كما في بقية البلدان الإسلامية، لم يعد رمضان في المغرب اليوم مجرد فرض ديني خالص يشد العبد الصائم الى خالقه. دون وساطات أو تراتبية، كما جاء في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به"، بل أصبح هذا الشهر الاستثنائي من أعوامنا الهجرية، فضاء زمنياً لممارسة اجتماعية تنغرس عميقاً في تراب المحلية، مؤالفة بين الديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في بوتقة تضفي عليه طابع الفرادة والتميز. فالعادات والتقاليد والأعراف والسياقات الاقتصادية والجغرافية تكرس النكهة المحلية لهذا الشهر، حتى ليصير المحلي سابقاً على الديني في أحايين كثيرة. وشهر العبادة والصوم والطهارة الروحية، أصبح أيضاً شهر اللهو والأكل والملذات والسهرات الشبابية الصاخبة. والقيام بصلاة التراويح والدعاء وقراءة القرآن والكرم الزائد في اخراج الصدقات، عيش جنباً الى جنب مع طقوس لعب الورق والبلياردو ومتابعة برامج التلفزيون، وفي أحيان كثيرة تبادل الشتائم وشد الناس بعضهم بعضاً في الأسواق والحافلات والأماكن العامة... ورمضان في نهاية الأمر: دين ودنيا. قليل لنفسك، وقليل لربك كما يقول المغاربة. يبدأ رمضان في التقليد المغربي، أياماً قبل رمضان. الاستعدادات على قدم وساق. مشاعر مختلطة ومتناقضة لاستقبال الوافد الجديد: الفرقة والخوف والقلق والنشوة والضجر والخشوع... النساء يشرعن في اعداد الحلويات الشهية، من شباركية، وبريوات، وسلّو، ومحنشة، وغيرها من شهيات المطبخ المغربي. وكذلك توابل الحريرة لالحساء التي لا تستقيم مائدة الافطار من دونها، وبعض الوصفات التي يمكن تخزينها طوال الشهر مثل "الخليع" مستحضر من اللحم والشحم كثيف الدهن. الفتيات يساعدن أمهاتهن، وقد تحرص كثيرات منهن على طلاء أيديهن بالحنة احتفاء بالآتي الكريم. أما الرجال فيشرعون في التخطيط لموازنة هذا الشهر الذي بات مع "التقاليد الجديدة" يملأ القلوب ويفرغ الجيوب. كثيرون منهم ينفضون الغبار عن سجادات الصلاة، ويُُخرجون من طي النسيان الجلباب الأبيض والبلغة والسبحة... استعداداً لمواقيت المساجد. ففي رمضان يتذكر الجميع ان ثمة مساجد فارغة يجدر ملؤها. لأسباب غامضة يتأخر هلال رمضان عن الظهور في ليل المغرب. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تعلنه عادة متأخراً يوماً واحداً عن معظم البلدان الإسلامية، والمفارقة ان عيد الفطر يأتي في موعده تماماً. لذلك، على الأرجح، يتمازح المغاربة بمكر: "لقد أكلنا يوماً!" والمغاربة عموماً قد يتساهلون مع كل شيء في مجال العبادات، إلا مع الصوم. من لا يصوم لغير عذر ينبذه الناس والمجتمع والقانون، حتى ليبدو صوم رمضان مثل "الدرجة الصفر للعبادة" كما تقول عالمة الاجتماع المغربية عائشة بناني شرايبي. تبدو الشوارع نائمة في صباحات رمضان. والإدارات تعتمد توقيتاً خاصاً، غالباً ما يكون من التاسعة صباحاً الى الثالثة بعد الظهر من دون انقطاع. بيد ان مردودية العمل تكون هزيلة بصفة عامة خلال هذا الشهر. ملفات الشغل تؤجل الى ما بعد رمضان، ما عدا المستعجل منها. وحين يدخل مواطن لقضاء حاجة في ادارة ما، يجد المكاتب في استقباله خالية من الموظفين، يسأل المداوم: أين الموظفين؟ فيجيبه بتحد: "لقد انصرفوا... انه رمضان!". تنام الادارة إذاً، وتستيقظ التجارة: محلات الجزارة، والخضر، والحلويات، والفطائر والأواني... كلها تستقبل طوابير لا منتهية من المستهلكين. منافسة محمومة بين الصائمين على اقتناء ما لذ وطاب من أجل التفنن في اخراج مائدة الافطار، الاكتظاظ سيد الأمكنة. البعض لا يشتري شيئاً، لكن يبدو ان المشاركة في الزحام باتت هواية! وعندما يقترب موعد الافطار يختل كل شيء في الشارع السيارات تطلق العنان لأبواقها في زعيق احتجاجي طويل على الزحمة. العابرون يمشون بخطوات سريعة في اتجاهات مختلفة ولا أحد يحترم اشارات السير. يضرب مدفع الافطار. ويتبارى المؤذنون في الدعوة الى الافطار هي دعوة للصلاة أصلاً!. تبدأ الحياة في الدبيب رويداً رويداً في الشوارع والمقاهي والمحلات بعد تناول وجبة الافطار المكونة عموماً من فطائر وقهوة وحليب وشاي وعصير فواكه، ومن حريرة حساء وتمر وتين يابس وحلويات. ثمة من يختار الخروج لسهرات خاصة مع الأصدقاء في مقهى أو منزل، يلعبون الورق أو يمارسون احدى الرياضات، وثمة من يحمل سجادته ويذهب لأداء صلاة العشاء والتراويح. في حين يعتصم آخرون بمنازلهم لمشاهدة التلفزيون. وما ادراك ما التلفزيون. فمع تناسل الفضائيات وغزو البث الرقمي للكثير من البيوت المغربية، أصبح التلفزيون يحتل المرتبة لأولى ضمن النشاطات الترويحية التي يمارسها المغربي. وفي رمضان يكون الانشداد الى هذا الجهاز السحري مضاعفاً، نظراً لغنى البرامج التي تبث طوال الشهر وتنوعها، خصوصاً المسلسلات والسورية منها في شكل أخص. ثم المسلسلات الهزلية المغربية التي تنتجها القناتان المحليتان خصيصاً لهذا الشهر، والتي يشاهدها الجميع وينتقدونها أيضاً، وهي مفارقة ماكرة لدى المغاربة، تبرز بوضوح في شهر رمضان بخصوص علاقتهم مع المنتوج المحلي من المسلسلات والمسلسلات الفكاهية. وفي الليل، تنشط السهرات وجولات اللهو ولعب الورق الى ساعات السحور أحياناً. عندها يكون الكل متعباً في بيته، ما عدا رجل واحد يحمل طبلة ويجوب الشوارع قارعاً آلته لايقاظ من لا يزال نائماً لكي لا تفوته وجبة السحور.