لو أن احكام الاعدام كان منصوصاً عليها في القانون الجنائي البوليفي، لكان ريجيس ديبريه، المثقف الفرنسي الذي أصبح في تلك الأيام اسطورة، أصبح في عداد شهداء الحركة الثورية في اميركا اللاتينية. بدلاً من ان يحكم عليه بالإعدام، اذن، حكم بالسجن ثلاثين سنة، من قبل المحكمة العسكرية التي عقدت لمحاكمته في مدينة كاميري. صدر الحكم في مثل هذا اليوم من العام 1967، اي بعد أربعين يوماً من مقتل ارنستو غيفارا، صديقه الذي كان أتى أصلاً الى بوليفيا لمؤازرته في "البؤرة الثورية" التي أقامها هناك. وحتى لئن كانت المحكمة العسكرية عجزت عن العثور على ما يثبت، حقاً "تورط" ريجيس ديبريه في العمل العسكري الى جانب غيفارا وثواره، فإنه كان من الواضح، محلياً وعالمياً، ان العلاقة بين ديبريه وغيفارا وثيقة. ويقينا ان السلطات البوليفية، حين اعتقلت ديبريه، قبل ذلك بنصف عام تقريباً، كانت تفضل لو أنه قتل خلال القبض عليه، كما سيكون مصير غيفارا، لأن شخصية من نوع ديبريه، ذات سمعة عالمية، ولها دولة - فرنسا - يمكن ان تدافع عنها، كان اعتقالها يشكل ورطة، أين منها القتل. ولكن كان من حظ ديبريه انه اعتقل. أما الحكم عليه بالسجن ثلاثين عاماً، فإنه لن يكون كارثة كبرى، لأن العلاقات الدولية سرعان ما ستلعب لعبتها، وسيطلق سراحه ليتحول الى اسطورة بعد ذلك. غير ان هذه حكاية اخرى بالطبع. في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1967، كانت الحكاية الأساسية حكاية الحكم على ريجيس ديبريه بالسجن، وكان غيفارا كتب عنه يوم 3 تشرين الأول اكتوبر الفائت، واحداً من آخر النصوص التي خلّفها بعد رحليه، ويقول فيه "لقد سمع الكثيرون ديبريه وهو يجيب، بكل شجاعة، على تلميذ حاول استفزازه، خلال المحاكمة". غير ان ما لم يكتبه أو يعرفه غيفارا كان أمراً أهم من هذا: إن من تولى التحقيق مع المثقف الفرنسي خلال الشهور التي فصلت بين اعتقاله نيسان - ابريل - 1967، وتشرين الثاني - اكتوبر من العام نفسه إضافة الى رجال التحقيق البوليفيين، شخصان أولهما ادواردو كونزاليس، ضابط الاستخبارات المركزية الاميركية المعروف، وكلاوس باربي، النازي المسؤول عن مقتل العديد من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، والذي كان يعيش في الخفاء في ذلك الحين، وبالكاد يعرف عنه أحد أنه حي. حكاية باربي لن تندلع الا بعد ذلك بزمن. وستطالب به السلطات الفرنسية فتحصل عليه وتحاكمه وتشغل محاكمته الرأي العام الفرنسي برمته سنوات طويلة. اما في ذلك فحين فكان باربي مجرد متعاون مع السلطات القمعية البوليفية من ناحية، ومع ال"سي.آي.إي" من ناحية ثانية، وهو ضمن ذلك الإطار لعب دوراً كبيراً في استجواب ديبريه وفي "اقناع" المحكمة بأنه "مذنب". نذكر هنا ان هذا النوع من التحقيق لم يكن كل ما تعر ض له ديبريه خلال محاكمته. فهو، لئن كان قد نجا من الحكم بالاعدام، ومن القتل قبل ذلك، فإنه لم ينج من الضرب المبرح والضغوط النفسية التي مورست ضده، ولا من الاعدامات المزعومة التي كان يوعد بها من قبل جلاديه. ولقد حدث ذات مرة ان توجهت مجموعة كبيرة من المثقفين لمساندته، لكنها - أي المجموعة - فوجئت بالسلطات تعلن انه قد مات. وخيل الى الجميع انه مات فعلاً، وأسقط في يد المدافعين عنه من المثقفين، غير ان صحيفة "بريزنسيا" نشرت صورته الملتقطة حديثاً والتي تثبت انه حي، فعاد الأمل من جديد يراود المدافعين عنه. مهما يكن فإن أوراق ديبريه كلها ومفكرته كانت قد صودرت وقدمت الى المحكمة بوصفها تشكل دليلاً ضده. نذكر ان ديبريه حين اعتقل يوم 20 نيسان ابريل، كان يعبر مدينة ميوبامبا ضمن اطار نشاط يدور من حول بؤرة غيفارا الثورة هناك، وكان يرافقه الارجنتيني تشيرو روبرتو بوستوس والصحافي جورج اندرو روث الذي كان أجرى حواراً طويلاً مع غيفارا قبل يومين. بوستوس، فور القبض عليه اعترف ورسم صوراً لمقاتلين، اما ديبريه فإنه لفر ض ما ضُرب حيث اعتقاله، وقع في غيبوبة طويلة، آفاق منها ليجد نفسه محاطاً بعملاء وكالة الاستخبارات المركزية الذين لم يتوقفوا عن طرح الأسئلة عليه، حتى صدور الحكم بسجنه، بعد ذلك بشهور. الصورة: ريجيس ديبريه، انضم الى غيفارا فاعتقله البوليفيون.