المستقلين" ليمثل المقابل "السياسي" لحال الجمود التي أصابت "مؤسسات" الدولة وسيادة عقل "الممالك المنعزلة" ذات الكفاية المتدنية. وأحلت في كثير من الأحيان الدعاية المظهرية لعمل ما محل قيمة العمل نفسها، وفي أحيان كثيرة بديلاً من العمل الذي يقومون به على أرض الواقع. ولم يختلف هذا الأسلوب كثيراً عن هذا الذي شاهدناه في الانتخابات الأخيرة إذ أنفق كثير من المرشحين ملايين الجنيهات لا من أجل دعايتهم الانتخابية فقط وانما لشراء الأصوات. وساعد على صعود نواب الفوضى من المستقلين تردي كفاية جهاز الدولة وغياب معايير موضوعية في تعيين الموظفين ومعظم الكوادر العليا والمتوسطة. فباستثناء اختبار وزارة الخارجية لا توجد مؤسسة أو وزارة حكومية تعتمد أسلوب المسابقات في اختيار كوادرها، كل ذلك ساعد على تحول نائب البرلمان من نائب حزبي له تصور سياسي للدائرة وللمجتمع الى نائب خدمي هدفه الأساسي الحصول على استثناءات وفرص عمل لأبناء دائرته. وعلى رغم ان مفهوم العمل النيابي في مصر ظل مرتبطاً الى حد كبير "بالنائب الخدمي" إلا ان معظم هؤلاء قدموا هذا الدور من خلال عطاء حزبي سواء من خلال الاتحاد الاشتراكي العربي، التنظيم السياسي الوحيد في ستينات القرن الماضي، أو من خلال خيار سياسي حكومي أو معارض كما حدث في السبعينات والثمانينات. أما في الانتخابات الأخيرة فقد بدا كل مرشح وكأنه "حزب" بمفرده يتحرك بصورة مفرطة في فرديتها ولا ينتمي الى بناء أو هيكل سياسي. فاستفحال ظاهرة المستقلين في مصر يعبر عن حال "الاستسهال" التي يعيشها المجتمع الذي لا توجد فيه قيمة عليا موجهة لحركته. فمن المستحيل ان نجد في أي انتخابات أخرى في العالم مرشحين يفصلون من حزب بسبب اصرارهم على الترشح أمام مرشحين آخرين اختارهم هذا الحزب، ثم يعودون بعد فوزهم للانضمام الى الحزب الذي فصلهم. وتعاملت الغالبية الساحقة من رجال الأعمال - ربما باستثناء النائب الوفدي منير فخري عبدالنور - مع العمل السياسي والمؤسسات باعتبارها مسائل تُشترى أو تباع عند الضرورة، إذ تم توظيف المال في عمليات شراء الأصوات بمعزل عن أي رقابة قانونية، أو مؤسسة من قبل الأحزاب السياسية. السياسة على الطريقة الاخوانية إذا كان من المؤكد ان السياسة كما عرفتها مصر ومارستها الأحزاب في الستينات والسبعينات لم تعد هي نفسها السياسة التي تعرفها مصر والعالم الآن، فالعمل الحزبي لم يعد يعبر عن الولاء لنص ايديولوجي مغلق. فالسياسة الآن تمثل أولاً مؤسسات لتنمية المهارات والخبرات وليس بناء ستالينياً يفرض قواعد صارمة من "السمع والطاعة" بين الأعلى والأدنى. والسؤال: أين موقع الإخوان المسلمين من هذه المعادلة؟ في واقع الأمر اكتسبت خبرة الإخوان في العقدين الأخيرين من القرن الماضي سواء داخل النقابات أو البرلمان مهارات جديدة ساهمت في صوغ خطاب اخواني جديد تجاوز في الحقيقة ثنائية الفوضى واللاانتماء، التي تهيمن على الحياة السياسية، وذلك في اتجاه الربط السياسي بين ما هو فقهي وما هو اجتماعي وخدمي فاقتحم الاخوان الحقل السياسي. فخاضوا انتخابات 1984 و1987 التشريعية وحققوا نتائج طيبة، كما نجحوا ديموقراطياً في السيطرة على أكثر من نقابة مهنية طوال الثمانينات. واكتسب الاخوان خبرة جديدة انعكست بشكل مباشر على خطابهم السياسي وأصبحنا أمام صيغة جديدة تختلف عن اخوان العهد الملكي واخوان العهد الناصري أو الساداتي على السواء. فللمرة الأولى يخوض الاخوان معركة انتخابية وهم متحالفين مع تيار سياسي آخر، كما حدث في عام 1984، مع خصمهم التاريخي حزب الوفد 7 نواب، وأيضاً في عام 1987 حين شكلوا العمود الفقري لما عرف باسم "التحالف الإسلامي" 35 نائباً من أصل 60 نائباً. وعاد الاخوان وخاضوا تجربة الانتخابات مرة أخرى بعد استبعادهم الأمني والسياسي من انتخابات 1995 المعروفة بعدم نزاهتها وتجاوزاتها الكثيرة، فخاضوا انتخابات "الألفية الثالثة" في شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي وقدموا صيغة أكثر تطوراً من تلك التي قدموها في انتخابات 1987. وعلى رغم ان الاخوان غلب على تحركهم في العقدين الأخيرين العقل السياسي والخطاب السلمي، الا ان الفارق بين خطابهم في انتخابات 1987 وانتخابات 2000 يكمن في مدى الحدة التي واجه بها هذا الخطاب التوجهات الرسمية وبعض أسس الجمهورية المصرية. قدم الاخوان في انتخابات 1987 نسقاً كاملاً من الأفكار السياسية، وأيضاً حزمة موحدة من الشعارات الانتخابية، ونجحوا في تعبئة الشارع خلف شعار مركزي واحد: "الإسلام هو الحل" الذي رفعه التحالف الإسلامي بقيادة الإخوان اضافة الى حزب العمل والأحرار. بدا الإخوان في تلك الانتخابات على رغم هدوئهم الشديد ولغتهم المعتدلة في صورة من يتحدى الخطاب الرسمي بخطاب آخر له منظومته وأساليبه التعبوية الخاصة. وعلى عكس هذا الوضع جاءت الانتخابات الأخيرة التي بدا فيها الخطاب الدعاوي للإخوان وكأنه خرج من نصوص الدستور المصري. وعبر عن ذلك على سبيل المثال سيف الإسلام حسن البنا أحد المرشحين في القاهرة، حين ذكر ان مطلبه الأول هو "تطبيق الدستور المصري نصاً وروحاً". فمواد الدستور كفيلة بتحقيق كل ما يريده الشعب المصري. فمثلاً، المادة الثانية تنص على ان "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع". ويسحب الأمر نفسه على برنامج مأمون الهضيبي - نائب المرشد العام والناطق الرسمي باسم الجماعة -، إذ تركزت دعايته على معانٍ سياسية ترددها أحزاب المعارضة بل وبعض مرشحي الحزب الحاكم مثل: "تأكيد معاني الحرية في اطار ثوابت المجتمع وإلغاء القوانين المقيدة لها"، أو التأكيد على ان "غاية دعوتنا هي الإصلاح الحقيقي الشامل من خلال القنوات الدستورية والقانونية لإقامة شرع الله وفي ذلك صلاح الدنيا والدين". وعلى رغم ان الشعارات الإسلامية لم تغب عن دعاية الإخوان في هذه الانتخابات، إلا انها وخلافاً لانتخابات 1987 لم تحمل شعاراً مركزياً واحداً، كما انهم ظهروا بمظهر "المتسرب" داخل المجتمع وليس "المتحدي" لمنظومة قيمه وسلوكياته ونظامه القائم. كما غاب أيضاً شعار "الإسلام هو الحل" تقريباً من معظم الدوائر، وحين رفعه البعض بدا وكأنه اختيار فردي وليس اختياراً تنظيمياً. قد تكون هناك أسباب أمنية دفعت الإخوان الى تغيير استراتيجيتهم، الا ان المؤكد ان هناك تطوراً لحق بالخطاب الإخواني ودفعهم الى الانفتاح والتصالح مع المجتمع المصري ومع قوانينه ودستوره الجمهوري. والمفارقة الأبرز في الانتخابات الأخيرة ان تيار الإخوان الذي كثيراً ما يتهمه البعض بأنه "غير حداثي" كان الوحيد الذي فهم السياسة في المعركة الأخيرة بمعناها الحديث وحاول أن يربط بين القدرات المحلية للمرشحين وبين امكاناتهم السياسية، وهم جزء من المؤسسة السياسية الأحدث والأكثر تنظيماً بين كل القوى السياسية في مصر، وهم الذين وضعوا برامجهم على شبكات الانترنت ووجهوا رسائل منتظمة الى أنصارهم عبر الهاتف المحمول لمعرفة النتائج أول بأول وإشعار أنصارهم بأنهم طرف في المعركة الانتخابية من دون ان يحتاجوا لإغراق شوارع القاهرة بملصقاتهم الإيديولوجية. ومن هنا نجح الإخوان في الانتخابات الأخيرة في اثبات مهاراتهم وامكاناتهم التنظيمية بصورة لا تميل الى الاستعراض، بقدر ما حرصوا على ان "يتسربوا" بهدوء الى مجلس الشعب ويحصلوا على 17 مقعداً. فهم الآن أكبر كتلة معارضة في البرلمان لكونهم يمتلكون مؤسسة نجحت في تربية كوادر على قدر عال من التنظيم والموهبة السياسية في مواجهة الفوضى السائدة من المرشحين المعدومي الامكانات والتربية السياسية. * باحث في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في صحيفة الاهرام، القاهرة.