منذ العام 1996، تاريخ نشر "خبر اختطاف"، لم ينشر غبريال غارسيا ماركيز، أي كتاب. منذ فترة بدأ الحديث عن المذكرات التي يكتبها. وأخيراً صدر في كولومبيا الجزء الأول منها عن دار "اديتوريال اوبيخا نيغرا" عنوان الكتاب: الحياة التي عشتها Vivir Para Contarlo ويتوقع صدور جزءين آخرين. ظهور مذكرات ماركيز يعتبر حدثاً مهماً لا في اللغة الإسبانية وحسب، وإنما في لغات العالم أجمع. ذلك ان صاحب "مئة عام من العزلة" قد يكون الروائي الأشهر بين روائيي اليوم. وأعماله تترجم فور صدورها الى كثير من اللغات الأخرى، بحسب ما ورد في بيان لجنة نوبل التي منحته جائزتها سنة 1982. يكتب ماركيز في الجزء الأول من مذكراته سيرته حتى عام 1955، مفتتحاً الكتاب بالحكاية الغرامية لأبيه وأمه، تلك الحكاية التي يعرفها قراء ماركيز من روايته الصادرة قبل عقد ونصف: "الحب في زمن الكوليرا". وفي الجزءين اللاحقين نعرف المزيد عن حياة الكاتب بين 1955 و1967، وعن علاقته الشخصية برؤساء بارزين من أنحاء العالم. هنا ترجمة عن الإسبانية لمقاطع من الفصل الأول من المذكرات: صنعت أمي من نفسها امرأة في مكان الموت ذاك. كانت ترعرعت في طفولة قلقة سيطرت عليها حُمى الثلث، لكن عندما شفيت من الحمى الأخيرة، خرجت من كل شيء وإلى الأبد، بصحة من الإسمنت المسلح سمحت لها ان تحتفل بعيد ميلادها الخامس والتسعين مع أحد عشر ولداً ... وتسعة وستين حفيداً .... كانت تدعى لويسا سانتياغا، وكانت البنت الثالثة للكولونيل نيكولاس ماركيز ميخيا من زوجته وابنة عمه ترانكيلينا اغواران كوتيس، التي كنا نناديها "مينا". وُلدت في بارانكاس، عند ضفة النهر رانجيريا، يوم 25 تموز يوليو 1905، عندما بدأت العائلة تتعافى من كوارث الحروب الأهلية، وبعد سنتين من مقتل أبيها ميدارو باجيكو في مبارزة لخلاف يتعلق بالشرف. الاسم الأول وضعوه لها تيمناً بلويسا ميخيا فيدال، جدتها من جهة الأب، التي كان مر على وفاتها في ذلك اليوم شهر واحد. الاسم الثاني وقع عليها بالصدفة بسبب تاريخ المبشر سانتياغو الكبير، الذي قُطعت رأسه في القدس. أخفت اسمها الثاني طوال حياتها، لأنه بدا لها رجولياً كثير الأبهة، حتى فضحه أحد أبنائها غير المخلصين في رواية له. حصلت على تربية بنت أثرياء تحت التقاليد الكاثوليكية لعائلة مقترفي اثم سعداء. كانت تلميذة مجتهدة في المدرسة الخاصة التابعة للكنيسة، في مدينة سانتا مارتا، باستثناء درس البيانو، الذي فرضته عليها امها لأنها لم تقبل فكرة أن بنتاً مهذبة لا تكون عازفة بيانو ماهرة. لويسا سانتياغا درست البيانو مرغمة ثلاث سنوات وتركته ذات يوم لكرهها للتمارين اليومية في حر القيلولة الخانق. لكن الفضيلة الوحيدة التي خدمتها في عنفوان سنيها العشرين كانت قوة شخصيتها، عندما اكتشفت العائلة أنها كانت محتدمة بالحب للشاب المتكبر موظف التلغراف في قرية "آراكاتاكا". قصة هذا الحب المتناقض كانت إحدى عجائب شبابي. من كثرة سماعي لها من والديّ، معاً ومنفصلين، كنت امتلكتها كاملة تقريباً وعندي ثلاثة وعشرين عاماً، عندما كتبت "عاصفة الأوراق"، روايتي الأولى. لكني كنت واثقاً أيضاً أنه ينقصني الكثير لكي أتعلم فن السرد. كان الاثنان راويين رائعين، مع الذاكرة السعيدة للحب، حتى أنهما نجحا بإثارة شغفي في قصصهم لدرجة انني عندما قررت الاستفادة منها في "الحب في زمن الكوليرا"، بعد خمسين سنة من ذلك، لم أستطع تمييز الحدود بين الواقعي والخيالي. حسب رواية والدي، التقيا للمرة الأولى في سهرة تعميد طفل لم يتوصل لا هو ولا هي الى تذكر من كان بالضبط. كانت هي تغني مع صديقاتها في صحن الدار، تطابقاً مع العادة الشعبية في قراءة البخت من طريق أغاني الحب "ليالي الأبرياء التسع". فجأة انضم صوت رجل مع الكورس. حين التفتن جميعهن لرؤية صاحب الصوت بقين فاغرات الأفواه أمام شكله الجميل. مباشرة بدأن بغناء أغنية "سنتزوج منه"، واحدة من القصائد الغنائية على إيقاع ضربات الكفوف. بالنسبة الى أمي لم يترك الرجل انطباعاً قوياً، قالت: "أكثر من ذلك، بدا لي غريباً". كان بالفعل غريباً. كان وصل للتو الى مدينة قرطاجة الهنديات بعد قطع دراسته في الطب والصيدلة بسبب نقص المال، وكان شرع بممارسة حياة مبتذلة عبر قرى عدة في الإقليم بسبب وظيفته الجديدة ك"موظف تلغراف". صورة من تلك الأيام تظهره بمظهر شاب فقير ملتبس. كان يلبس بدلة لاصقة غامقة بأربعة أزرار، كما كانت الموضة في تلك الأيام، بياقة صلبة، وربطة عنق ضيقة وقبعة من قصب. كان يضع أيضاً نظارات على موضة ذلك الزمن، دائرية الشكل بإطارات رقيقة، وزجاج طبيعي. الذين عرفوه في تلك المرحلة كانوا ينظرون إليه كبوهيمي يحب السهرات والنساء، وعلى رغم ذلك لم يشرب قطرة كحول ولم يدخن ولو سيجارة واحدة طوال حياته. كانت المرة الأولى بالنسبة الى أمي عندما رأته. على عكسه، كان رآها عند قداس الساعة الثامنة ليوم الأحد السابق، تحت حراسة الخالة "فرانسيسكا سيمودوسيا ميخيا"، التي كانت سيدة صحبتها منذ دخولها المدرسة الخاصة. كان عاد لرؤيتهما في الثلثاء اللاحق، وهما تخيطان في ظلال أشجار اللوز عند باب الدار، وبطريقة ما عرف منذ ليلة السهرة أنها ابنة الكولونيل "نيكولاس ماركيز"، الذي حمل له في مرات عدة رسائل التقديم. من طرفها هي أيضاً عرفت منذ تلك اللحظة انه كان عازباً وكثير الغرام، وناجحاً بصورة مباشرة بسبب طلاقة لسانه، وقرضه السهل للشعر، وموهبته في الرقص على طريقة موسيقى المودة ورقة مشاعره عندما يعزف على الكمان. أمي حدثتني أكثر من مرة أنه حين يسمعه أحدهم يعزف في الفجر فإنه لا يستطيع السيطرة على رغبته في البكاء. أما بطاقة تقديم نفسه للمجتمع فكانت موسيقى "عندما تنتهي الرقصة"، رقصة فالس رومانطيقية نازفة كان ضمنها في لحن عزفه، وبات لا يمكن التنازل عنها في تلك الأغاني التي تُغنى ليلاً. إن جوازات المرور الحميمة هذه، وشخصيته المحبوبة، فتحت أمامه أبواب البيوت ومكاناً مألوفاً في ساعات العشاء عند الكثير من العائلات. الخالة فرانسيسكا، وهي أصلاً من قرية "كارمن دي بوليفار"، تبنته من دون تحفظات عندما عرفت أنه ولد في "سينسه"، قرية قريبة من قريتها. كانت لويسا سانتياغا تستمتع في الحفلات بكل الوسائل التي يستخدمها مغريها، لكنها لم تفكر أبداً أنه كان يحمل في داخله نيات أكثر من ذلك. على العكس: علاقاتها الجيدة جعلتها تتفاخر قبل كل شيء بأنها هي تخدمه واجهة لحبه الخفي لزميلة لها في المدرسة، حتى أنها أبدت استعدادها لأن تكون عرابة الزواج. منذ ذلك الوقت أخذ يسميها "العرابة" وهي تناديه "الابن في التعميد". في هذا السياق من السهل ان نتصور دهشة لويسا سانتياغا ذات ليلة رقص، عندما ترى التلغرافي يتجرأ على نزع الوردة التي يحملها في عروة البدلة، ويقول لها: "أسلمك حياتي بهذه الزهرة". لم يكن ذلك ارتجالاً منه، قال لي مرات عدة، إنما قرر ذلك بوعي، فبعد تعرفه على الكثيرات كان توصل الى النتيجة أن لويسا سانتياغا كانت مصنوعة له بصورة خاصة. أما هي ففهمت الزهرة كواحدة من دعابات غزله اللطيفة التي كان يصنعها مع صديقاتها. عند مغادرتها تركت الزهرة منسية في مكان ما، وهو فهم ذلك. كان عندها من يخطب ودها. شخص سري، شاعر سيئ الحظ وصديق جيد، لم يصل الى قلبها أبداً بأشعاره الحارة. لكن، وعلى رغم ذلك عكرت زهرة غابريال اليغيو عليها النوم بحنق لا يمكن توضيحه. في حوارنا الشكلي الأول عن قصص حبها، عندما كان عندها ما يكفي من الأولاد، اعترفت لي: "لم أستطع النوم بسبب الحنق بكوني كنت أفكر فيه، لكني كنت أكثر حنقاً، لمعرفتي أنني كلما غضبت أكثر كلما فكرت فيه أكثر". في بقية أيام الأسبوع قاومت المعاناة القاسية لرعب رؤيته وعاصفة عدم استطاعة رؤيته. في إحدى تلك الظهيرات، وبينما كانتا تخيطان تحت أشجار اللوز، تحرشت العمة فرانسيسكا ببنت الأخ بخبثها الهندي: "قالوا لي إن أحدهم أعطاك زهرة". كيف يمكن ان يحدث للويسا سانتياغا ان تكون الأخيرة التي تعرف أن عواصف قلبها كانت من النوع المفضوح. في المحادثات القليلة معها ومع أبي، معاً أو على انفراد، كانا متفقين على أن الحب المداهم حصل في مناسبات ثلاث حاسمة. الأولى كانت في يوم الأحد في القداس الكبير. كانت هي جالسة مع العمة فرانسيسكا ...، عندما عرفت خطوات نعاله الغجرية على طابوق الصالة، ورأته يمر قريباً جداً حتى أنها لمحت اللمعة الفاترة لمستحضر دهن الرأس. العمة فرانسيسكا أعطت الانطباع أنها لم تره وفعل هو الأمر ذاته. لكن في الحقيقة كان كل شيء مخططاً من قبله، فلقد تبعهما منذ أن لمحهما تمران أمام مكتب التلغراف. حينها كان يقف قرب الشباك عند عمود قريب من الباب، فرآها من ظهرها وهي لم تستطع ان تراه. بعد دقائق قليلة من مقاومة لويسا سانتياغا نفسها، نظرت باتجاه الباب عبر الكتف. في تلك اللحظة شعرت أنها ستموت من الحنق، لأنه كان ينظر إليها، لتلتقي نظراتهما. "كان هذا بالضبط ما خططت له"، قال أبي، سعيداً، عندما أعاد القصة عليّ في شيخوخته. أمي، على العكس لم تتعب من تكرار القول إنها خلال تلك الأيام الثلاثة لم تستطع النوم بسبب حنقها من وقوعها في المصيدة. المناسبة الثانية كانت رسالة كتبها لها. لم تكن رسالة تتوقعها من شاعر وعازف كمان في ساعات الفجر السرية، إنما بطاقة متعجرفة، تطلب منها جواباً قبل سفره الى "سانتا مارتا" في الأسبوع القادم. لم تجبه. حبست نفسها في غرفتها، مقررة قتل تأنيب الضمير الذي لم يمنحها طعماً للحياة، حتى أخذت العمة فرانسيسكا تقنعها أن تستسلم الآن طالما المناسبة لا تزال جيدة قبل أن يصبح الوقت متأخراً. وبمحاولة منها لكسر مقاومتها روت لها القصة النموذجية للشاب "ترييو"، الولهان الذي كان يحرس أسفل شرفة محبوبته المستحيلة، كل الليالي، منذ الساعة السابعة حتى الساعة العاشرة، والتي لم تبخل بمواجهته بكل السماجات التي خطرت على بالها لتنتهي الى رميه من مكانها في الشرفة ليلة بعد ليلة، بصندوق البول. لكنها لم تستطع ثنيه. ... المناسبة الثالثة كانت عرساً كبيراً، دُعيا إليه، كضيفي شرف. لويسا سانتياغا لم تجد عذراً لعدم الحضور الى عرس شخص قريب جداً من العائلة. لكن غابريال اليغيو فكر في الأمر ذاته وحضر الى حفلة مهيئاً لكل شيء. من طرفها لم تستطع السيطرة على قلبها عندما رأته يعبر الصالة بشكل جلي جداً ويدعوها الى الرقصة الأولى. "نبض الدم ضرب بصورة قوية في داخل الجسم حتى أنني لم أعرف إن كان ذلك بسبب الحنق أم بسبب المفاجأة". أما هو ففكر في الأمر ليقوله بضربة قوية: "نعم ليس هناك حاجة لكي تقولي لي ذلك، قلبك يقول كل شيء". هي، من دون إعادة غير ملزمة، تركته مشتولاً في وسط الصالة عند منتصف الرقصة. "ابق سعيداً"، قالت لي. لويسا سانتياغا لم تستطع مقاومة الحنق الذي شعرت به ضد نفسها عندما أيقظتها في الفجر مغازلات فالس مسموم: "عندما انتهت الرقصة عند طلوع الفجر". في اليوم الثاني عند الساعات الأولى أرجعت، إليه غابريال اليغيو، هداياه. تلك العجرفة غير اللازمة، والقيل والقال بعد حفلة العرس، طارت كالريش في الهواء، من الصعب أن رياحاً سترجعها، حتى أن الجميع فكر أنه أمر مفروغ منه، وأن ذلك كان نهاية غير محمودة لعاصفة مطر صيف. وتعمق ذلك الشعور بصورة خاصة، لأن لويسا سانتياغا تعرضت مرة أخرى لحمى الثلث الطفولية، لتحملها أمها مبكراً الى قرية "ماناوره"، ضيعة فردوس في سلسلة سييرا نيفادا. كان الاثنان ينكران دائماً أنهما عرفا عن بعضهما شيئاً في تلك الشهور. امر من غير المعقول، إذ عندما رجعت من المصيبة التي كانت فيها رأتهما الناس من جديد، مستسلمين لغيرتهما. كان أبي يقول إنه ذهب لاستقبالها في المحطة لأنه كان قرأ البرقية التي أعلنت فيها "مينا" العودة الى الدار، والطريقة التي مدت لويسا سانتياغا له فيها يدها لتحيته. شعر بشيء يشبه الإشارة الماسونية فسرها هو كإشارة بالحب. أما هي فأنكرت ذلك، كما هو الأمر دائماً، وفق الحياء المفروض في تلك السنوات. لكن الحقيقة هي أنه منذ ذلك الحين راح المرء يراهما سوية بأقل تكتم. كان ينقصهما فقط النهاية التي أعطتها لها العمة فرانسيسكا في الأسبوع التالي بينما كانتا تخيطان في ممر الراهبات: - مينا تعرف الأمر. لويسا سانتياغا تقول دائماً إنه كان اعتراض العائلة الذي جعلها تسبح ضد سدود السيول التي تحملها محبوسة في القلب منذ تلك الليلة التي تركت فيها المعجب بها مشتولاً في وسط الرقصة. كانت حرباً ضارية. الكولونيل حاول الاحتفاظ بنفسه على الهامش، لكن لم يستطع تحاشي الذنب الذي قذفته "مينا" في وجهه عندما خطر على ذهنه أنه هو أيضاً لم يكن بريئاً كما كان يبدو. بالنسبة الى جميع الناس كان واضحاً ان عدم التسامح لم يكن منه، إنما منها، بينما في الواقع كان مكتوباً في شيفرة القبيلة، التي كان بالنسبة إليها كل محب هو دخيل. هذا الحكم المسبق، الراجع الى أصل بعيد، والذي ما زالت جمراته تشتعل، صنعت منا إنسانية جرارة من الناس العازبات ومن رجال بناطيلهم غير مزررة وأعداد غفيرة من أطفال الشوارع. وبما يخص الأصدقاء فهم انقسموا بحسب سنهم، مع أو ضد العاشقين. أما الذين لم يملكوا موقفاً راديكالياً ففرضت عليهم الوقائع نفسها. الشباب جعلوا انفسهم مساعدين سعيدين. فوق كل شيء وقفوا الى جانبه، هو الذي كان يستمتع ببهجة وضعه كضحية للأحكام المسبقة للمجتمع. على العكس منهم كان موقف معظم البالغين، إذ كانوا يرون في لويسا سانتياغا رهينة ثمينة لعائلة غنية ومتمكنة، يتودد لها تلغرافي دخيل ليس بسبب الحب، إنما بسبب المصلحة. هي نفسها، وعلى رغم الإذعان والخضوع المطلوبين منها، واجهت المعارضين بقوة لبوة وضعت حملها للتو. في أكثر نزاعاتها العائلية الكثيرة الأشد حموضة، فقدت "مينا" ذات مرة رباطة الجأش ورفعت بوجه البنت سكينة المطبخ. لويسا سانتياغا واجهتها ببسالة، واعية فجأة اندفاع غضبها الإجرامي، حتى أن "مينا" رمت السكين لتصرخ فجأة: "يا إلهي!" ووضعت يدها في جمرات الفرن مثل توبة قاسية. وإحدى الحجج القوية ضد غابريال اليغيو هي حجة كونه ابناً طبيعياً لعازبة ولدته في عمر صغير ولها أربعة عشر عاماً من طريق علاقة بالصدفة مع معلم المدرسة. كان اسمها "ارغيمينا غارسيا باتيرنينا"، بيضاء هيفاء، بمزاج مبتهج وروح حرة، فلديها ستة أولاد آخرين من ثلاثة آباء مختلفين. كانت تعيش من دون رجل ثابت في قرية "سينسه"، حيث ولدت، وكانت تربي ذريتها بالمخالب. غابريال اليغيو كان مثالاً مختلفاً لذلك النسل الفقير جداً. منذ كان عمره ثمانية عشر عاماً ملك خمس عشيقات بواكر، كما روى لأمي كطقس للتوبة في ليلة عرسه على هامش نحس السفينة ريو هاغا، المضروبة بسبب العاصفة، والتي كانا مسافرين على متنها. اعترف أمامها أن له ولداً من واحدة منهن، عندما كان تلغرافاً في قرية "دي آخي" وله من العمر ثمانية عشر عاماً، اسم الولد "آبيلاردو"، وعنده ثلاث سنوات من العمر. ومن أخرى، عندما كان تلغرافاً في "آيابيل"، في العشرين من عمره، له بنت في شهورها الأولى، لم يعرفها واسمها كارمن روزا. وعد أمها بالعودة والزواج منها وكان ما زال يحتفظ بوعده، عندما تغيرت دفة حياته بسبب حبه للويسا سانتياغا. الولد الكبير اعترف به أمام كاتب العدل، وفي وقت لاحق سيفعل الشيء ذاته بخصوص البنت، لكن لم تكن تلك غير شكليات بيزنطية من دون نتيجة معينة امام القانون. إنه أمر يثير الدهشة أن ذلك الوضع غير الشرعي كان يسبب إزعاجاً أخلاقياً للكولونيل ماركيز، الذي إضافة الى أولاده الشرعيين كان لديه تسعة آخرون من أمهات مختلفات، قبل أو بعد الزواج، وكلهم كانوا مقبولين عند زوجته كما لو كانوا أبناءها. ... خروقات الأسلاف لا تهمني بشيء على الإطلاق. على العكس أثارت الانتباه عندي أسماء العائلة، لأنها بدت لي أصلية جداً. الأول من الخط الأمومي: ترنكيلينا، بينيفريدا، فرانسيسكا سيموديوسا. لاحقاً، اسم جدتي من ناحية الأب: أرغمينا. واسما والديها، اميناداب غارسيا ولوسانا باتيرنينا. ربما من كل ذلك يأتي الاعتقاد الثابت عند شخصيات رواياتي بأنهم لا يحيدون عن أقدامهم في حال امتلاكهم اسماً له علاقة بشخصيتهم. الحجج ضد غابريال اليغيو ساءت أكثر بسبب كونه عضواً نشطاً في الحزب المحافظ، الذي حاربه الكولونيل نيكولاس ماركيز في كل معاركه، كان السلام ساري المفعول فقط منذ توقيع اتفاقات "نيرالانديا وفيسكونيس"، لأن المركزية المتقوقعة على نفسها ظلت مستمرة في السلطة وكان يجب أن يمر زمن طويل حتى يكف الليبراليون عن تكشير أسنانهم. ربما كانت محافظة العاشق بسبب العدوى العائلية أكثر منه بسبب القناعة الإيديولوجية، لكنهم أخذوها في الحسبان أكثر من أخذهم لعلامات الطبع الأخرى، كذكائه العالي دائماً ونزاهته التي ثبتتها أكثر من تجربة. كان متعلماً بشكل ذاتي، كما كان القارئ الأكثر صلابة الذي عرفته، على رغم أنه أقل نظامية. كان يقرأ كل ما يقع بين يديه، في كل ساعة ومناسبة، حتى توصل الى امتلاك تكوين موسوعي مدهش. قضى القسم الأكبر من سنوات عمره الأخيرة، ما يكفي للعيش بسلام في الحياة، يقرأ في الغرفة فاكاً رموز كل الكلمات المتقاطعة. كان يبدو طوال حياته فقيراً أكثر مما هو عليه بالفعل، ودائماً كان الفقر بالنسبة إليه مثل عدو مقيت لم يستسلم له أبداً ولكنه أيضاً لم ينتصر عليه. ترجمة وتقديم: نجم والي