سحر غابرييال غارسيا ماركيز ليس في كتبه فحسب، بل أيضاً في مقالاته وعمله الصحافي وجلساته ومقابلاته الصحافية المتلفزة والمكتوبة التي توثق جميعها نظرة كاتب الى مفاصل الحياة بشكل يختلف عن المألوف. وتنعكس القيمة الأهم لأدب ماركيز في أفقه السرديّ، وفي نظرته البالغة الخصوصية إلى تراكمات الأشياء الغريبة المنسيّة، وحبكها في أسلوب واقعي سلس. يستمد ماركيز قدرته من خبرته في عالم الصحافة، ويرى أن "الصحافة أفضل مهنة في العالم". وتاريخ مسيرته صحافياً لا يقل إبهاراً عن تاريخه روائياً، بل إن تتويجه أديب رواية كان تتويجاً منقوصاً، كما تشي بذلك إشاراته الملحة إلى ماضيه الصحافي. فماركيز يأسف لأنّ الرواية هي التي قدّمته الى العالم حتى صحافياً. وهي المهنة التي عندما تحدث عن مزاولته لها، حرص على أن تكون شهاداته فيها على نفسه شهادات مشرّفة، وحرص على أن يؤرّخ أنه كان صحافياً فذاً ونموذجيّاً. اعتبر المؤتمر العالمي الرابع للغة الاسبانية المنعقد في 2007 رواية ماركيز "مائة عام من العزلة" ثاني أعظم إنجاز أدبي في تاريخ اللغة الإسبانية بعد ملحمة "دون كيخوتي" لسارفانتس. وحصل بفضلها على جائزة نوبل في الآداب وهو في عمر صغير نسبيا. وقد ترجمت إلى نحو 35 لغة وبيع منها أكثر من 50 مليون نسخة في مختلف أنحاء العالم. تخلى ماركيز "الشفاف" عن تأريخ أي من الأحداث التي شهدت قطف ثمار مشواره الإبداعي من خلال الإشادات والجوائز التي لا تحصى، واكتفى بتأريخ بدايات نجاحه الروائي عبر رواية "ساعة النحس" ومجموعته القصصية المعنونة "بعد السبت"، وهو يعي تماماً، أنه صاحب أسلوب واحد في جميع نصوصه. اعاد ماركيز تشكيل المشهد الأميركي اللاتيني، واشتمل إنتاجه الأدبي على العديد من القصص والروايات والبحوث، مثل "ليس للكولونيل من يكاتبه"، و"خريف البطريرك"، و"الحب في زمن الكوليرا"، وألف أيضا الكثير من القصص القصيرة، إضافة إلى خمسة أعمال صحافية وكتابات اخرى تتناول في غالبيتها مواضيع مثل البحر وتأثير ثقافة الكاريبي. كانت جدته ترانكيلينا أجواران كوتس التي أطلق عليها اسم الجدة مينا ووصفها ب"امرأة الخيال والشعوذة"، تملأ المنزل بقصص عن الأشباح والهواجس والطوالع والعلامات. وتأثر بها كثيراً مثلها مثل زوجها، فضلاً عن كونها شكلت مصدر الإلهام الأول والرئيس للكاتب. إضافة إلى أسلوبها القصصي، ألهمت الجدة مينا حفيدها شخصية أورسولا إغواران التي استخدمها لاحقاً وبعد قرابة ثلاثين عاماً من رواية جدته عن هذه الشخصية، في روايته "مائة عام من العزلة". عرف غابرييل في صباه بخجله. كان يكتب قصائد ساخرة ويرسم اشكالا هزلية. ولقب ب "العجوز" بين زملائه لانه كان جاداً وقليل الاهتمام بالنشاطات الرياضية. كان متيماً بفكرة الكتابة، ولكنها لم تكن من اجل القص التقليدي لحكايات شعبية، على نمط مماثل لقصص جدته، "حيث تتداخل الأحداث غير النمطية وغير العادية كما لو كانت مجرد جانب من جوانب الحياة اليومية". بدأ حلمه يكبر في أن يكون كاتباً بعد نشره قصة "الإذعان الثالث" في صحيفة "الإسبكتادور" في 13 أيلول (سبتمبر) العام 1947، والتي تعكس تأثره بنتاج فرانتس كافكا. في العام 1950، ترك المحاماة ليتفرغ للصحافة، وعاد من جديد إلى بارانكويلا ليصبح كاتب عمود ومراسلاً لصحيفة "إل هيرالدو". وصل ماركيز الى قمة النجاح وعرفه الجمهور عندما كان في الأربعين، وكان التغير في حياته جلياً بعد المراسلات بينه وبين محبيه والجوائز والمقابلات التي أجريت معه، وفي العام 1969، حصل على جائزة "كيانشانو" عن رواية "مائة عام من العزلة"، والتي اعُتبرت "أفضل كتاب أجنبي " في فرنسا. وفي العام 1970، نشرت الرواية باللغة الإنكليزية واختيرت كواحدة من أفضل اثني عشر كتاباً في الولاياتالمتحدة في ذلك العام. وبعد سنتين، حصل على جائزة "رومولو جايجوس" وجائزة "نيوستاد" الدوليتين للأدب، وفي العام 1971 نشر ماريو بارغاس يوسا كتاباً عن حياة ماركيز وأعماله. لم تقتصر مساهمات ماركيز على الكتب، اذ انتج للمسرح والسينما. عمله المسرحي الأول "خطبة لاذعة ضد رجل جالس" انتهى منه في العام 1988 الذي شهد ايضا انتاج فيلم "رجل عجوز جداً بجناحين عظيمين" عن قصته التي تحمل العنوان ذاته، من إخراج فيرناندو بيريري. وإضافة إلى شهرته الواسعة التي اكتسبها من مؤلفاته، ادى موقفه من "الإمبريالية الأميركية" إلى اعتباره "مخرباً" في يات المتحدة. ورفضت سلطات الهجرة الأميركية طيلة سنوات منحه تأشيرة دخول، لكنها رفعت الحظر عنه بعد انتخاب بيل كلينتون رئيسا. وأكد كلينتون أن "مائة عام من العزلة" هي روايته المفضلة.