عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، كانت الولاياتالمتحدة هي التي حسمت نتائجها، سواء في ساحات القتال في مراحلها الأخيرة أو في وضع اللمسات الأخيرة على مصير المهزومين، وعلى شكل النظام الدولي الجديد. أما في افغانستان فقد اختلطت الأوراق، كما اختلط الحق بالباطل، وارتد المجتمع الدولي، على الاقل مسافة قرنين من الزمان، بعدما استبشر الجميع منذ ميثاق روما في تموز يوليو 1997 الذي قرر إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة ووضع لها تشريعاً جنائياً أدرج فيه أحدث جرائم النظام العام الدولي وبعدما وصلت الجرائم الدولية الى مراتب العصور القديمة وهمجية الشعوب السابقة على عصر الحضارات. وأما صور الارتداد فهي لا تقع، كما يبدو، تحت حصر. فمن ناحية، اندفع الجميع وراء واشنطن - من دون وعي - الى ساحة وهدف لا أظن أن أحداً فكر جيداً في حكمة اختيارهما. بل أصبح الاعلان عن الانضمام الى الحملة الاميركية بشارة التطهير الروحي والجهر به وثيقة ولاء الى المعسكر المظفر، لعل مثل هذا الاعلان يدفع بصاحبه الى قائمة الحليف الصدوق، فيلقى جزاءه، او يتوقى من غضبة أميركا وسخطها، ولا يمكن ان نقارن بناء التحالفات في الحرب العالمية الثانية بنظيراتها في الحرب العالمية الثالثة، على الأقل، لأن انصار كل من الحلفاء والمحور كانوا يأملون في تحقيق أهداف كل عضو في معسكره وإن كان الشعار العام للمحور هو تصحيح مظالم تسويات الحرب الاولى ضد المانيا، وإعادة توزيع الموارد السياسية والطبيعية في العالم بما يناسب المكانة الجديدة بالنسبة الى كل من ايطاليا واليابان. أما الحلفاء فكان هدفهم انقاذ الحضارة الاوروبية من بربرية النازية، ولكن البربرية التي اظهرها الحلفاء بعد ذلك لم تقل عن تلك التي ارتكبتها النازية في ساعات الانتصار. اما في افغانستان، فلا أظن ان لأي من الشركاء مصلحة واضحة في المساندة السياسية والعسكرية، سوى أن تحطيم مراكز تنظيم "القاعدة" الذي تنطلق منه مجموعات ارهابية تعمل ضد نظم حكم بترتيب مع واشنطن ضمن سياساتها ازاء هذه النظم، هذ العمل صادف ارتياحاً لدى النظم المستهدفة التي يجب أن تعلم أن هزيمة المخططات الارهابية تحققت فقط لأن الشعوب نفسها تُضرب فانضمت الى حكوماتها في مطاردة الارهاب وكبحه، ولأن هذه الشعوب هي مصدر العناصر الارهابية، وبوسع هذه الشعوب ان تنكر عملها. فالحرب في افغانستان حرب عالمية بين معسكرين: الأول تقوده الولاياتالمتحدة ووراءها العالم كله من دون استثناء، كل يساهم بمقدار ما تحدده واشنطن وفق مخططها. اما المعسكر الآخر فهو الفضاء الافغاني، فتشكل مسرح الابادة التاريخي الذي ساهم فيه العالم كله، وكان الشعب الافغاني هو الضحية وبخاصة حركة "طالبان" التي صنعتها باكستان وساندتها واشنطن نفسها منذ العام 1996 لتحكم افغانستان وهي واثقة بولائها، بدلاً من الفصائل الثمانية ذات الانتماءات المختلفة، التي تعارض واشنطنوباكستان وطالبان، وتدعمها روسيا وايران والهند وغيرها. فالحرب عالمية في أطرافها، محدودة في مسرحها، غامضة في أهدافها بالنسبة الى حلفاء واشنطن، ولكنها عالمية ايضاً بآثارها، اذ اصيب العالم كله اقتصادياً ومعنوياً، ولكن خسارته الكبرى تمثلت في الجانب الاخلاقي. الصورة الثانية لارتداد المجتمع الدولي، انه بينما بلغ أقصى ما يتصوره الانسان من تقدم علمي وتكنولوجي، اختلطت الرؤى لدى شعوبه ودوله. من ناحية، سجلت هذه الحرب أول مفارقة بين موقف الشارع خصوصاً في الغرب، وموقف الحكومات، كما سجلت مظاهر تدهور سلطة القانون والديموقراطية في أهم حصونها وموئلها في الغرب، ما ادى الى تدهور الجهود الدولية التي انتعشت قبل الحرب تدعو الى نشر الديموقراطية وتدافع عن حقوق الانسان. فاذا كانت الحرب العالمية الثانية سجلت من جانبها ابشع انتهاكات لحقوق الانسان، فانتجت اوسع حركة في التاريخ للانتصار لهذه الحقوق والتبشير بعصر الشعوب، فإن الحرب الثالثة كشفت بربرية المجتمع الدولي كله ضد شعب بعينه من دون جريرة، وكأن إبادة الشعب الافغاني، اتعس شعوب الارض، بأحدث أنواع الاسلحة، هو تطهير لمصير البشرية واسترداد لكرامتها المهدرة وتثبيت لخط التقدم فيها نحو آفاق افضل. من ناحية ثانية، تخلت الولاياتالمتحدة عن كل مبادئها، فأباحت الاغتيال والقتل والابادة واستخدام كل الاسلحة المحرمة وضربت اسوأ مثال وشجعت على الفوضى، وكانت أخلص ربائبها اسرائيل أكثر الاطراف اعجاباً بسلوكها والاكثر مهارة في تقليدها في مسرح آخر هو فلسطين حيث تشابهت مأساة شعبي فلسطينوافغانستان، وربطت اسرائيل في الإدراك العام بين الساحتين، بل اعتبرت اعمال الابادة الاسرائيلية امتداداً ل "الجهاد" الاميركي في افغانستان، وقررت اسرائيل رسمياً أن كلا من الشعبين اليهودي والاميركي في خندق واحد، وهما ضحايا الارهاب: الفلسطيني ضد اليهود "العزل الابرياء المستضعفين" والافغاني ضد الولاياتالمتحدة، بل بررت واشنطن عملها صراحة بأنه دفاع شرعي عن النفس بموجب ميثاق الأممالمتحدة، وهو تبرير لا يستحق حتى مجرد تحليله لأنه يمثل استخفافاً بالقانون والمشتغلين به في مختلف العصور. وربما يكون الربط بين افغانستانوفلسطين، وبين عرفات وبن لادن وفق الموقف الاسرائيلي هو أحد أسباب "تفهم" واشنطن لما تقوم به اسرائيل من "جهاد" ايضاً ضد "المعتدين الارهابيين الفلسطينيين". من ناحية ثالثة، سكت العالم كله وهو يستمع الى القادة الاميركيين يقررون ان قتل المحاربين في معسكر طالبان وقتل بن لادن عمداً عمل مشروع. كما استمتع من دون اكثراث الى تصريح وزير الدفاع الاميركي وهو يقول إنه يفضل بن لادن ميتاً وليس حياً، وقد أمر جيشه في الميدان بدك مكان وجودهم. ومعنى ذلك ان واشنطن مسحت بكلمة واحدة قرنين من العمل الشاق لإنشاء قواعد القانون الدولي الانساني الذي وصل في تطوره بفضل الجهود الاميركية الى حد اقتياد ميلوشيفيتش طاغية بلغراد الى ساحات العدالة في لاهاي، مثلما تتعطش عدالة بروكسيل لاستدعاء شارون الى ساحاتها. ومفهوم ان قتل بن لادن، بديلاً عن محاكمته، سيعفي واشنطن من الحرج لأنها لا تملك - في ما يبدو - دليلاً واحداً على إدانته، ولا سبباً واحداً يبرر ارتكابها فصول الابادة ضد شعب افغانستان، ولن تسمح طبعاً بأن تكون الطرف الآخر في محاكمة القرن وتؤثر ان تعيد الزمن قرنين الى الوراء بدل ان يشهد العالم كله ما يدفعه الى رفض المخدر الاميركي والثورة على هذا الطغيان الجديد. من ناحية رابعة، نسي العالم الاسلامي ان كل الفصائل الافغانية كانت تجاهد ضد السوفيات فوحّدها الجهاد، وفرقتها السلطة وقصر النظر وكان حرياً بهؤلاء الابطال ان يكونوا محلاً للتكريم لا للتصفية، وألا يكون حقن دمائهم كثيراً عليهم. فقبل أن يختفي من الساحة وأن تتفرق كلمته، بل قبل ان تسكت دوله على ان يُقتل ابناؤها بدم بارد بعد الهزيمة، بل الأدهى ان تسكت جميع المنظمات الانسانية وغيره على هذه المأساة الفاضحة. من ناحية خامسة، اعتقد بعض الاطراف أنه انضمامه الى الحملة الاميركية بالفعل أو بالقول او بالسكوت يخدم الولاياتالمتحدة ويجاملها أو في أحسن الفروض يدفع المقدم أو العربون اللازم لقاء مقابل مادي او سياسي، وهي تدرك أن الحملة لا علاقة لها بمقاومة الارهاب، بل تدرك من باب أولى أن واشنطن لا تستطيع أن تسدد للجميع استحقاقات المشاركة حتى لو جاء وعدها لهم صريحاً، خصوصاً اذا كانت هذه الوعود بذلت لأطراف متعادية في قضايا حساسة انهمك أطرافها جميعاً في هذه الملحمة الكبرى، وأبرز الأمثلة قضية كشمير بين الهندوباكستان. من ناحية سادسة، أمل العالم العربي بأن مشاركة دوله في الحملة قد تشجع واشنطن على انتهاج مسلك اكثر حزماً مع اسرائيل وعدلاً مع الفلسطينيين، ولكن العالم العربي يدرك أكثر من غيره أن واشنطن لن تقوى على مقاومة اسرائيل أو تجرؤ على اغضابها، ولذلك يجب على الحكومات العربية ألا تندهش من المسلك الاميركي، أو أن ترحب أملاً في موقف أكثر عطاء، ولا يجوز أن تبني حساباتها على اكثر من النيات الحسنة التي أكدتها الادارة الاميركية علناً واختصت بهذا التأكيد بعض الاطراف العربية الاكثر إعزازاً لديها. من ناحية سابعة، أظهرت واشنطن برضاها عن باكستانوالهند ورفع الحظر عنهما بسبب تفجيراتهما النووية أن قضية حظر الانتشار النووي لم تعد لها القداسة الشكلية السابقة ما سيشجع على حيازة هذه الأسلحة، خصوصاً أن تفكك المنظومة الدولية وضياع ملامح أي نظام دولي واضطراب القواعد التقليدية سيغري بمزيد من الفوضى والبلطجة. من ناحية ثامنة، اصبح العالم العربي في وضع أشد بؤساً، فاكتفى بالدفاع عن بقائه بعدما فقد القدرة على الدفاع عن قضاياه، وأصبح مجرد إتهام دولة أو منظمة بأنها مدرجة في قوائم الارهاب كفيل باشاعة الفزع وتوقع الأسوأ واختلال التوازن، في هذا المناخ توحشت اسرائيل وارتفعت صدقية اتهامها للمقاومة الفلسطينية بالارهاب، حتى بات الشك في صحة هذا الاتهام يقتحم مساحة الايمان بشرف المقاومة وحقها المشروع، فتوارت الأصوات المطالبة بمحاكمة المجرمين الاسرائيليين ووضع الجميع ايديهم على قلوبهم، كما تقول العامة، جزعاً من المجهول الذي ترتبه - بلا شك - ايدي الحركة الصهيونية العالمية. وهكذا اصبح شعار مكافحة الارهاب هو خاتم سليمان الذي يفتح مستَغلق الأبواب ويبرر الفتك بالمعارضين، ولا يستبعد أن ترشح واشنطن دولاً أخرى لضربها بحجة أنها تؤوي بن لادن، فاذا فرغت من عملها ولم تعثر عليه، ولن تعثر، أعلنت هربه، وهي تهم في ملاحقته بالذات في الدول التي أعلنت واشنطن حيازتها لأسلحة الدمار الشامل. ومؤدى ذلك أن واشنطن تحارب معركة اسرائيل، فتنشغل كل دولة بما يخطط لها، ولكل منها شأن يغنيه عن متابعة أهوال الابادة في فلسطين، أو المطالبة بالسلام الذي لا تطيقه اسرائيل. من ناحية تاسعة، اذا كانت واشنطن هزمت في فيتنام، فقد هزمت قيم المجتمع الدولي كلها في افغانستان، ومن الشجاعة أن يصارح الجميع اميركا بأن المصلحة العليا للمجتمع الدولي أخطر بكثير من تدليل واشنطن والاستجابة المراوغة لرغباتها، وان يؤكد الجميع أننا بحاجة الى عودة سريعة الى المنطق والقيم والاخلاق وتجنب الانزلاق الى الفوضى والضياع. وأخيراً، فاذا كانت روسيا هزمت في افغانستان وتفككت على اثر الهزيمة الامبراطورية السوفياتية، فقد كان دافع الانضمام الروسي الى الحملة الاميركية الانتقام لهزيمتها السابقة، وحث واشنطن على مرور الحملة على الشيشان، وهي في نظرها من توابع الهزيمة في افغانستان. ولكن افغانستان الاولى التي هزمت روسيا بسبب المساندة الاميركية، لن تمحو اثرها مشاركة روسيا في هزيمة افغانستان الثانية ولن تُبعث روسيا من موتها، وأظهرت التجربتان لروسيا بوضوح أن واشنطن التي تملك موتها تملك ايضاً تحقيق انتقامها وثأرها، ولكنها لن تقدر قطعاً على بعثها من موت لا أظن أن قيامته في المستقبل المنظور. واذا كانت الحرب العالمية الثانية اسفرت عن نظام القطبية الثنائية التي لم تلبث بعد 45 عاماً ان انتهت الى قطب واحد، فإننا لا نستبعد ان يعقب الحرب العالمية الثالثة نظام دولي جديد شعاره مقاومة الارهاب وقطبه رأس الحربة هو الولاياتالمتحدة، ثم لا يلبث أن ينتهي هذا النظام الى فوضى شاملة يختفي في غبارها كل الأقطاب. * كاتب مصري.