ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    235 جهة حكومية تستعرض أبعاد ثروة البيانات وحوكمتها والاستفادة منها في تنمية الاقتصاد الوطني ‬    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زهير عسيران يتذكر " المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب " . من حزب الاستقلال الجمهوري الى حزب النداء القومي 3
نشر في الحياة يوم 20 - 11 - 1998

كنت في فترة تأثري بالماركسية معجباً، وأنا في أول شبابي في الثلاثينات، بپ"حزب الاستقلال الجمهوري". وكان الشيوعيون والماركسيون يقيمون حفلاتهم في نادي الحزب باعتبار انه حزب البورجوازية الوطنية. وكان هذا الحزب الوطني البورجوازي يضم نخبة كبيرة من رجال السياسة والفكر والاجتماع أمثال الشيخ عزيز الهاشم رئيس الحزب، وعادل الصلح نائب الرئيس الذي اصبح في ما بعد رئيساً لبلدية بيروت في عهد الاستقلال، وشخصيات اخرى منها نجيب الصايغ ونصري المعلوف ومحمد علي حماده وموريس الجميل والدكتور الياس جبر والدكتور يوسف ابو مراد وزكريا النصولي، والد محيي الدين النصولي، وأنيس الصغير ودعيبس المر ونسيم ايوب وفوزي بردويل. وكان في تركيبته السياسية شبيهاً بالتنظيمات الحزبية التي نشأت عقب عام 1943 وكانت اهدافه استقلالية لبنانية وعربية قومية. وقد ذهب وفد من هذا الحزب الاستقلالي يضم عزيز الهاشم وعادل الصلح الى فرنسا لمقابلة ساستها الاحرار المنفتحين على فكرة اعطاء بلدان المشرق استقلالها، وآخذاً وعوداً ومواقف مؤيدة لمطالب هذا الحزب.
كنت ازور مقر الحزب بين آن وآخر فازداد اعجابي بنشاطاته، ومنها الحفلة التكريمية الكبرى التي اقيمت لوفد الكشاف العراقي الذي كان بقيادة فقيد الشباب العربي المرحوم عبدالكريم عسيران والد الكاتبة الاديبة ليلى عسيران زوجة الرئيس أمين الحافظ، وكان عبدالكريم مديراً للرياضة في وزارة المعارف العراقية وأنشأ في ما بعد "شباب الفتوة" في العراق، واشترك شباب هذه الفتوة في المهرجان العالمي الكبير الذي اقيم في برلين وكان العلم العربي يرفرف بين اعلام الدول المشتركة وصفقت له الجماهير كثيراً. في تلك الحفلة دهشت عندما رأيت، على طول جدار المقر الواسع، العلم العربي المربّع الألوان من اخضر وأسود وأبيض وأحمر وفي وسطه الأرزة الخضراء. لم يكن هذا المزيج معروفاً، اذ كان العلم العربي معبود فريق لبناني، والارزة معبودة فريق آخر، وليس الا بعد ذلك حتى بدأت تظهر في التظاهرات الشعبية صورة الاثنين معاً، وعندما كان الكشاف العراقي يسير في الشوارع منشداً "نحن كشاف العرب، خير ركن للوطن"، كانت الجماهير تستقبل الكشافين بحماسة شديدة وتحمل العلم الجديد اللبناني العربي بأرزته والألوان الأربعة، وكانت تهتف للعراق ولقائد الكشاف عبدالكريم عسيران وتردد النشيد اياه. من هنا، من ذلك العلم الذي كان معلقاً على الجدار في قاعة حزب الاستقلال الجمهوري، نبتت في الجلسة التاريخية التي عقدت في مجلس النواب من سبعة نواب اخترقوا الحواجز، رغم انف جنود الاحتلال بعد اعتقال رئيس الجمهورية بشاره الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح ورفاقهما وحل المجلس - نبتت فكرة ان يكون البديل من العلم اللبناني الانتدابي المثلث الألوان الذي كان فرنسياً في وسطه ارزة، علماً آخر هو العلم العربي المربع الألوان وفي وسطه ارزة. وبعد اشتداد الجدل اتفق المجتمعون على ان تكون ألوان العلم ثلاثة فقط من العلم العربي الاحمر والأبيض والاخضر وهو لون الأرزة.
هذه الصورة بقيت في ذهني عن التطور الذي كان يحصل في البلاد منذ الثلاثينات. والواقع ان هذه الصور كانت مرآة العقيدة السياسية التي انبثق منها "حزب النداء القومي"، بل قدرة لبنان على تحقيق استقلاله من فرنسا. والمؤسف ان حزب الاستقلال الجمهوري الذي كان موضع اعجاب شباب لبنان، قمعته السلطة الانتدابية بحجة اقتراب الحرب العالمية الكبرى وبفعل تدابير عدة مشابهة اغرقت بها فرنسا الحياة السياسية في لبنان. وغالبية شخصيات هذا الحزب هم الذين اسسوا في ما بعد "حزب النداء القومي".
في زنزانية الميه وميه
بعد اسابيع من مغادرتي بنت جبيل، وكان جيش فرنسا الحرة قد تسلم السلطة في العاصمة، ارسلت مديرية الأمن العام من فتّش منزلي، فلم يتركوا ورقة دون تدقيق لعلهم يقعون على ما يشير الى "جريمة" نشاط وطني او اي شيء آخر يساعد على اعتقالي، فلم يوفقوا لأنني كنت سباقاً الى تنظيف غرفتي، كما فعلت في بيت علي بزي، فدخلوا غرفة شقيقي حسن الغائب عن البيت منذ ثلاث سنوات ففتحوها وبعثروا محتوياتها، وكان في الخزانة جارور مقفل فكسروا القفل ووقع في ايديهم "الكتاب الاحمر" فخطفوه كأنهم وقعوا على صيد ثمين. وكانت دهشتي عظيمة اذ اكتشفت في تلك المناسبة ان شقيقي ينتسب الى احدى الحلقات السرية في الحزب دون علمي، ولو كنت اعلم لتدبرت امر خزانته وأخفيتها بما فيها من الوجود كما سبق ان فعلت بمحتوياتي ومحتويات علي بزي. اقتادني رجال الأمن العام الى مركز الأمن الفرنسي في محلة حاووز الساعاتية، وادخلت زنزانة تحت الأرض بضع ساعات ثم اخرجت منها ليبدأ التحقيق في "جريمة" اقتناء الكتاب الاحمر. وتركز التحقيق معي على معرفة رفاقي في هذا الحزب: عددهم، اماكن وجودهم، منازلهم. ولما كنت لا اعرف احداً باستثناء افراد حلقتي، بداعي السرية والتنظيم، قلت للمحقق: "صدقني لا علاقة لي بالكتاب الاحمر ولا الأبيض ولا الأزرق".
واعتقد المحقق انني اقصد بالألوان الثلاثة العلم الفرنسي مع انني نطقت بها عفوياً، لكنه لم يقتنع واستشاط غيظاً وأغلظ في الاسئلة. وضاق صدري من التركيز على "الكتاب الاحمر" فما كان من المحقق الا ان تناول عصا غليظة كانت الى جانبه. وقبل ان يستعملها رأى سبباً تخفيفياً، على ما اعتقد، هو صغر سني وبراءتي في الاجوبة، ومحضر تحقيق رجاله بين يديه يشير الى ان الغبار كان يعلو الخزانة عندما كسروها، وان نسيج العنكبوت كان يشير الى انها لم تفتح منذ امد بعيد. لم اكن اتوقع هذه الشهادة من شباب الأمن العام، مع ذلك انتهى التحقيق معي وأفرج عني واعتقدت انني سأعود الى بيتي، لكن الافراج كان الى سيارة مقفلة سارت بي الى جهة مجهولة تعرفت اليها عند توقف محرك السيارة نحو التاسعة ليلاً، انها الميه وميه. وترجلت من السيارة فاستقبلني ضابط بريطاني واقتادني الى التحقيق مجددا وبدأ يسأل ويدقق حتى منتصف الليل مركزاً على "الكتاب الاحمر" اياه، ثم ادخلت الى "براكة"، اي ثكنة خشبية وأسرّة من حديد عليها شبه فرش، فاستلقيت على احداها ونمت حتى الصباح كأنني على اريكة من "حرير" من شدة التعب والارهاق. والتفتّ حولي، عندما استيقظت، فرأيت على مقربة مني جارين عرفت بعدها انهما ضابطان عراقيان احدهما محمود الهندي الذي اصبح في ما بعد مديراً للأمن العام في سورية، وصبحي العمري الذي اصبح مديراً لشرطة دمشق ثم نائباً، وكلاهما كانا في اركان الجيش العراقي ومن الذين قاتلوا الجيش البريطاني في حركة رشيد عالي الكيلاني. وقد توطدت العلاقة بيني وبين الضابطين واستمرت الصداقة بعد الميه وميه المعتقل الذي لم يكن وقفا على العرب وحدهم، بل كنا خليطا من جنسيات متعددة بيننا المان وطليان وغيرهم، نقضي اناء الليل وأطراف النهار في ما يشغلنا عن واقعنا في انتظار الفرج. وأذكر اني تعلمت بعض الكلمات الألمانية تحسباً لما هو آت، وكرهاً بالحلفاء وسايكس - بيكو. ومما يذكر اننا اثناء اشتداد المعارك في صحراء طبرق ومرسى مطروح، وكان جيش "حلفائنا" الألمان والطليان يتقدم نحو الاسكندرية، عندما ظهرت بوارج رومل في عرض البحر تنادينا الى شبه تظاهرة وأخذنا نهتف: "عجّل يا روميل عجّل!" فجن جنون الفرنسيين، حراس المعتقل، فاندفعوا صوبنا ببنادقهم وكان عقابنا الحبس في الثكنة والحرمان من الطعام طوال ذلك اليوم.
صاحب العمامة... سعيد السيّد
خلال احتجازي في معتقل الميه وميه اطل علينا ضيف جديد معصوب الرأس تعلو هامته لفات كثيفة من القطن والشاش، بدا لي من بعيد كأنه شيخ جليل أرسل الى المعتقل للوعظ والارشاد. فسألت احد رفاقي السوريين: "اتعرف القادم؟" فأجاب: "اجل، انه سعيد السيد من دير الزور". وتقدمنا نحوه وعرفني رفيقي اليه فرحب بنا. وأشرت الى رأسه مستفهماً فعلمت انه سيق من دير الزور الى حلب اولاً للتحقيق معه في دائرة الأمن العام الفرنسي، وانه خرج من التحقيق، كما نرى، نتيجة الضرب بأعقاب المسدسات والبنادق على رأسه، ثم سيق الى الميه وميه ليعيش مع من هم على "شاكلته" من الوطنيين الأحرار الذين يشكلون خطراً على أمن الدولة المنتدبة وهي في حالة حرب...
وجرى التعارف بيننا وقد تبين لنا اننا من مدرسة واحدة وحزب واحد من دون ان يفصح احدنا للآخر. كيف كان ذلك؟ لقد سألني ان اذكر له حدود الوطن العربي، فأجبته عن حدود الوطن كما يذكرها "الكتاب الاحمر". وعندما وصلت الى حدود الشرق من جبال "بشتكوه" والبختيارية وخليج البصرة. قال: "كفى لقد عرفتك الآن". فأجبته: "شكراً وأنا عرفتك ايضاً". ذلك ان هذا التعبير عن الحدود هو في كراس الحزب العربي السري فقط. وهكذا نشأت صداقة متينة بيننا استمرت حتى فرّق بيننا قضاء الله بفقدان أعز الاصدقاء.
وبعد خروجنا من المعتقل كنت أزور سعيد السيد دائماً في دمشق وكان بدوره يزورني في بيروت، وقد انتخب بعد رحيل الانتداب نائباً عن دير الزور. ثم اصبح وزيراً وسفيراً لبلاده في الخارج وكان خير من مثّل سورية في البلاد التي عيّن فيها.
الخروج من المعتقل
كان ذلك عام 1941 ولمناسبة عيد الفطر زارني احد اشقائي حاملاً اليّ بعض الحلويات، فسألته عن اخبار البيت والبلد فقال: "ان الشمس ما زالت تشرق وتغيب بانتظام، واما الوالدة فانها تغادر البيت مع كل صباح لزيارة ابن العم عادل والقريب الآخر الدكتور فؤاد وتسألهما المساعدة لاخراجك من المعتقل. والجواب حتى الآن هو ان الذين في المعتقل خطرون ولن يخرجوا قبل نهاية الحرب". كنت اعرف ان عادل بك على علاقة جيدة بالجنرال سبيرس، والدكتور فؤاد على علاقة جيدة بالجنرال كاترو، ولكن تلك العلاقة لم تنفع مع الأسف، والجواب دائماً: "نهاية الحرب".
ان يبقى الانسان سجيناً حتى نهاية الحرب، لا يعرف كيف تنتهي ومتى، لأمر مزعج تماما، مع ذلك فالمؤمن لا ييأس من رحمة الله، وقد كافأني بسرعة بعدما ودعني شقيقي وعاد الى بيروت. اذ وصلت لجنة تحقيق فرنسية الى الميه وميه قرابة ظهر ذلك اليوم ومعها "ليسته" بأسماء الذين وافق المفوض السامي على اطلاقهم من المعتقل، وبدأت تلاوة الاسماء فرن اسمي بين الاسماء رنين أجراس كنيسة بلدة الميه وميه، فقفزت واقفاً وسألت من حولي: هل سمعوا اسمي، قالوا: "اجل وكيف قلت لنا قبل قليل انك باق حتى نهاية الحرب؟" قلت للزملاء: "ما قلت لكم الا ما جاءني به شقيقي قبل ساعات، ونبأ الافراج فاجأني ففي الأمر سر او خطأ ولسوف نرى".
خرجت من المعتقل وكان همي ان اعرف كيف خرجت. فعلمت ان المفوضية الفرنسية كانت تقوم بمبادرات ودية نحو مفتي الجمهورية آنئذ الشيخ محمد توفيق خالد في مناسبة الأعياد الدينية عند المسلمين الذين رفضوا التعاون مع الانتداب، كما هو معلوم. ولمناسبة عيد الفطر تلك السنة عرضت المفوضية على سماحته مبادرة اطلاق من يهمه أمرهم من الميه وميه، فقدم سماحته قائمة بأسماء فريق من اعضاء النجادة وذكر اسمي معهم على اعتباري نجاداً ايضاً، وكان خالي يراجعه بأمري بين وقت وآخر. بالاضافة الى ان سماحة المفتي يذكرني جيدا كپ"مشاغب" طالما لجأت اليه للمساعدة عندما اتعرّض او يتعرّض احد رفاقي للملاحقة بسبب نشاطه الوطني، فكان الانتداب يحرص على استرضائه واحترام كلمته.
وقد تأكد لي ان سماحته كان وراء خروجي من المعتقل، فزرته شاكراً لافتاً نظره الى اخوان اعزاء في المعتقل متى سنحت له فرصة التدخل لدى السلطات. بعد ذلك بدأت افكّر في اسلوب وصولي الى منزل الوالدة بعدما تلقيت نصائح من بعض المقربين بأن لا ادخل البيت فجأة خوفاً على والدة قد تأخذها المفاجأة بعدما اوقفت مراجعاتها واقتنعت بأنني باق في السجن حتى نهاية الحرب. فعرّجت اولاً على منزل خالتي القريبة من منزلنا وطلبت اليها المساعدة لاجتياز هذا الموقف الدقيق، فانتقلت وحدها الى منزل الوالدة واستبقتني بعض الوقت ريثما تكون قد هيأت جو اللقاء. ثم تبعتها ودخلت ومع ذلك كاد يغمى على والدتي عندما رأتني ثم اخذت تتلمسني لتتأكد انها ليست في حلم. فسبحان الذي اوصى بالوالدين احساناً. وقبل وصولي الى منزل الوالدة في بيروت كنت قد مررت على منزل العم راشد عسيران في صيدا، وكانت المفاجأة الأولى مع "شخص آخر" من الجنس اللطيف ينتظر عودتي من المعتقل، ففوجئ بي ادخل بلا استئذان ودون توقّع، فارتبكت هذه الآنسة وهوى من يدها طبق القهوة والمرطبات وهي تمشي به نحو صالون الضيافة، فتحطم ما عليه من كؤوس، وأسرعت الوالدة "ام سامي" في خوف وقلق لترى ماذا دهى الكؤوس، فاستوعبت المشهد بسرعة وأدركت كل شيء.
ولا أحد يفهم البنت اكثر من امها.
واني استميح الزوجة الحنون عذراً لو بحت بهذا السر الآن بعد ما حفظته في صدري نحو نصف قرن من الزمن، وقلت انها هي المقصودة بكلامي، وانني قبل ان ادخل المعتقلات كنت قد تركت قلبي في منزل والديها وجئت ابحث عنه ساعة خرجت منها وحدث ما ارويه الآن...
وفي امكاني ان اضيف اليوم الى ما ذكرت ان حظي "فلق الصخر" يوم تعرّفت اليها وقال النصيب كلمته. فقد اعطتني الحب والحنان والرعاية وبادلتها بالمثل "وزيادة"، والزيادة هي انها ستكون من اهل الجنة ان شاء الله جزاء صبرها ورعايتها لي حتى الآن.
وفي الحديث ان الانسان يحشر مع من أحب...
مهمة في فلسطين
قبل انضوائي تحت لواء الحركة السرية المنظمة، كنت اعتقد، وأنا في بواكير الشباب، ان العمل الجهادي والتظاهرات والاضرابات وقف على شوارع بيروت ومدن لبنانية اخرى، فاذا بي اشعر بمجرد قسمي وانتمائي الى اسرة "الكتاب الاحمر" بمزيد من القوة والاندفاع وأنا اسمع صوت الثورة يملأ الآفاق بين المشرق والمغرب، وان رفاقاً لي هم في الميدان ووراء كل ثورة مستقلة في هذا القطر او ذاك من اقطار العروبة. ولم يمض وقت طويل على انتمائي وقسمي حتى كلفت مهمة قومية لا تخلو من خطورة، ميدانها فلسطين. وفلسطين وقضيتها استهلكتا ولا تزالان في هذا القرن المشرف على نهايته. المهمة كانت الانتقال الى بنت جبيل، الخزان الذي يرفد ثورة فلسطين بالرجال والسلاح، والاجتماع الى بعض قادة الثورة هناك، لأن الحرب بين بريطانيا والعراق قد نشبت ولا بد من مساندة العراق. كان ذلك في الثاني من شهر ايار 1941 بسبب اصرار بريطانيا على انزال المزيد من جنودها في البصرة خلافاً للمعاهدة المعقودة بين الدولتين. فكانت انتفاضة العراق بقيادة حكومة رشيد عالي الكيلاني ورد الفعل القوي في العالم العربي، فقامت التظاهرات في معظم المدن ضد بريطانيا. وفي بيروت هرع كثير من الشباب الى القنصلية العراقية طالبين التطوع لمساعدة جيش العراق. لكن تلك الحرب، برغم بطولات الجيش العراقي والخسائر، اسفرت عن تشديد قبضة بريطانيا على العراق.
اعود الى المهمة التي كلفتها في بنت جبيل للاجتماع الى فريق من المجاهدين الفلسطينيين في منزل رفيقنا علي بزي. وتشاء المصادفة ان يكون غائباً عن منزله خارج بنت جبيل في بيروت لسبب صحي طارئ، فاستدعيت بعض القادة المجاهدين من فلسطين لملاقاتي واطلعتهم على مهمتي، وعلى رسالة احملها اليهم من مفتي فلسطين الحاج امين الحسيني وهو يطلب فيها تصعيد الثورة في فلسطين لمشاغلة الجيش البريطاني الذي يقاتل في العراق. وكان الحاج امين يومها في بغداد، ومن اشد المؤيدين لتلك الحرب. وقيل انه هو الذي شجّع الضباط العراقيين الكبار على الثورة والقتال اذكر منهم فتحي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب وصلاح الدين الصباغ، وان سماحته وفريقاً من زعماء العرب وقادتهم في مصر وسورية ولبنان وفلسطين وضباط الجيش العراقي اجمعوا على اعلان تلك الحرب على بريطانيا ومساندة دول المحور رداً على غدر بريطانيا بالعرب في الحرب العالمية الأولى وتنكرها لوعدها. لقد دامت ثورة رشيد عالي الكيلاني سحابة شهر سجل فيها جيش العراق بطولات وبسالة خارقة وكفاءة مثالية عالية بشهادة كتاب اصدرته وزارة الحرب البريطانية في ما بعد وجاء فيه "... وكان افراد الجيش العراقي جنوداً قديرين ومقاتلين شرفاء، كما ظهر امتناعهم بدقة عن قصف المستشفيات، اما الالمان فكانوا غير ذلك تماما".
مفاجأة صاعقة
رحب القادة الفلسطينيون بطلب الحاج امين تصعيد الثورة في فلسطين، لكن السلاح الموجود لديهم قليل فقلت: "اني مفوض بتأمين السلاح عبر الحدود اللبنانية - السورية وبأسرع وقت ممكن". وانتهى الاجتماع في ساعة متقدمة من الليل، وذهب كل منا الى فراشه في انتظار الصباح، وأنا مطمئن الى نجاح مهمتي على ان نعود في اليوم التالي للبحث في التفاصيل. وبعد ساعة تقريباً من انتهاء الاجتماع جاءت المفاجأة الصاعقة من صهر الاخ علي بزي المرحوم "ابو حميد" الذي كنا في ضيافته والملاصق لبيت علي بزي، اذ ايقظني من النوم وقال: "انهض لقد دخلوا. الانكليز على الأبواب". فنهضت مذعوراً، اني استفيق من كابوس مزعج وغير مصدق ما اسمع. ورآني المضيف اعود الى النوم فانتهرني بعنف وصاح: "اسمع دوي القنابل والمدافع. انهم يقتربون من البيت. فماذا نفعل بالضيوف؟ قد يدهمون البيت بين دقيقة وأخرى". هنا صحوت تماماً وأدركت انني لا احلم بل في خطر حقيقي يستدعي انقاذ الاخوان المجاهدين. فاجتمعت اليهم للحال للتشاور في الامر، فقال احدهم: "لا تقلقوا. امّنوا وصولنا الى الحدود فقط، ونحن نتدبر الأمر". فنقلناهم فوراً الى منزل بعيد عن الشبهات في بنت جبيل، وتطوع فريق من الشباب لايصالهم الى حدود فلسطين بطرق فرعية بين الوديان. فسألناهم: "كيف ذلك؟" اجابوا: "اهل مكة ادرى بشعابها. فلا تحزنوا ولا تخافوا وعلى الله التوفيق".
توقفت مهمتي، طبعاً، وصار عليّ ان اتدبر امر خروجي من بنت جبيل. فانتقلت فوراً الى منزل علي بزي المستهدف قبل غيره لأنه مأوى الثوار والمجاهدين من فلسطين واليها، فأخليت ما فيه من اوراق وأشياء بينها "الكتاب الاحمر"، ومنه علمت للمرة الأولى انني واياه في حركة واحدة من حيث لا اعلم برغم صداقتنا الطويلة. وقبل ان اغادر بنت جبيل فوجئت بضابط بريطاني على رأس ثلة من الجنود يضرب طوقاً حول منزل علي بزي. فدخلوه وفتشوه وبعثروا محتوياته فلم يعثروا على ما كانوا يتوقعون. ثم انتقلوا الى بيت نسيبه الذي بتنا ليلتنا فيه مع القادة الفلسطينيين فلم يعثروا ايضاً على شيء. لكن علي بزي الذي عاد من غيابه في بيروت الى منزله اعتقل بعد بضعة ايام وسيق الى قلعة راشيا فيما عدت انا من بنت جبيل الى بيروت مشياً على قدمي في طرق فرعية وعرة بين الجبال والوديان، فعرجت على جباع ومنها على اقليم الخروب فجسر القاضي، في حين كان الجيش البريطاني وجيش الجنرال ديغول يزحفان نحو العاصمة بطريق الساحل. لقد استغرقت عودتي الى بيروت ثلاثة أيام مضنية لا يشعر بمثلها الا من يقطع هذه المسافة الطويلة مشياً على قدميه.
الى الميه وميه
دامت المعارك بين الجيشين البريطاني والفرنسي التابع لحكومة فيشي زهاء شهر، تعرضت خلاله بيروت لقصف من الجو، فأعلنت الحكومة اللبنانية بيروت مدينة مفتوحة، وطلب الجنرال دنز المندوب السامي لسورية ولبنان وقائد القوات الفرنسية التابعة لفيشي، وقف القتال. اما انا فكان مصيري معتقل الميه وميه 8 الى جانب فريق من الشباب سبقني اليه. ومن طريف ما حدث في تلك الأيام ان الأخ والرفيق علي بزي استغرب عدم اتصالي به في معتقل راشيا، بعد ما كنت على اتصال به بواسطة بعض الاصدقاء، فكتب الى صديق الطرفين الزميل جودت هاشم، وكان يومئذ رئيساً لبلدية جديتا - شتورا، رسالة يصعب على الرقيب فك رموزها. ومما جاء فيها: "وبعد، انا هنا في راشيا في غاية السعادة، فكيف انتم والأخ زهير؟ ولماذا انقطعت اخباره عني؟ ولماذا لم يرسل الثياب التي وعدني بها؟" ورد الأخ جودت على رسالة علي بالآتي: "... وبعد، اما الثياب الداخلية التي تطلبها فهي في طريقها اليك مع ناظم القادري ناظم كان يزور سرايا راشيا يومياً بحكم مهنته كمحام ويقيم في بلدة القرعون غير البعيدة عن راشيا، اما الاخ زهير فلا يقل عنك سعادة وانشراحاً في مصيف الميه وميه... وأما ان فبحالة جيدة حتى الآن وعلى استعداد لأي خدمة".
الزميل جودت كان ينتظر لفتة كريمة لولا شهادة جيدة من احد مواطنيه العائد حديثاً من واشنطن كمغترب لبناني وهو اميركي لا يكذب طبعا وهكذا اخذ الاخ علي علما باعتقالي، وصرنا نتبادل الرسائل بما يشبه الشيفرة الى ان نقل الأخ علي الى الميه وميه، فاجتمع الشمل وتوقفت الرسائل بالشيفرة.
وفي يوم من الأيام المسموح فيها للأهل بزيارة معتقل الميه وميه، فوجئت بالمرحوم ابن عمتي وديع عسيران، حاكم الصلح في النبطية، يزورني برفقة عقيلته، للتمويه بأن الزيارة عائلية. فسعدت به وخفت عليه في آن معا لأنه ينتمي الى حركة "الكتاب الاحمر"، وكلانا في حلقة واحدة. لقد طلب اليّ وديع خلال الزيارة القصيرة الاجتماع به في صيدا، اذا امكن ذلك لأمر مهم. ومضى. ورحت افكّر: ماذا في الخارج؟ وماذا وراء هذه الزيارة غير المتوقعة؟ وقد ذهبت بي الظنون كل مذهب، وسألت نفسي: كيف اخرج من المعتقل؟ فادعيت المرض وأخذت اصرخ كأشد ما يكون الصراخ من ألم مفاجئ في اسناني لا يحتمل. فلو اشتكيت غير ذلك لأحضروا الطبيب الى المعتقل، فأشفقوا عليّ اخيراً وسمحوا لي بالخروج والذهاب الى صيدا للمعالجة عند احد اطباء الاسنان، برفقة حارسين من الدرك يعودان بي سريعاً. وفور دخولي عيادة الطبيب في صيدا رجوته ابلاغ ابن عمتي وديع عسيران بوجودي لديه فأرسل من قام بالمهمة. وخف وديع مسرعاً ليخلو بي لحظات على انفراد، بعدما تدبّر الامر مع الحارسين، ويطلب الي العمل على تهريب احد قادة الثورة الفلسطينية لأنه محكوم بالاعدام في فلسطين من السلطات البريطانية وهو المجاهد المعروف باسمه الحركي "ابو ابراهيم الصغير". وأعطاني بعض الاسماء التي يمكن التعاون معها، وزودني شيفرة خاصة. وقلت له: "ولكن كيف السبيل الى ذلك والمعتقل مسور بأسلاك شائكة؟" فقال: "لا عليك سترى في الزيارة المقبلة التي سأقوم بها الاسبوع المقبل ضمن سلة من الاكل ما يساعدك على تسهيل المهمة". عدت الى المعتقل ونجحنا متعاونين في تهريب "القائد" ولكن كيف؟ زارني ابن عمتي وديع عسيران مع زوجته ومعه سلة كبيرة تحوي بعض الاطعمة كالكبة اللبنية وصرة كبيرة من الخبز المرقوق ملفوفة بشكل جيد، وبعض الفاكهة. ولما مرت على التفتيش لم يلاحظوا شيئاً فوق العادة ومدوا ايديهم فلم يجدوا ما يلفت النظر. ثم ودعانا وديع وزوجته. وحملت السلة الى داخل المعتقل وانزويت جانباً وأخرجت المأكل فلم اجد شيئاً، ثم مددت يدي الى لفة المرقوق فوجدتها ثقيلة ففتحتها فوجدت فيها مقصاً للشريط مع بطارية صغيرة وورقة صغيرة رسمت عليها خريطة الخروج من زاوية المعتقل حيث طريق "قادوميةَ" فرعية لا يعرفها الا اصحاب الاختصاص. وفي الثانية صباحا توجهت مع رفيقين لي فقصصنا الشريط وعدنا الى مكاننا. ولما وجدنا الحارس يتوجه الى الجهة المقابلة، سحبنا القائد الفلسطيني من يده، بعدما اخبرناها ان هناك من ينتظره في اسفل الوادي. طبعاً هو كمناضل وفدائي يعرف كيف يزحف. وهكذا اصبح خارج المعتقل وتسلمه الرفاق في الخارج، لكن سلطات المعتقل عندما علمت في الصباح ان القائد المناضل لم يجاوب وقت التعداد وعرفت بهربه، قامت وقعدت وعمدت الى حجز المعتقلين جميعاً بعد تحقيق صارم، لا سيما مع الذين خرجوا حديثاً وعادوا وأنا في طليعتهم، فادخلونا الزنزانة لأيام طويلة بداعي الشبهة، كما ان الحارس نال جزاءه الصارم. وهكذا سلم المجاهد من الاعدام بعدما بقي متخفياً الى حين انتهاء الحرب.
حارب القاوقجي بسلاح الجيش اللبناني
بعد خروج الجيش البريطاني من فلسطين، تدفق اليهود عليها ولحقتهم بواخر السلاح الحديث بما مكّنهم من ارتكاب مجازر دير ياسين ورام الله والرملة بوحشية روّعت اهل فلسطين ودفعتهم الى النجاة بأرواحهم تاركين وراءهم بيوتهم وأرزاقهم. وقد تحدث الارهابي مناحيم بيغن في كتابه "الثورة" عن نتيجة تلك المذابح والنزوح الجماعي الذي سببته. قال: "لقد اصيب العرب بعد مجزرة دير ياسين بهلع لا حدود له، فأخذوا بالفرار للنجاة بأرواحهم. وسرعان ما تحول هذا النزوح الجماعي اندفاعاً هائجاً جنونياً لا يمكن كبحه والسيطرة عليه، فمن اصل ثمانمئة الف عربي كانوا يعيشون على أرض فلسطين لم يتبق سوى 165 الفاً فقط"!!
تلك المذابح الجماعية احدثت صدى رهيباً في الاقطار العربية، فتنادت الاحزاب والهيئات الشعبية الى التصدي للكارثة بما تملك من امكانات. وتداعينا نحن في لبنان الى اجتماع عاجل في "النادي الأهلي الاميركي" اليوم "نادي الضباط" اسفر عن انشاء "مكتب فلسطين الدائم" وعن هيئة تنفيذية لادارة شؤونه من السادة: حسين العويني، كمال جبر، محمد شاكر بيضون، الدكتور محمد خير النويري، الدكتور يوسف حتي، موسى مبارك، الدكتور عزت طنوس، عماد الصلح، الدكتور سعد الله الخليل، الدكتور جورج حنا، محمد شقير وزهير عسيران. واسندت الأمانة العامة الى الدكتور سليم ادريس بعد اعتذار يوسف سالم، وأمانة الصندوق الى حسن بحصلي، والمحاسبة الى كمال جبر، وأمانة السر الى محمد شقير.
ويحضرني هنا الدور الفاعل الذي اضطلع به "فريق الصاعقة"، كما كنا نسميه، المؤلف من ابو شاكر بيضون وعبدالقادر النويري ومنير سنو وعبد دعبول في اشراف الدكتور محمد خير النويري، لدعم الصندوق المالي للمكتب. فعندما بدأنا جمع الأموال بلغت حصيلة الجولة الأولى 15 الف ليرة، وكان ذلك في النصف الثاني من عام 1947، وما ان اطل شباط 1948 حتى وصلت التبرعات الى مليونين وسبعمئة الف ليرة. طبعاً هناك تبرعات لم تأت تلقائياً وبسهولة. واعترف الآن بأننا لجأنا الى التخويف والترويع احياناً بالقاء متفجرات تحذيرية قرب متاجر او منازل المتقاعسين عن المساهمة في تمويل مكتب فلسطين.
في ذلك الوقت كان فوزي القاوقجي قد جمع عددا من المجاهدين وتوجه بهم الى جبال نابلس للمقاومة عند خروج الانكليز من فلسطين في الوقت المحدد، وعدّتهم من الاسلحة بنادق ابراهيمية قديمة. ولشدة الحاجة الى السلاح رأينا ان نتصل بقائد الجيش فؤاد شهاب، فعرضنا عليه الأمر لعله يساعدنا بشيء من السلاح الحديث متعهدين دفع ثمنه، فقال: "لا استطيع اخراج السلاح من المستودعات لهذه الغاية، انما استطيع ذلك باسمي الشخصي وأنا مرتاح الضمير". فأكبرنا فيه شعوره ووطنيته، وأخرجت الصفقة من مستودعات الجيش وهي عبارة عن بنادق تشيكية حديثة مغلّفة بالشمع والجيلاتين، وسلّمت الى وزير الدفاع السوري احمد الشراباتي، وهو كان مرجع القاوقجي، فاستقبلها بالدموع قائلاً - كما اخبرنا كامل مروة الذي رافق القاوقجي كمراسل حربي يومئذ: "هذا سلاح للقتال".
وكان الجيش اللبناني قد انتدب الضابط محمد زغيب لقيادة "المقاومة الشعبية" بعدما اعفي شكلاً من الخدمة، يعاونه المجاهد معروف سعد الذي اصبح في ما بعد نائباً عن صيدا، ورفاق آخرون لا سيما الضابط فؤاد لحود.
بعد ذلك انشأنا مستشفى ميدانياً نقالاً لاسعاف الجرحى. واستقرّ هذا المستشفى في مدينة صور ووضع في اشراف الدكتور سعدالله الخليل والدكتور نمر طوقان في ابنية كان يشغلها الأرمن الذين اخلوها وعادوا الى ارمينيا. وآلت تلك الابنية الى مكتب فلسطين بموجب عقد ايجار مع وزارة الدفاع في مقابل ليرة لبنانية واحدة في السنة. ولقد انفقنا على المستشفى مبالغ لا بأس بها لتجهيزه بالمعدات الطبية. ومع الوقت وسّع المستشفى نطاق خدماته للفلسطينيين واللبنانيين معا واستمر في العمل حتى عام 1972، حين انقطعت علاقتنا به ووضع في اشراف الدكتور الخليل.
واني لأذكر في هذه المناسبة معركة المالكية بقيادة الشهيد الضابط محمد زغيب ومعروف سعد. فتلك المعركة منعت اليهود من احتلال ولو شبر واحد من أرض لبنان. فتمركز القاوقجي ورجاله في جبال نابلس، ومحمد زغيب في قطاع المالكية، والضابط المصري احمد عبدالعزيز في جنوب فلسطين بأكثرية مقاتليه المصريين.
وانصرف مكتب فلسطين الى اهتمامات اخرى بعد مسرحية ادخال الجيوش النظامية لتحرير فلسطين، فكان عليه ان يواكب تدفق سيل اللاجئين من فلسطين، فوضعنا اليد على مستشفى الكرنتينا لإيوائهم واسعافهم.
وأمام كارثة تدفق الفلسطينيين على البلدان العربية المجاورة، عقد اجتماع في عمان قبل انعقاد الجامعة العربية في القاهرة، بهدف التشاور والتحضير لمعركة عسكرية نظامية تخوضها الجيوش العربية لانقاذ فلسطين وأهلها واقناع الملك عبدالله باشراك الجيش الاردني فيها، وهو الاكثر تدريباً وقوة في ذلك الوقت.
* يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر، المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب" عن دار النهار للنشر في بيروت الشهر المقبل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.