كيف بدأت الكتابة؟ بالرسم بالرسم... هكذا أجاب غابريال غارسيا ماركيز على سؤال لمراسل "باريس ريفيو". قبل أن أكون قادراً على القراءة والكتابة، كنت أرسم في البيت والمدرسة. المضحك، أنني في المرحلة الثانوية كان يُعرف عني أنني كاتب، مع أنني لم أكن كتبت شيئاً بعد. الرسم... الرسم. هذا هو بالضبط ما فعله غابريال غارسيا ماركيز الصحافي والروائي. رسم أميركا اللاتينية، ورسم ذاكرتنا عنها. رسم ناساً بملامح طغت على ملامحهم الحقيقة، ثم رسم أمزجتهم ورسم في الهواء رائحة أوراق الكينا، وكانت عطرة. رسم رجلاً ذا شاربين كثيفين وبشرة داكنة، يجلس على كرسي من الخيزران لونه بلون جذع الشجر، على شرفة أرضها من الخشب نفسه وخلفه تقف امرأة شابة. كلاهما يرتدي ملابس من الكتّان الابيض مع صدرية وساعة ذهب. هو يضع غليوناُ في فمه من دون أن يشعله وهي تنظر إليه. ومن حولهما تفوح رائحة أشجار الموز وزهور الاوركيديا وقصب السكر. رسم الكولونيل بطل أميركا اللاتينية المطلق، وتركه يتنقل بين قصة وأخرى مرة شاباً وثانية عجوزاً. مرة يؤسس قرية تتحقق فيها اللعنة- النبوءة وتقضي عليها رياح مشؤومة، ومرة ينتظر رسالة في البريد ولا تأتي. مرة تفوح منه رائحة المانغا وأخرى تتعفن فيها أمعاؤه في أكتوبر. رسم فلورنتينو اريثا شاباً هزيلًا في "الحب في زمن الكوليرا"، ورسم فيرمينا داثا. ورسم ببغاء ومظلة ونهراً وسفينة وميتاً ورائحة اللوز المر. وجعلنا ننشغل بالرسم، تاركاً فلورنتينو ينتظر فيرمينا داثا إحدى وخمسين سنة وتسعة شهور وأربعة أيام. رسم القبطان ينظر إلى فلورينتينو اريثا "بتماسكه الذي لا يقهر وحبّه الراسخ، وأرعبه ارتيابه المتأخر بأن الحياة، أكثر من الموت، هي التي بلا حدود"، ويسأله: "إلى متى تظن أننا سنستطيع الذهاب والإياب الملعون؟ وكان الجواب جاهزاً لدى فلورينتينو اريثا منذ ثلاث وخمسين سنة وستة شهور وأحد عشر يوماً بلياليها. فقال: مدى الحياة". رسم الحَر الخانق، ورسم الكولونيل "الواثق بأن نباتات فطر وزنابق سامة تنمو في أحشائه"، وجعله على مدى ست وخمسين عاماً، منذ انتهت الحرب الاهلية الاخيرة، لا يفعل شيئاً سوى انتظار رسالة مستعجله. رسم ديكاً "لا يمكن أن يخسر" في حلبة مصارعة. ورسم نهاية غير مألوفة لرواية من مئة صفحة قال إنها أفضل رواياته بلا شك. رسم نهاية سانتياغو نصّار على أيدي التوأمين فيكاريو في جريمة شرف في أول صفحة من القصة. ثم راح يرسم ويرسم لتخرج "قصة موت معلن"، لوحة من يوم واحد تكثف حياة كاملة في أميركا اللاتينية وريفها. هكذا كان غابريال غارسيا ماركيز منذ المرة الأولى التي رسم فيها قبل أن يتعلم القراءة والكتابة. يرسم فنرى بلداً وطريقاً ووحلاً نقفز فوقه، وتمسنا الرائحة العطرة للبخور وأشجار الكينا، والوصفات السحرية للجدة. وستظل رسوماته في سماء الكوكب إلى الأبد، تماما كتلك العبّارة التي تروح وتغدي على وجه النهر، يحركها الحب، والحب وحده.