"الشعر وانتفاضة الأرض المحتلة" كان - وما زال - عنواناً لمناقشات عدة في الأسابيع الأخيرة، جرت وتجري في المقاهي والندوات واللقاءات في مصر والبلاد العربية، وهي تدور حول اسئلة من نوع: هل الاستجابة للحدث الساخن تنتج شعراً جميلاًَ؟ ما هي القيمة الفنية للشعر الذي واكب ويواكب انتفاضة الأرض المحتلة؟ ولماذا لم يكتب شعراء الحداثة - المصريون والعرب - شعراً يتصل بثورة القدس المشتعلة منذ أسابيع؟ ألم يهتز هؤلاء الشعراء لدماء الشهداء التي تراق كل يوم في فلسطين؟ شارك بعض شعراء الحداثة المصريين في طرح أسئلة حول علاقة الشعر بالانتفاضة عبر تصريحات في تحقيقات صحافية متنوعة. وعلى رغم أن بعض هذه التحقيقات كان خبيث الغرض - إذ يسعى إلى تصوير شعراء الحداثة المصريين على أنهم ذوو دم بارد لا يتأثر بدماء الأطفال المراقة يومياً - إلا أن إجابات الكثر من الشعراء وجميعهم زملاء واصدقاء كانت تشجع على تكوين هذه الصورة المغلوطة لشعراء الحداثة، بما انطوت عليه من آراء غير صحيحة، تسيء إليهم وإلى الحداثة، وإلى الحدث، جميعاً. خلاصة تصريحات الشعراء تتركز في أن الشاعر الحداثي مضاد للتقرير والمباشرة والتحريض الفج، وأن الشعر الناتج عن الحدث هو شعر خطابي زاعق، يزول بزوال الحدث فلا يبقى في ذاكرة الشعر. بينما الشعر الحقيقي يتطلب التروي حتى يتفاعل الشاعر مع الحدث، ليخرج شعر رفيع. وبوصفي واحداً من شعراء الحداثة المصريين والعرب الذين أشارت إليهم تلك التحقيقات الخبيثة، وإن لم أشترك فيها فرأيت من واجبي أن أقدم على هامش تلك الحوارات الساخنة في واقعنا الثقافي الراهن، بعض الايضاحات والملاحظات والآراء الأساسية، لعلها تسهم في رفع سوء الفهم عن شعراء الحداثة، وعن الحداثة، وعن الحدث، على السواء. ينبغي - بداية - أن نعيد التأكيد على أن شعر الحداثة غير المتصل بحدث مباشر أو قضية مشتعلة ضاغطة هو شعر ناضج بالموقف السياسي والوطني والاجتماعي والإنساني، على غير ما يظن الكثر، ونظراً لأن هذا الموقف يتجلى في شعر الحداثة عبر تشكيلات فنية وتصويرية ولغوية تجديدية مغايرة للسائد المألوف، فإنه لا يظهر مباشراً ساطعاً مبذولاً. إنه لا يترجرج عارياً على سطح القصيدة، بل يكمن غائراً في عمقها، ولذا فإن القراء أو النقاد الذين ينتظرونه عائماً على السطح، يتصورون أنه غير موجود، وأن الحداثة بعيدة من نبض الواقع المضطرم. إن ذلك المنهج الجمالي التجديدي التجريبي المغاير عند شعراء الحداثة لم يمنعهم من الاستجابة للأحداث الوطنية أو الاجتماعية التي مرت فيها البلاد، ولا من الانفعال بالمتغيرات العاصفة التي طرأت على الوطن: مثل الانفتاح الاقتصادي، واستبداد أنور السادات، وانتفاضة الخبز في مصر 18 - 19 كانون الثاني - يناير 1977 ومقتل السادات، وحصار بيروت، وحرب الخليج الثانية العراق - الكويت - أميركا. وأجدني مضطراً إلى التذكير بديوان حسن طلب "لا نيل إلا النيل"، وقصيدة "الخراب الجميل" لعبد المنعم رمضان، وديوان محمد سليمان "سليمان الملك" وديواني "سيرة بيروت"، كمجرد أمثلة. ولعلي أذكر بالعدد الخاص، التاسع من مجلة "إضاءة 77" الذي خصص للقصائد التي كتبها الحداثيون عن حصار إسرائيل للمقاومة الفلسطينية واللبنانية في 1982. الخلاصة، هنا، أن شعراء الحداثة في مصر والبلاد العربية لا يتوانون - بعضهم أو معظمهم - عن كتابة قصائد "موجهة" إلى بعض الأحداث والقضايا، إذا دعا الداعي، ويتفاوت - بعد ذلك - نصيب كل شاعر من المستوى الفني الجمالي في "نصه الموجه": هناك من ينتج نصاً ضعيفاً مباشراً ملتصقاً بالشعار أو الحادثة، وهناك من ينتج نصاً جميلاً عالياً يحول "الشعار" إلى "شعر" ويحول "الحادثة" إلى "حداثة". ليست المباشرة - في ذاتها، وعلى طول الخط - عيباً أو شتيمة، إذ يمكن أن تلعب المباشرة دوراً جمالياً في سياق قصيدة غير مباشرة، وحينئذ يصبح مثل هذا الدور عميقاً مركباً. ويمكن أن يرتفع الشاعر بهذه المباشرة إلى مستوى من "البساطة" الرفيعة النادرة، وهنا تصبح سعياً أصعب من السعي الى التعقيد والتعميق والتركيب. وكما أن القدماء قالوا: "إن الأدب الحق هو: تصغير الأشياء الكبيرة أو تكبير الأشياء الصغيرة"، فيمكننا - جرياً على هذه القاعدة - القول إن "الأدب الحق هو: تعقيد القضايا البسيطة، أو تبسيط القضايا المعقدة". وعليه: فإن القصيدة المباشرة - إذا كانت جميلة - هي نوع من "تبسيط القضايا المعقدة"، وهو نوع ليس سهلاً - كما يتوهم المتساهلون - بل إن له تحديه الخاص ومشقته المميزة. وإذا انزلقنا إلى الاعتقاد بأن المباشرة هي - في ذاتها، وعلى طول الخط - عيب أو شتيمة، وقعنا في جريرة حذف الأغاني والحكايات الشعبية، والمواويل والموشحات والأزجال من "خانة الفن"، وهي جريرة تقارب الجريمة. الفن متعدد الأدوار والمستويات والمهمات. وقد يقوم فنان بدور ويقوم فنان آخر بدور آخر، بل قد يقوم الفنان الواحد الشاعر مثلاً بإنتاج نصوص مختلفة الأدوار، متعددة المهمات. الحداثة ليست وصفة حديد جاهزة جامدة، لكل زمان ومكان ولا ينبغي أن يحيد عنها الشاعر، وإلا خرج من جنة الحداثة الوارفة. الحداثة هي أن يكون الشاعر نفسه، والشاعر الحداثي ليس مرتبطاً "بزواج كاثوليكي" مع الحداثة، وليس مديناً لها بشيكات على بياض. الشاعر ليس موظفاً عند الحداثة، بل الحداثة هي "الموظفة" عند الشاعر. والأهم من ذلك كله أن الحداثة لا تتناقض مع "الحدث" تناقضاً طبيعياً مبدئياً. ولعل الوضع الصحيح هو العكس: الحداثة مشتقة من الحدث، لغوياً واقعياً. ومن ثم، فإن التناقض الرئيسي ليس بين الحداثة و"الحدث"، بل بين "الحداثة" و"التقليد الجامد الساكن"، سواء أكان هذا التقليد الجامد الساكن تجسيداً لحدث خارجي أو تجسيداً لحدث داخلي. الخلاصة، هنا، أن التوجه إلى "الذات الداخلية" ليس ضامناً، بالحتم، قصيدة جميلة. كما أن التوجه إلى "الموضوع الخارجي" ليس منتجاً، بالحتم، قصيدة رديئة. ولست في حاجة إلى سوق أمثلة عدة على الشعر "الداخلي" الركيك، والشعر "الخارجي" البديع. كما أنني في غنى عن الدخول في الزاوية الفلسفية للأمر، متسائلاً: هل هناك "خارج" صاف غير ملوث "بالداخل"؟ وهل هناك "داخل" صاف غير ملوث بالخارج؟ وفي صيغة أخرى: هل "الذات" نظيفة تماماً من "الموضوع"، وهل "الموضوع" نظيف تماماً من"الذات"؟ أريد أن أقول إن المعول في التوجهين - الخارجي والداخلي - هو على الشاعر نفسه: على قدرة المبدع فيه على تجاوز الأفق الوقائعي العابر للواقعة الخارجية في التوجه الأول، وعلى قدرة المبدع فيه على تجاوز الفردية المحدودة للذات الداخلية في التوجه الثاني، وعلى قدرة المبدع فيه في التوجهين جميعاً على امتلاك أدواته الفنية وتسخيرها لتقديم تجربة شعرية وشعورية، متطورة ومتجددة. أما الحداثة الحقة - حداثة التنوع لا الواحدية، وحداثة الحرية لا الاستبداد - فإنها تتسع لشتى الأشكال والأساليب المختلفة التي طالما تحققت فيها الشروط الثلاثة الجوهرية: الصدق، الانحراف عن المصدر، التجديد. ليس "الحدث" هو المسؤول عن رداءة الشعر الذي كتب عنه، وإنما المسؤول هو الشاعر الرديء صاحب النص الرديء. إن حصار تل الزعتر عام 1975 كان مصدراً لقصيدة "أحمد الزعتر" لمحمود درويش، وهي قصيدة رائعة، مثلما كان مصدراً لمئات القصائد الركيكة. وغزو إسرائيل لبيروت عام 1982 كان مصدراً لقصائد ديوان "مريم تأتي" لسعدي يوسف، وهي قصائد جميلة، كما كان مصدراً لمئات القصائد الركيكة. وانتفاضة الأرض المحتلة الراهنة كانت - ولا تزال - مصدراً للقصائد العالية القليلة وللقصائد الهابطة الكثيرة، على السواء. ومعنى ذلك أن عظمة الحدث في ذاته، لا تخلق - بالضرورة - شعراً عظيماً، كما أن "وقتية" الحدث لا تخلق - بالضرورة - شعراً زائلاً. والشعراء الذين يفسرون رداءة الشعر بطبيعة الحدث الساخنة إنما يختبئون وراء الحدث لمداراة ضعف الموهبة. ولذا فإن الحدث، إذاً، بريء من ركاكة ما يُكتب عنه من شعر، والشاعر الحق هو الذي يستطيع تحويل الحدث "العام" - كانتفاضة الحجارة في فلسطين - إلى همّ "شخصي". والشاهد أن كل واقعة - صغيرة أو كبيرة - يمر بها الشاعر في حياته العامة أو الخاصة، هي "حدث". إن هجر الحبيبة لشاعرها حدث، وموت والد الشاعر حدث، ورحيل صديق الشاعر حدث، ومرض والدة الشاعر حدث. والشاعر حينما يكتب عن كل ذلك، فإنما يكتب عن "أحداث". ومن ثم فإن رفض شاعر حداثي الكتابة عن "حدث انتفاضة الأرض المحتلة"، لا يرجع إلى رفض الكتابة عن الحدث كحدث، وإنما يرجع إلى رفض الكتابة عن حدث بعينه - هو الحدث القومي أو الوطني - من دون حدث آخر، هو الحدث غير القومي أو الوطني. وهنا يغدو الأمر، مسألة "ايديولوجيا" لا مسألة "حدث" ولا مسألة "حداثة". الحداثة - إذاً - لا تتعالى على الحدث، مهما كان كبيراً أو صغيراً، قومياً أو شخصياً. ولا تتعالى على دم الأطفال والشهداء، ولا على أي دم. وزملائي الذين أعطوا - بتصريحاتهم الغريبة - انطباعاً بأن الحداثة متعالية على الأحداث والشهداء، إنما يقدمون صورة ضيقة متحجرة للحداثة، تقترب من "الدوغما" التي يحاربونها ويذمّونها آناء الليل وأطراف النهار. كما أن اعتقادهم بأن الكتابة عن الحدث لا تعيش بعده، يعني أنهم يفترضون أن القصائد التي نكتبها بعيدة عن "الحدث" هي قصائد خالدة، لن تزول إلى أبد الآبدين. وعندي أن مثل هذا الافتراض هو افتراض مفرط في التفاؤل، فضلاً عن أنه وهمي. ذلك أن القصائد الحداثية غير المجدة لأي حدث لن تعيش برهة واحدة، إذا لم تكن قصائد جميلة مميزة، فنياً وفكرياً وحضارياً. وآية ذلك أن الحداثة ليست في ذاتها ضمان الجودة، كما أن الحدث ليس في ذاته، ضمان الرداءة، الضمان الوحيد - في هذه وتلك - هو كفاية الشاعر وموهبته. وكم من القصائد الحداثية: ضعيفة ومصطنعة وهابطة، على رغم ابتعادها عن "الحدث"! إن انتفاضة الحجارة في الأرض المحتلة تستحق - كحدث - منظوراً عميقاً جديداً للتأمل. فإذا تأملناها من ذلك المنظور سنجدها - كحدث - حافلة بالكثير من عناصر "الحداثة" المبهرة: أطفال - لا رجال - يحاربون دولة تملك الصواريخ والدبابات والردع النووي. أسلحتهم في تلك الحرب هي الطوب والحجر والنبلة والمقلاع. أطفال يخرجون كل صباح للحرب، وقد وضع كل طفل في جيبه قصاصة ورق عليها اسمه ورقم بيته وعنوان أهله، حتى إذا تم استشهاده المتوقع استطاع زملاؤه الاستدلال عليه وإعادته إلى أهله جثة مثقوبة. صورة تلتقطها كاميرا تفعل ما لم تفعله وزارات الإعلام والخارجية والحربية في البلاد العربية مجتمعة. شعب يؤدي مشهدين اثنين لا ثالث لهما كل يوم: في الصباح أطفال يرمون الحجارة، وفي المساء جموع تشيع شهيداً ملفوفاً في علم أخضر في أحمر في أبيض. إن هذه العناصر الحافلة بتشوه النسب والأحجام الطبيعية، والمفارقة، واللاتقليدية، والابتكار، وجبروت اليأس، والسريالية، وتمجيد الفقد والخسارة، كلها عناصر "حداثية" لا ريب فيها. ولذلك فإن "انتفاضة الحجارة" هي "فعل حداثي" بامتياز. وهنا، تذوب المسافة بين "الحداثة" و"الحدث"، ميدانياً، ويصبح الكلام عن "فاصل" بينهما ترفاً نظرياً ممجوجاً، أو غطاء لضعف الموهبة الشعرية، أو تجسيداً لخلل جذري في فهم "الحدث" و"الحداثة" كليهما، أو قناعاً لأيديولوجية شوفينية إقليمية منغلقة. وفي ضوء ذلك كله، أناشد أصدقائي الشعراء: ليس من الأمانة أن نظلم الحدث، وهو بريء. وليس من الأمانة أن نظلم الحداثة، وهي بريئة. المحك الوحيد هو "شعريتنا" التي تستطيع أن تجعل الحدث حداثة والحداثة حدثاً، بقليل من إعلاء الحدث عن الواقع، وبقليل من إنزال الحداثة إلى الواقع. وإذا فشلنا فلا ينبغي أن نلوم إلا شاعريتنا الفقيرة. * كاتب مصري.