لا تحتاج اليزابيت بورغوس الفنزويلية، لأي جهد لتعود بالذاكرة الى فترة اعتقال زوجها الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه، قبل حوالى 30 سنة في بوليفيا، عندما كان ثائراً أممياً مقرباً من الزعيم الكوبي فيدل كاسترو ومقتنعاً بأن الثورة الكوبية قابلة للتعميم على دول اميركا اللاتينية. فمعايشتها تلك الحادثة، إضافة الى عملها الدؤوب المستمر حتى الآن، على جمع المعلومات والشهادات حول الحركات الثورية الأميركية اللاتينية ابقياها على التصاق بكل ما تخلل هذه الحقبة من تفاصيل وأيضاً بالشخصيات التي كانت فاعلة في إطارها. وعندما نشرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية حديثاً، مضمون البرنامج الوثائقي الذي عرضه التلفزيون السويدي، متهماً دوبريه بخيانة تشي غيفارا والتسبب بسقوطه في ايدي القوات البوليفية، بادرت على الفور الى الرد على ما اعتبرته عملية "ظلم وافتراء". وبخلاف دوبريه نفسه، الذي التزم الصمت ورفض الرد على أي من الصحف الفرنسية والدولية التي حاولت الحصول منه على رد فعل بشأن ما ساقه ضده التلفزيون السويدي، في اعتبار أنه لا داعي للخوض في جدل حول فترة "ماتت" بالنسبة إليه، اعتبرت بورغوس إنها في موقع يسمح لها بتصحيح الخطأ الذي تم ارتكابه. وفصّلت بورغوس، في لقاء أجرته معها "الحياة" موقفها من هذه القضية، استناداً لما عاشته وعرفته، مستبعدة ان يكون أياً من دوبريه أو الثائر الأرجنتيني سيروبوستوس الذي اعتقل برفقته، أوقع بغيفارا، وأن "قول عكس ذلك يعبر عن جهل مطلق للواقع". فهناك من جهة أولى التواريخ المدونة والمعروفة من الجميع، إذ إن دوبريه وبوستوس اعتقلا في 19 نيسان ابريل سنة 1967، في حين أن غيفارا اعتقل في تشرين الأول اكتوبر من السنة نفسها، فلو أن أحدهما أوقع به لم كانت القوات البوليفية تريثت أكثر من ستة أشهر لوضع يدها عليه. وهناك من جهة ثانية طبيعة المنطقة التي كان يتحرك فيها غيفارا، وهي الغابات البوليفية، فكيف يمكن الإرشاد الى مكان وجوده، علماً بأنه هو نفسه لم يكن قادراً على تحديد هذا المكان، ولم يكن له مخبأ ثابت أو عنوان ثابت. وتؤكد بورغوس ان السلطات البوليفية أبلغت بوجود غيفارا على أراضيها في 24 تشرين الثاني نوفمبر 1966، وفقاً لما صرح به قائد القوات المسلحة البوليفية في حينه الجنرال اوبندو، لصحيفة "دياريو" البوليفية. وأعيد تأكيد هذه المعلومات للجيش البوليفي من قبل اثنين من الثوار الفارين في آذار مارس 1967، إضافة الى أن الاستخبارات الأميركية كانت على علم بتحركات غيفارا، ولم تكن تنتظر اي معلومات يدلي بها دوبريه أوبوستوس، وهذا ما أقر به لاحقاً وزير داخلية بوليفيا في حينه، انطونيو الميراس. فتحميل دوبريه اليوم، وعلى مدى السنوات السابقة بوستوس، المسؤولية عن اعتقاله وتصفيته في اليوم التالي، تعتبره بورغوس "سخيف ومثير للسخرية". فالمسؤول عما حل بغيفارا، برأيها هو "غيفارا نفسه" فهو "أدرج حياته ونشاطه ضمن إطار العمل العسكري والاعتقال والموت في مثل هذه الحال يبدو منطقياً". وفي إطار حرصها على الموضوعية التاريخية، تصر بورغوس على تبرئة دوبريه، ولا تسعى لرد التهمة الى بوستوس الذي استغل التلفزيون السويدي المقابلة التي أجراها معه لتوجيه الأنظار نحو المفكر الفرنسي وإثارة الريبة حول سلوكه كمعتقل. فالمأخذ الوحيد على بوستوس هو على حد قولها "أخلاقي وليس امنياً"، إذ إنه زود القوات البوليفية برسومات أرشدتها الى مغاور كان يعرف ان وثائق وأسلحة وأدوية كانت مخبأة بداخلها. وفور وقوعه في الاعتقال أبدى مرونة لم يبدها دوبريه، وبرز ذلك بوضوح عبر شروط اعتقال كل منهما، إذ ان زوجة بوستوس كانت تزوره متى شاءت في سجن كالميري، "ولم تكن بحاجة مثلي" تقول بورغوس للذهاب الى لاباز عاصمة بوليفيا للحصول على إذن بالزيارة غالباً ما كان يرفض لدى وصولها الى مقر السجن. كما أن مدة الزيارات لم تكن نفسها وكذلك المعاملة، فدوبريه بقي يتعرض للضرب من قبل الجنود البوليفيين، حتى بعد صدور الحكم عليه بالسجن لمدة 30 سنة، أما بوستوس فلم يضرب. أمضى دوبريه وبوستوس اللذين لم تكن تربطهما أي علاقة قبل اعتقالهما أربع سنوات في كالميري قبل إطلاق سراحهما وتوجههما الى تشيلي، من ثم ذهب كل منهما في طريقه. انتقل بوستوس الى بلاده، الأرجنتين حتى الانقلاب العسكري الذي اضطره للجوء الى السويد حيث يقيم حتى اليوم، بينما عاد دوبريه الى فرنسا وتفرغ لكتاباته التي جعلت منه أحد أبرز المفكرين المعاصرين. حاول دوبريه عدم الانقطاع عن السياسة، فاقترب من الاشتراكيين الفرنسيين وعين مستشاراً رئاسياً في بداية عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، لكنه سرعان ما فضل الابتعاد من دوائر الحكم، والاكتفاء بالنشاط الفكري. والمسافة الزمنية التي تفصل بين ثائر الأمس ومفكر اليوم، ليست كافية للحؤول دون تصفية الحسابات. وتقول بورغوس ان خيبة امل دوبريه حيال كاسترو بلغت ذروتها لدى إعدامه الجنرالين في الجيش الكوبي، ارماندو اونشوا وأنطونيو ديلاغوارديا، سنة 1989، بتهمة التجارة بالمخدرات. وعبر دوبريه عن هذه الخيبة في الكتاب الذي أصدره مطلع التسعينات ويحمل عنوان "فليتمجد أسيادنا" وضمنه وصفاً نقدياً للملامح الشخصية لكاسترو، معتبراً أنه خان الثورة. هذا الوصف أثار استياء الزعيم الكوبي وجعله يسعى، وفقاً لبورغوس الى إيذاء دوبريه في المكان الأكثر إثارة للألم. المحاولة الأولى في هذا الإطار تمت في كوبا مباشرة، حين طلب من ابنة غيفارا التوجه في جولة الى اميركا اللاتينية، وتدلي بتصاريح متعددة تقول فيها إن دوبريه هو المسؤول عن مقتل والدها. وتعتبر بورغوس انه في ظل المصاعب المتعددة التي تواجهها كوبا اليوم، فإن غيفارا هو الشخصية الوحيدة التي ما زال ممكناً للكوبيين تصديرها واستغلالها في الخارج. ومن هذا المنطلق فإنها لم تستغرب أبداً تجدد الحملة ضد دوبريه، انطلاقاً من السويد حيث يحظى النظام الكوبي بقدر كبير من التأييد على الصعيدين الشعبي والرسمي، واعتمد في إطارها على ما وصفته "بالضحية المثالية" أي بوستوس. فهو اليوم، وفقاً لما بدا عليه التلفزيون السويدي شخص مهمش، مسن وفقير، عاجز عن بيع اللوحات التي يرسمها لأن بيعها يحرمه من التقديمات التي يحصل عليها من الضمان الاجتماعي السويدي، حمل طوال سنوات تهمة الخيانة من دون ان يسعى الى تكذيبها لكنه يكتفي الآن بمطالبة المؤرخين بإنصافه. لكن بورغوس تتساءل، لماذا لا تذكر العلاقة الوثيقة التي تربط بوستوس بوزير الداخلية الكوبي الحالي كولوميبار، وهو جنرال كان شارك بدوره في حرب العصابات وعلاقته ببوستوس تعود لتلك الفترة. تقول بورغوس كل هذا، بهدوء بالغ خال من أي شعور بالحقد، بل العكس فهي ربما تتفهم ما يحصل لأنه "من الصعب على بعض من عاشوا فترات تاريخية حافلة أن يلتفتوا الى واقعهم الحالي وما طرأ عليه من متغيرات".