المغالطات أو سوء فهم حقيقة الأوضاع في اسرائيل نجدها لدى عدد كبير من المعلقين السياسيين الذين يسيئون فهم طبيعة "العلاقة الخاصة" بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل، على سبيل المثال. وتصل المبالغة أو سوء الفهم عند هؤلاء، وهم مع الأسف باتوا يشكلون التيار السائد في إعلامنا، الى حد الزعم ان السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ترسم في إسرائيل. لعل "العلاقة الخاصة" الأميركية - الإسرائيلية تستلزم نوعاً من الدراسة المتأنية والموضوعية، حتى لا نقع، تحت تأثير الحماسة العاطفية، في أخطاء فادحة تجنبنا رؤية الحقيقة. استلزمت مجموعة المصالح الأميركية - الإسرائيلية نوعاً من "العلاقة الخاصة". فقد ارتضت إسرائيل بنوع من التبعية للولايات المتحدة نظراً لحاجتها الماسة الى مساعداتها الاقتصادية والعسكرية ودعمها الدولي، في مقابل أن تقدم بدورها "خدمات متنوعة" ترتبط مباشرة بمصالح أميركا والغرب في المنطقة. من نافلة القول إن هذه العلاقة "الفريدة" و"الخاصة" أعقد وأكثر تشابكاً بكثير من وصفها أو تحليلها بكلمات قليلة. لكن بعض المصادر الموضوعية والمناقشات المهمة تتيح لنا أن نرسم اطاراً صحيحاً لهذه العلاقة، وبالتالي أن نضع أسساً صحيحة للتعامل مع كل من إسرائيل والولاياتالمتحدة، من خلال الفهم الصحيح للعلاقة بينهما. تقول دراسة استراتيجية أميركية رسمية: "إن إسرائيل مؤسسة عسكرية متطورة وقدرة أمنية جيدة. وهي ذخروسند استراتيجي لأميركا. فهي تقع على مقربة من الجناح الجنوبي لحلف "الناتو"... وعلى مقربة من المصادر النفطية في الخليج. ويوجد لدى إسرائيل موانئ وقواعد بحرية جيدة ونظام اتصالات ومواصلات متطور للغاية، إضافة الى قاعدة صناعية تقنية تفيد في صيانة المعدات العسكرية الأميركية، فضلاً عن امكانات استخبارية قادرة على تقديم مساعدة لمهمات عسكرية أميركية". هناك عشرات المصادر الأكاديمية الأخرى التي بيّنت مدى أهمية إسرائيل في سياسة أميركا في المنطقة وما تستطيع أن تقوم به من "دور" مرسوم. وهذا الدور مدفوع الثمن، ولا علاقة له ب"محبة" إسرائيل أو يهودها في الولاياتالمتحدة. وهذا ما كشف عنه بكل جلاء المحلل والسياسي الأميركي وليام كوانت حين قال في كتابه: "عقد من القرارات": "من الواضح تماماً أن الولاياتالمتحدة لا تنفق بلايين الدولارات على المساعدة العسكرية والاقتصادية لمجرد الشعور بالالتزام الاخلاقي تجاه إسرائيل، أو بسبب ضغط اثنين في المائة من سكانها. لا بد ان هناك شيئاً أكثر مادية وواقعية في الرهان، وهو ان إسرائيل ينبغي ان تكون مصدر قوة لأميركا. وبناء على هذا المفهوم - والكلام لا يزال لكوانت - تعتبر إسرائيل الحليف الوحيد الذي تعتمد عليه الولاياتالمتحدة في المنطقة. ففي أسوأ الحالات تستطيع اسرائيل استخدام قوتها العسكرية لحماية مصالح أميركا الى درجة انها قد تقدم القواعد للعمليات العسكرية الأميركية". استوعب حكام إسرائيل الدور المطلوب منهم تماماً. وقد شرح شمعون بيريز هذا الدور وطريقة فهم إسرائيل له بكل وضوح في حديث خاص - وكان وزيراً للخارجية آنذاك - أدلى به الى صحيفة "واشنطن بوست" عام 1984. قال بيريز في حديثه إن الولاياتالمتحدة تحقق مزايا عدة من دعمها الواسع لإسرائيل. وضرب مثالاً على ذلك هزيمة الأنظمة الراديكالية العربية التي كانت موالية للسوفيات آنذاك وطرد منظمة التحرير من لبنان. وتساءل بيريز: "الا يخدم ذلك هيبة الولاياتالمتحدة ومصالحها؟!". ويتوجه بيريز بعد ذلك بخطابه الى صانعي السياسة والرأي العام في أميركا متسائلاً: "هل تريدون اسرائيل منضبطة مع اشتراك قوات أميركية مباشرة في عمليات عسكرية في الشرق الأوسط، أم تريدون اسرائيل مستقلة وبالتالي تبدو أحياناً غير منضبطة؟!" أي تتمتع بهامش من "الفلتان" يجعلها تبدو وكأنها تخرج على الارادة الأميركية! ويكشف بيريز بعد ذلك عن طبيعة الدور الإسرائيلي في خدمة المصالح الأميركية من دون أي التباس فيقول: "لا بد من حرية العمل أي للإسرائيليين لأنكم لا تستطيعون الاقرار ببعض الأمور، وهي في عمق قلوبكم، وتعرفون أنه يتوجب علينا القيام بها"! إسرائيل اذاً، وبحسب كلمات بيريز نفسه، هي رجل أميركا في المنطقة... الرجل الذي يقوم بالمهمات الصعبة و"القدرة" التي لا ترغب الولاياتالمتحدة القيام بها مباشرة! هل يستطيع "الأجير" أن يرسم سياسة "المعلم"؟! ان التسليم بحقيقة "دور" إسرائيل كحارس للمصالح الأميركية بصورة خاصة، وللغرب بصورة عامة، في المنطقة تقودنا الى استطلاع حقيقة دور "اللوبي اليهودي" في الولاياتالمتحدة والذي تنسج حوله المبالغات التي تجعله أقرب الى الأساطير. ثمة مبالغة وسوء فهم كبير لدور اللوبي اليهودي وتأثيره في رسم سياسة أميركا الخارجية المتعلقة بالشرق الأوسط. من أجل فهم دور هذا اللوبي وحجمه الحقيقيين لا بد من استطلاع عوامل موضوعية عدة. وأول هذه العوامل أن هذا "اللوبي" يعمل في أجواء مشجعة ومتجاوبة معه أصلاً، خصوصاً على صعيد الاعلام. أما في كواليس صناعة القرار فهناك التزام أميركي راسخ، ينبع من مصالح الولاياتالمتحدة الدولية في المنطقة، بأمن إسرائيل وكيانها وقوتها العسكرية. وكان الرئيس الأميركي السابق ريغان أشار صراحة الى أن هذا الالتزام الراسخ بأمن إسرائيل وقوتها العسكرية قد تحول الى تقليد في السياسة الأميركية. من هذا المنطلق فإن اللوبي اليهودي هو عبارة عن جماعة ضغط صديقة وحليفة تعمل في اطار يخدم مصالح الولاياتالمتحدة العليا- وخصوصاً مصالحها في المنطقة العربية - ولا يتعارض معها. وعند تعارض المصالح الاستراتيجية الأميركية مع مصالح إسرائيل مرحلياً، كما حدث مرات عدة، كانت إسرائيل تحاول تحريك جماعة الضغط هذه. لكن اللوبي اليهودي كان يتجنب على الدوام ان يصل التعارض أو الانتقاد لبعض سياسات الادارات الأميركية في المنطقة الى حد المجابهة المكشوفة. وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر ان اللوبي اليهودي عارض بشدة إدارتي كارتر وريغان في عقدهما لصفقتي سلاح ضخمتين مع السعودية. ولكن عندما ادرك هذا اللوبي أن الادارتين المذكوريتين مصممتان على عقد الصفقتين لاعتبارات تتعلق بمصالح الولاياتالمتحدة الاقتصادية والسياسية، تراجع عن موقفه، واكتفى ببعض "الترضيات" التي قدمتها الادارتان المذكورتان. وتأتي هذه العوامل الموضوعية، ولعله أهمها، أن ما يسمى ب"النفوذ الصهيوني" هو في حقيقته نفوذ غير يهودي. أي ان هذا النفوذ لا تعود قوته ببساطة الى قوة يهود أميركا بقدر ما تعود الى قوة الصهيونية غير اليهودية أو ما يعرف أحياناً في الادبيات السياسية باسم "الصهيونية المسيحية". ولتوضيح ذلك أشير الى وجود ما لا يقل عن 250 جمعية مسيحية - يعود تاريخ تأسيس بعضها الى القرن الماضي- تتعاطف مع المسألة اليهودية. وهناك بعض الطوائف المسيحية "المعمدانية" تؤمن بأن عودة المسيح مرهونة بإقامة دولة اسرائيل. ومع هذا ينبغي ألا نبالغ بدور هذه الجمعيات، أو هذا التيار المتعاطف بمشاعره الدينية مع اليهود أو مع اسرائيل. ان الجانب الأقوى في هذه "الصهيونية المسيحية" - أو غير اليهودية - هو ذلك التيار النافذ الموجود داخل الكونغرس وداخل بعض دوائر صناعة القرار، والذي يؤيد اسرائيل من منطلق معاداة الشيوعية سابقاً، ومن منطلق المصالح الكونية للولايات المتحدة التي تعتبر إسرائيل "ضرورة استراتيجية". هذه "الصهيونية غير اليهودية" هي الحاضن الأساسي للنفوذ اليهودي، وهي التي تشجعه وتدعمه، بل وتعمل على ان يبدو وكأنه شيء لا يقاوم! وهذه الحقيقة لا تخفى على إسرائيل بالطبع، ولا تخفى على العارفين بحقائق الأمور من يهود أميركا. وقد اعترف أحد مسؤولي "لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية" ايباك - Aipac. كبرى جماعات الضغط اليهودي وأكثرها فاعلية في الولاياتالمتحدة بهذه الحقيقة بكل بساطة حين قال: "لا تكمن قوتنا في كوننا نتمتع بتنظيم عال، بل في التزام كثير من المسؤولين بإسرائيل. لدينا الكثير من الدعم غير اليهودي... ومن حسن الحظ اننا لا نعتمد على اليهود فقط، والا لكنا جسماً غير فاعل". ينبغي التأكيد اذاً على حقيقة موضوعية وهي ان العلاقات الوثيقة بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل لم يصنعها "النفوذ اليهودي"، بل صنعتها دوائر صنع القرار داخل الادارات الأميركية والتي وجدت وما تزال تجد في إسرائيل "كنزاً استراتيجياً" كما وصفها الرئيس ريغان. وبالتالي فإن ما يفسر العلاقات الاستراتيجية الخاصة هو منظومة المصالح بين البلدين، وليس نفوذ اللوبي اليهودي ولا "تصهين" بعض المسؤولين الأميركية كما يقول بعض المعلقين عندنا. ثمة اسطورة ثالثة تتعلق بالنفوذ اليهودي، تُحلق وتتماهى حتى تجعله نفوذاً يسيطر على العالم كله!!.. وأعني بها اسطورة المال اليهودي، وقوته الطاغية داخل الولاياتالمتحدة وخارجها!! ويكاد لا يمضي يوم واحد الا ويطالعنا معلق سياسي يؤكد لنا ان المال اليهودي يسيطر على جميع المقدرات الاقتصادية في أميركا وفي غير أميركا! من الخطأ بداية اعتبار اليهود الأميركيين كتلة اقتصادية واحدة، وأنهم جميعاً من فاحشي الثراء. فهم كأي طائفة أو أقلية موزعون على مختلف المهن والوظائف والاختصاصات. ولعل خير من شرح وضع يهود أميركا الاجتماعي والاقتصادي الكاتبة نعومي كوهين والتي قالت في دراسة أكاديمية لها: "لا يتمتع اليهود الأميركيون بقوة سياسية خاصة، وقد بولغ كثيراً في قوتهم الاقتصادية. صحيح انهم أصبحوا مجموعة ميسورة نسبياً، ولكن ذلك يعود الى تموضعهم في المدن، وانتمائهم الى أصحاب الياقات البيضاء... لقد لعبوا أدواراً مهمة في عالم الصناعات الخفيفة والمنتجات والخدمات الاستهلاكية، ولكنهم كانوا غائبين تماماً عن تطور الصناعة الثقيلة". ويشير المؤرخ اليهودي هوارد مورلي زاخر في كتابه المشهور: مجرى التاريخ اليهودي المعاصر الى أن يهود الولاياتالمتحدة لم يكونوا على صلة ذات شأن بالصناعات الرأسمالية الأساسية مثل الفحم والفولاذ، والنفط، والسيارات، والسفن ووسائل الاتصالات والطيران والصناعة العسكرية... وهي الصناعات التي انتجت ثروة أميركا الهائلة. الاسطورة الأخيرة التي ينبغي تبريرها هي ان نتصور يهود أميركا - وأحياناً يهود العالم - كأنهم كتلة واحدة متراصة متضامنة متكافلة. هذا الزعم مخالف لطبائع الأشياء ولطبيعة المجتمعات. صحيح ان هناك جانباً من يهود أميركا ينتظم في جمعيات اجتماعية أو سياسية، ويساهم في جمع التبرعات، ولكن الصحيح أيضاً أن الجانب الأعظم منهم غير مهتم بإسرائيل ولا تعني الصهيونية له شيئاً، بل لا تعنيه حتى اليهودية بمعنى أنهم غير متدينين أو لا دينيين. * كاتب سوري.