نشرت "الحياة" في عددها 12677 في 14 تشرين الثاني نوفمبر 1997 مقالاً للكاتب صقر أبو فخر بعنوان "سبعة أوهام عن اليهود: اللوبي اليهودي غير استثنائي" حاول فيه الكاتب اخضاع الكثير مما يتداول عن واقع اليهود والصهيونية للنقد. ولأن تناول كثير من الظواهر والقناعات السياسية والاجتماعية من منطلق ناقد متمعن هو تطور في ثقافتنا العربية نحو الأفضل، فقد كان الكاتب موفقاً في الهدف بصرف النظر عن صحة أو عدم صحة ما انتهى إليه، وبغض النظر عن نغمة متعالية كان من الأفضل لو تفاداها كوصفه لمن ينتقد رأيهم بأنهم "بعض الكتبة من السذج"! لكن هذا التعقيب ينحصر هدفه في ما ورد في المقال من علاقة إسرائيل بالغرب أو تفسير المساندة الأميركية لإسرائيل. فقد رفض الكاتب التهويل عن الحديث عن قوة مجموعة الضغط "اللوبي" الصهيونية، وأن هذه القوة تفسر الدعم الأميركي لإسرائيل. ولا خلاف مع الكاتب حول ذلك. غير أنه إذا كانت المبالغة في الحديث عن قوة هذه الجماعة مضللة، فإن التهوين من شأن النفوذ الصهيوني أو مقارنة حجم دوره وتأثيره بحجم دور وتأثير جماعات الضغط الأخرى عرقية كانت أو مهنية هو تهوين لا يتفق مع ما يعرفه أي مراقب متمعن للساحة السياسية في الولاياتالمتحدة الأميركية. لكن الأخطر في ما ورد في المقال بهذا الخصوص، في نظر كاتب هذه السطور، وما كان دافعاً لكتابة هذا التعقيب، هو تأكيده وعلى نحو مذهل من الجزم على أن إسرائيل رصيد استراتيجي للولايات المتحدة/ الغرب، وأنها دافعت أو تدافع عن المصالح الأميركية، وان ذلك يفسر الدعم الغربي لإسرائيل. ولم يتناول الكاتب هذا الرأي الذي يتردد كثيراً بنفس تناوله الناقد لما وصفه ب "الأوهام السبعة". أليس من المحتمل أن يكون هذا التصور هو أخطر وهم، بل اسطورة عن اليهود والصهيونية؟ أليست خطورة نتائج هذا الرأي سبباً كافياً لاخضاعه لنقد حازم؟ المؤسف ان الكاتب طرح هذه الفكرة الوهم؟ على شكل سرد لحالات أو قضايا تؤكد أن إسرائيل قدمت فيها للغرب خدمات استراتيجية الحرب الباردة، مقاومة القوى المعادية للغرب، المصالح البترولية... الخ، لكنه مجرد سرد لا يسبقه ولا يعقبه أي ربط بين الأسباب والنتائج أو اقناع بصحة العلاقة، بل كان عبارات تقريرية محضة متتالية تطرح استنتاجات معلقة في الهواء وعلى القارئ أن يقبلها. وبالقدر نفسه من التأكيد يستطيع أي شخص آخر ان يقول إنه في كل تلك الحالات كانت إسرائيل عبئاً على الغرب، من دون ان يجد القارئ سبباً لرفض أو قبول أي من الرأيين. الواقع ان هذا التفسير لاندفاع الغرب وراء السياسات الإسرائيلية يدافع عنها ويتستر على ممارسات تتسم بالفجور والاستفزاز، وعلى نحو لم تحظ به أية دولة، قد لقي من الرواج والقبول قدراً يكاد معه أن يعتبر من البديهيات. وليس من الصعوبة تحديد أسباب هذا القبول. فالمصالح كتفسير لسلوك أية دولة يبدوؤ منطقياً ومعقولاً ويتفق مع ما نعرفه عن القيم السياسية في المجال الدولي وعند الغرب بالذات، كما ان هذه النظرية تتفق مع المفهوم الاقتصادي ل "العقلانية" ومع الملامح الثقافية الأخرى للغرب في أذهاننا كالحيدة المهنية Professionalism والبراغماتية Pragmatism. وهناك سبب آخر مهم لرواج نظرية خدمة إسرائيل للمصالح الغربية، وهو ان التفسيرات الأخرى التي ترد بين آن وآخر تبدو أكثر هشاشة ازاء النظرة المتمعنة. فأصوات اليهود وهم أقلية صغيرة قد تؤثر ولكن في حدود دوائر معينة، والحديث عن نفوذ اللوبي الصهيوني وأذرعه الخفية والظاهرة لا يعطي تفسيراً لنجاحات هذا اللوبي والسهولة التي يحقق بها أهدافه. كذلك ساهم في رواج هذه النظرية ان العلاقة بين الغرب وإسرائيل فريدة في تاريخ العلاقات الدولية بقدر ما هي معقدة يتطلب فهمها فهم الغرب، كثقافته وعلاقته، تاريخياً بالجانبين أي المشرق العربي واليهودية، وهي جوانب غائبة عن التفكير السياسي لدينا. كما ساهم في رواح هذه النظرية ان بعض أطراف النزاع في ما يسمونه "الشرق الأوسط"، على رغم تناقض أهدافها، تجد في هذه النظرية خدمة لهذه الأهداف. فمصلحة الصهاينة والقوى المساندة لهم في هذه النظرية لا تحتاج إلى ايضاح، بل انهم المصدر الأول لهذه النظرية. ثم وخلال فترة الحرب الباردة تلقف خصوم الغرب هذه الفكرة ورددها وراءهم اليسار المراهق في البلاد العربية. ويرى اليمين المسيحي في الغرب في تلك النظرية خدمة لفهمهم الغوغائي لفكرة عودة المسيح. أما في أوساط الاكاديميين فقد استغل أصدقاء إسرائيل والعنصريون المقنعون ضحالة ما يعرفه الغرب عن المنطقة ومشاكلها فعملوا بدأب من خلال معاهد "الدراسات" ومراكز "الأبحاث" على تنظير أكثر حذقاً لهذه النظرية فوجد الاكاديميون أو معظمهم في ذلك ستراً لجهلهم بالمنطقة. * * * من المتداول في مجال الإدارة، ولكن بشكل أكثر في السياسة الدولية، ان هناك خطوتين أو وظيفتين لابد ان يمر بهما أي تقرير أو معلومة. الأولى هي تقويم مصداقية ودقة المعلومات وعدم تقاطعها مع معلومات أو قرائن اخرى. والثانية هي تحديد المغزى أو النتائج التي تترتب على هذا التقرير أو المعلومة او الاكتشاف. وهنا يحسن ان نبدأ بالخطوة الثانية، فعلى فرض صدق نظرية "خدمة اسرائيل للمصالح الغربية" فماذا يعني ذلك بالنسبة الى الخيارات المطروحة امام شعوب المشرق العربي؟ ان التسليم بهذه النظرية له نتيجة اساسية وخطيرة هي: انه لا أمل في تغيير الموقف الغربي، وان امامنا خيارين احلاهما مُر، ولا مفر من احدهما: اما علاقات صدام وتوتر مع الغرب الى ما شاء الله وفرز للأولويات على هذا الاساس، واما الخضوع والتسليم. ان فكرة لها مثل هذه النتائج يجب ان لا تلقى الرواج من دون اخضاعها لنقد صارم، اعني الوظيفة او الخطوة الأولى التي سبق الاشارة اليها: فما مصداقية ودقة مثل هذا التفسير لاستراتيجية الغرب في المنطقة؟ المشكلة ان من يتبنون هذه النظرية أو يرددونها يتوقفون عند مجرد ذكرها. فهم لا يشرحون كيف تتم هذه الحماية أو الخدمة للمصالح الغربية، بل اكثر من ذلك لا يرد اي تحديد للمقصود بكلمة "مصالح". فالمعروف ان هذا اللفظ، كما يتداوله الكثيرون، يعني المنافع الاقتصادية، بينما اللفظ الانكليزي "Interest" له معنى أوسع من ذلك بكثير عند الناطقين بالانكليزية. فهو يعني أي شيء يعتبر "موضع اهتمام" أو "أهمية". فبالنسبة الى الدول هناك مصالح استراتيجية - عسكرية ومصالح اقتصادية ومصالح سياسية/ ثقافية... الخ. وعلى رغم احتمال التداخل بين هذه الانواع من المصالح فانها ليست دائماً كذلك بل ان تحقيق بعضها قد يتناقض مع البعض الآخر في بعض الحالات. كذلك فإن من يرددون هذه النظرية لا يقدمون مثالاً لحالة أو وقت ظهر فيه دور اسرائيل في خدمة المصالح الغربية واضحاً. ولا نسمع أو نقرأ تحليلاً للكيفية التي تتم بها هذه الخدمة. انهم يرمون بالفكرة على القارئ كمعطى رياضي أو حقيقة فيزيائية. لذلك يحسن بنا ان نسلط الضوء على بعض الشواهد التي تتناقض على الاقل في ظاهرها مع نظرية خدمة اسرائيل للمصالح الغربية: أولاً: ان الاندفاع الذي يكاد يكون أعمى وراء كل الممارسات الاسرائيلية أو التستر عليها لا يمكن ان يخدم مصالح الغرب، بل ان العكس هو الصحيح فهو يحفر بعمق مشاعر قوية ضد الغرب بين شعوب المنطقة، وصناع القرار في الغرب يعرفون ذلك. ثانياً: انه حتى بعيد الحرب العالمية الثانية كانت التيارات المعادية للغرب متى وجدت هامشية ومحصورة ولا اثر لها في السياسات الخارجية. وحتى حركات التحرير أو مقاومة الاستعمار لم تتحول الى عداء للغرب، بل كان قادتها - على رغم رفضهم للسياسات الاستعمارية - ينظرون الى الغرب بقدر ظاهر من الاعجاب والتفاؤل، بل انه بالنسبة الى الولاياتالمتحدة كان الانطباع الشائع عنها انها تناصر الشعوب المستعمرة ضد المستعمر الاوروبي. وتغير كل ذلك في مسارٍ موازٍ للدعم الغربي لاسرائيل. كانت تداعيات هذا الدعم هي العامل الرئيسي في صعود التيارات المعادية للغرب، أياً كانت منطلقاتها الايديولوجية، والمساهمون في اتخاذ القرار في الغرب يدركون ذلك. ثالثاً: طبيعة التعامل بين اسرائيل والغرب وبالذات الولاياتالمتحدة والتي غالباً تبدو فيها اسرائيل وكأنها القوة العظمى، "ولي النعمة"، التي توجه وتسحب الطرف الآخر الى مواقفها وتلقن وتتحدى، احياناً بوقاحة. وتبدو الدولة الغربية وكأنها في موقف الضعيف الذي يساير عن عجز وليس عن قناعة. ان الامثلة والحقائق عن هذه الخاصية في تاريخ العلاقة بين الصهيونية والغرب يمكن ان تملأ صفحات كتاب مطول، فأي مصالح يمكن ان تخدم بمثل هذه العلاقة؟ رابعاً: في ما يتعلق بالولاياتالمتحدة وأميركا تمثل القيادة الغربية، كان هناك تمايز وأحياناً نزاع حاد فيما يتعلق باسرائيل بين وزارة الخارجية والديبلوماسيين المحترفين من جانب والسياسيين المحترفين في الكونقرس الأصح كتابتها بالقاف وليس بالجيم والأحزاب والطامحين للرئاسة من جانب آخر. كان الديبلوماسيون أقل الأطراف حماساً للدفاع عن السياسات الاسرائيليئة او اندفاعاً وراءها. وهم بالتأكيد يعرفون اين مصالح أميركا، وما السياسات التي تخدمها. ويعرفون عن أوضاع المنطقة ومجتمعاتها اكثر مما يعرف أي سياسي محترف لا تتعدى معلوماته الجغرافية حدود الأطلسي وافاقه الفكرية حدود الثقافة الغربية الشعبية. كانت مواقف ومهنية العاملين في وزارة الخارجية مصدر ازعاج وقلق دائم لأنصار اسرائيل ما أدى في النهاية الى الحملة ضد ما أسموه "المستعربين في وزارة الخارجية" والذي بلغ ذروته في عهد رونالد ريقان مرة أخرى كتابتها بالقاف هو الأصح والذي أدى الى ما يشبه الحظر على استقطاب من يشتبه في موقفهم ازاء اسرائيل للعمل في وزارة الخارجية، أي ان المعيار الايديولوجي تقدم على معيار الكفاءة المهنية. ومما يجدر ملاحظته في هذا المجال ان أكبر انعطاف في السياسة الأميركية لصالح اسرائيل حدث خلال رئاسة رئيسين ترومان وجونسون كل منهما كان نائباً للرئيس ولم يحلم حتى بالسعى الى الرئاسة وتولاها بعد موت الرئيس المنتخب لاكمال فترته. وكل منهما كان سياسياً محترفاً محدود الثقافة. وفي كلتا الحالتين كان الرئيس السابق روزفلت وكيندي مثقفاً و"كوزموبوليتان" عالمي النزعة وله من الشعبية ما يؤهله لمقاومة الضغوط والابتزاز. ولم يكن الصهاينة راضين عن أي من الرئيسين. وبالنسبة الى كنيدي كانت اسرائيل وليس كاسترو او المافيا كما راج أو روّج له أكبر المستفيدين من اغتياله. خامساً: ظروف غزو الكويت وما تلا ذلك وحتى آخر يوم من الحرب أظهرت بوضوح ان اسرائيل تمثل عبئاً على المصالح الغربية وليس مساعداً لها. بل انه في الأشهر الأخيرة وازاء تحديات اسرائيل في ما يسمى "تحريك عملية السلام" بدت الولاياتالمتحدة في موقف يثير السخرية وتآكلت قدرتها على التأثير. هذه الشواهد وغيرها تجعل نظرية "خدمة اسرائيل للمصالح الغربية" في أحسن الأحوال أمراً قابلاً للجدل أو مجرد قناعة ذاتية Contetion. لذا لا مفر من الاقرار بأن فهم العوامل المؤثرة في صناعة القرار الاستراتيجي للغرب ازاء المشرق العربي يمثل تحدياً فكرياً من نوع ما، لكن أهميته للأمة ولمتخذ القرار العربي لا يحتاج الى ايضاح. هدف هذه المقالة لا يشمل تقديم تفسير بديل لسياسة الغرب في المنطقة، لكننا في سعينا الى تحسين فهمنا في هذا الصدد علينا ان نتذكر أمرين مهمين: الأول: ألا نبدأ من الافتراض بأن هناك عاملاً واحداً هو المؤثر بحيث يصبح هدف البحث هو هذا العامل س أو ص. فالظاهرة السياسية اكثر تعقيداً من ذلك المنطق المبسط، وأي نموذج تفسيري ينجح بقدر ما يستوعب تعقيداتها او حركتها "ديناميتها". والأحرى هو ان هناك عوامل عدة تتفاعل ويكون القرار الاستراتيجي وليس السياسات التي تترجم هذا القرار هو محصلة هذا التفاعل. الثاني: انه من المجازفة غير المبررة استبعاد وجود علاقة بين التحامل الثقافي الواسع وعميق الجذور في الغرب ازاء انسان هذه المنطقة وثقافته وبين خياره الاستراتيجي على رغم ان القول باحتمال وجود هذه العلاقة يثير اعتراضات يمكن التنبؤ بها وتتعلق بما ورد في بداية المقال عن صورة الغرب في أذهاننا. لكن قد يحسن فهمنا حول هذه النقطة ان نميز بين روح القوانين والقيم التي تحكم السياسات الغربية في الداخل وبين منطلقاتهم في المجال الخارجي. فإذا كان مفاهيم التنوير والتسامح، والليبرالية، بل التمدين، هي المكونات الأوضح في الخطاب السياسي في الداخل فيجب عدم الافتراض بأن تلك هي منطلقات السياسة الخارجية ايضاً. فوجه الغرب الموجه للعالم اكثر تعصباً وأقل استنارة وأقل علمانية مما نظن، بل انه في مجال السياسية الخارجية قد تجد بعض المشاعر البدائية التي تكبح عند التعامل مع الداخل متنفساً لها. لكن الغرب او أي مجتمع متقدم يعبر عن مثل هذه المشاعر على نحو حاذق وحذر وليس على النمط الفج الذي قد نلسمه عند قيادات هذه الدولة او تلك في محيطنا البائس.